بسم الله الرحمن الرحيم
إن المتأمل لتشريع هذا الركن العظيم من أركان الإسلام, والذي أكمل الله به ملة الحنيفية السمحة التي نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم امتداداً لملة إبراهيم ووصلاً لحبل الإيمان الذي أتت به جميع الشرائع فكانت كاللبنة التي اكتمل بها البناء, المتأمل لهذا النسك العظيم ليعجب من اجتماع القلوب والأبدان لشخوص تتميز باختلاف الألسنة والألوان, جمعهم الإيمان وربطهم بحبل الله فتشابهت قلوبهم فاتحدوا في الموقف والملبس والنداء والتوجه, في إعجاز مذهل, فسبحان من وحدهم وجمعهم في موده وترابط وتلاحم.
إن موسم الحج نصر إنساني روحي عظيم بكل المقاييس حيث تعجز كل النظريات والملل المحرفة أن تجمع بين أنصارها ومريديها مثل هذا الجمع.
من تدبر الحج علم عظمة هذا الدين وتدبر حكمة الخالق الحكيم, وعلم أن الإسلام نجح فيما فشلت فيه كل الفلسفات والنظريات الأرضية، ومن تفكر في تهافت القلوب واجتماعها علم أن هذا المنهج لا يكون إلا ممن خلق هذه القلوب ويملك تقليبها وتثبيتها أو زيغها وضلالها، فسبحان من جمع القلوب والأبدان على صعيد واحد في وقت واحد بثوب واحد بلسان واحد (لبيك اللهم لبيك).
ولو تأملنا معاني النصر في القرآن العظيم لعلمنا أن الحج انتصار حقيقي للأمة لما يتضمنه من نصر على أعداء الإنسان الثلاثة الشيطان والنفس والهوى، ففيه دحر للشيطان، وترويض للنفس على الطاعة والانكسار أمام أوامر الله عز وجل التعبدية، والانقياد التام لشرعه، كما يتضمن نزع الهوى وطمئنة القلوب, وفوق هذا إنزال الله تعالى للملائكة تحف أهل الموقف في الحج كما ينزلها لنصر جنده الصالحين في القتال قال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [سورة آل عمران: 126].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّه إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنّ قُلُوبكُمْ بِهِ} أَيْ وَمَا أَنْزَلَ اللَّه الْمَلَائِكَة وَأَعْلَمكُمْ بِإِنْزَالِهِمْ إِلَّا بِشَارَة لَكُمْ وَتَطْيِيبًا لِقُلُوبِكُمْ وَتَطْمِينًا وَإِلَّا فَإِنَّمَا النَّصْر مِنْ عِنْد اللَّه الَّذِي لَوْ شَاءَ لَانْتَصَرَ مِنْ أَعْدَائِهِ بِدُونِكُمْ وَمِنْ غَيْر اِحْتِيَاج إِلَى قِتَالكُمْ لَهُمْ.
ألا يتفق معي عقلاء المسلمين أن حال المسلمين لو استمر على تجمعهم على نداء التوحيد لارتفع شأنهم وسادوا الأمم وانتصروا على من استلموا أكتافهم واستلبوا ديارهم واغتصبوا نساءهم.
إن ميراث المسلمين العقائدي وتراثهم الثقافي وكنزهم الروحي لا تملكه أي أمة من أمم الأرض لذا حري بهم وجدير بتراثهم أن يتزعم كل الفسلفات والنظريات لأنه الحق المطلق وما دونه الباطل ولو تعددت أشكاله وارتدى مسوح الحق, فقد تأتي بعض الفلسفات ببعض مسوح الحق كالحرية والعدالة والمساواة ثم تجد في جوهرها السم الزعاف الذي يحلق الدين والدنيا معاً، وما هلاك الأمم السابقة ببعيد وما الدمار الأخلاقي للكثير من أدعياء الحرية بخاف على ذي لب وذي عقل سليم.
فليكن في الحج منطلق حقيقي لنصر قادم لا نشك فيه وإن تأخر, وليكن في اجتماع الأمة على نداء التوحيد وتعلق القلوب بشعائر الله منطلق عملي للأمة للخروج من كبواتها, والقيام من رقادها, والإفاقة من ركودها وسكونها.
ويكفي الأمة عظة ودرساً من الحج أنه يحقق عملياً قول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران: 103].
ففي الحج يتحقق الاجتماع وانتفاء التفرق كما يتحقق ذكر الله وآلاءه ونعمه, كذا يتحقق تآلف القلوب وتقاربها ونسأل الله أن يختم لأهل الموقف جميعاً بالعتق من النار كما أخبر في الآية {فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}, ففي الحج اعتصام بحبل الله كما افتتح الله تعالى الآية وثمرته عتق من النار كما ختم الله الآية بثمرة الاعتصام بحبله.
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله:
"قَوْله تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّه جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} قِيلَ {بِحَبْلِ اللَّه} أَيْ بِعَهْدِ اللَّه كَمَا قَالَ فِي الْآيَة بَعْدهَا: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّة أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّه وَحَبْل مِنْ النَّاس} أَيْ بِعَهْدٍ وَذِمَّة، وَقِيلَ {بِحَبْلٍ مِنْ اللَّه} يَعْنِي الْقُرْآن كَمَا فِي حَدِيث الْحَارِث الْأَعْوَر عَنْ عَلِيّ مَرْفُوعًا فِي صِفَة الْقُرْآن: «هُوَ حَبْل اللَّه الْمَتِين وَصِرَاطه الْمُسْتَقِيم».
وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيث خَاصّ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَقَالَ الْإِمَام الْحَافِظ أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ: حَدَّثَنَا سَعِيد بْن يَحْيَى الْأُمَوِيّ حَدَّثَنَا أَسْبَاط بْن مُحَمَّد عَنْ عَبْد الْمَلِك بْن سُلَيْمَان الْعَزْرَمِيّ عَنْ عَطِيَّة عَنْ أَبِي سَعِيد قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كِتَاب اللَّه هُوَ حَبْل اللَّه الْمَمْدُود مِنْ السَّمَاء إِلَى الْأَرْض».
وَرَوَى اِبْن مَرْدُوَيه مِنْ طَرِيق إِبْرَاهِيم بْن مُسْلِم الْهَجَرِيّ عَنْ أَبِي الْأَحْوَص عَنْ عَبْد اللَّه رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآن هُوَ حَبْل اللَّه الْمَتِين وَهُوَ النُّور الْمُبِين وَهُوَ الشِّفَاء النَّافِع عِصْمَة لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ وَنَجَاة لِمَنْ اِتَّبَعَهُ»، وَرَوَى مِنْ حَدِيث حُذَيْفَة وَزَيْد بْن أَرْقَم نَحْو ذَلِكَ وَقَالَ وَكِيع حَدَّثَنَا الْأَعْمَش عَنْ أَبِي وَائِل قَالَ: قَالَ عَبْد اللَّه: "إِنَّ هَذَا الصِّرَاط مُحْتَضَر يَحْضُرهُ الشَّيَاطِين: يَا أَبَا عَبْد اللَّه هَذَا الطَّرِيق هَلُمَّ إِلَى الطَّرِيق فَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّه فَإِنَّ حَبْل اللَّه الْقُرْآن".
وَقَوْله: {وَلَا تَفَرَّقُوا} أَمَرَهُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَنَهَاهُمْ عَنْ التَّفْرِقَة. وَقَدْ وَرَدَتْ الْأَحَادِيث الْمُتَعَدِّدَة بِالنَّهْيِ عَنْ التَّفَرُّق وَالْأَمْر بِالِاجْتِمَاعِ وَالِائْتِلَاف كَمَا فِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث سُهَيْل بْن أَبِي صَالِح عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّه يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَسْخَط لَكُمْ ثَلَاثًا يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّه جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّه أَمْرَكُمْ وَيَسْخَط لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَة السُّؤَال وَإِضَاعَة الْمَال»، وَقَدْ ضَمِنْت لَهُمْ الْعِصْمَة عِنْد اِتِّفَاقهمْ مِنْ الْخَطَأ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيث الْمُتَعَدِّدَة أَيْضًا. وَخِيفَ عَلَيْهِمْ الِافْتِرَاق وَالِاخْتِلَاف فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأُمَّة فَافْتَرَقُوا عَلَى ثَلَاث وَسَبْعِينَ فِرْقَة مِنْهَا فِرْقَة نَاجِيَة إِلَى الْجَنَّة وَمُسْلِمَة مِنْ عَذَاب النَّار وَهُمْ الَّذِينَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه.
وَقَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَة اللَّه عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْن قُلُوبكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} إِلَى آخِر الْآيَة، وَهَذَا السِّيَاق فِي شَأْن الْأَوْس وَالْخَزْرَج فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ بَيْنهمْ حُرُوب كَثِيرَة فِي الْجَاهِلِيّة وَعَدَاوَة شَدِيدَة وَضَغَائِن وَإِحَن وَذُحُول طَالَ بِسَبَبِهَا قِتَالهمْ وَالْوَقَائِع بَيْنهمْ فَلَمَّا جَاءَ اللَّه بِالْإِسْلَامِ فَدَخَلَ فِيهِ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ صَارُوا إِخْوَانًا مُتَحَابِّينَ بِجَلَالِ اللَّه مُتَوَاصِلِينَ فِي ذَات اللَّه مُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْبِرّ وَالتَّقْوَى، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [سورة الأنفال: 62-63] إِلَى آخِر الْآيَة، وَكَانُوا عَلَى شَفَا حُفْرَة مِنْ النَّار بِسَبَبِ كُفْرهمْ فَأَنْقَذَهُمْ اللَّه مِنْهَا أَنْ هَدَاهُمْ لِلْإِيمَانِ. أ هـ .
وأخيراً: أسأل الله أن يجعل الحج بداية لنصر الأمة وعودتها من جديد لقيادة الأمم وأن يمن على الحجيج بالقبول والعتق والعودة إلى ديارهم سالمين آمنين.