بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المنعم على عباده بمواسم الخيرات ، المتفضل عليهم بجزيل العطايا والهبات ، أحمده سبحانه وقد وعد الشاكرين بمزيد من الخير والبركات ، وأصلي وأسلم على سيد الخلق وأشرف البريات نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين أما بعد /
يا عباد الله / لقد أقبل عليكم موسمٌ عظيم وخيرٌ عميم ، فبعد أن رحل عنكم شهر الصيام والقيام وودعتموه بالدموع والآلآم ، جاء موعدكم مع الحج إلى بيت الله الحرام ، إنها فرصٌ عظيمة لمن أراد التزود من الباقيات الصالحات قال تعالى{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (46) سورة الكهف ويقول نبيكم صلى الله عليه وسلم ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه )(1) فهل بعد هذا يتأخر ويتوانا من أراد السلامة والفوز في الدار الآخرة وقال عليه الصلاة والسلام ( تابعوا ) وفي لفظ ( أديموا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ) (2) وقال عليه الصلاة والسلام ( والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة ) (3) فأين المشمرون الجادون في طلب الجنة
يا سلعة الرحمن لست رخيصةً --- بل أنت غاليةٌ على الكسلان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها --- في الألف إلا واحدٌ لا اثنان
يا سلعة الرحمن أين المشتري --- فلقد عرضت بأيسر الأثمان
عباد الله إن الحج إلى بيت الله الحرام ركنٌ من أركان الدين ودعامةٌ من دعائمه العظام قال تعالى { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } (97) سورة آل عمران أي فرض على الناس وأوجب عليهم أن يحجوا إلى بيته الحرام من استطاع إليه سبيلا وفسر السبيل بالزاد والراحلة فمن كان عنده ما يوصله إلى بيت الله ذهاباً وإياباً ويكفي أهله حتى يرجع إليهم فقد وجب عليه الحج ، وقال تعالى لخليله إبراهيم عليه السلام {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (27) سورة الحـج أي أخبرهم بوجوب الحج عليهم فقال إبراهيم عليه السلام ومن يسمع صوتي يا رب فقال الله عز وجل له يا إبراهيم عليك النداء وعلينا البلاغ فلما نادى سمعه من بأقصى الأرض كما يسمعه من بأدناها وقذف الله في قلوبهم حبَّ هذا البيت وتعظيمه والشوق لزيارته فجاءوا كما أخبر الله عز وجل رجالاً يمشون على أقدامهم أو على الإبل المضمرة وهي التي تحبس عن الأكل حتى تضمر بطونها فتكون أخف وأسرع في المشي وأقدر عليه فركبوا المطايا وأقبلوا من كل فجٍ عميق قاصدين بيت الله الحرام مهلين بالتوحيد ( لبيك اللهم لبيك ) أي استجبنا لك يا ربنا حين دعانا خليلك عليه السلام لزيارة بيتك المحرم ، واستمر الناس يحجون إلى بيت الله الحرام قروناً طويلة على ملة إبراهيم عليه السلام حتى بعدوا عن عهد الرسالة وكثر فيهم الجهل وعم وانتشر وظهرت البدع فما كان من عمرو بن لحي لعنه الله إلا أن جلب الأصنام التي أعجب بها من أرض فارس وأدخلها إلى جزيرة العرب وأمر الناس بعبادتها لأنه كان سيداً مطاعاً فكان أول من بدل دين إبراهيم ، ولذا رآه النبي صلى الله عليه وسلم في النار يجر قصبه وأمعاءه لأنه أول من أمر الناس بالشرك في جزيرة العرب وهكذا انتشر الشرك في جزيرة العرب وحرِّفت العبادات فكانت صلاتهم عند البيت تصفيراً وتصفيقاً كما قال تعالى {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } (35) سورة الأنفال وفسر المكاء بالصفير والتصدية بالتصفيق ، وكانوا ربما طافوا بالبيت عراةً رجالاً ونساء وكانت المرأة تضع يدها على فرجها وتقول :
( اليوم يبدوا بعضه أو كله --- وما بدا منه فإني لا أحله )
وكانت تلبيتهم بالشرك فيقولون ( لبيك لا شريك لك إلا شريكاً تملكه وما ملك ) وبقي منهم قلة على الحنيفية ملة إبراهيم منهم زيد بن نفيل أبو سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة ومنهم قس بن ساعدة الإيادي وغيرهم وكانوا ينهون الناس عن الشرك ويأمرون بالتوحيد ولكنهم لم يجدوا آذاناً صاغية ولا قلوباً واعية ، ولما أراد المولى جل وعلا أن يطهر بيته من درن المشركين وأهل الضلالة المفسدين بعث خير النبيين محمد بن عبد الله الهادي الأمين إمام المرسلين وسيد ولد آدم أجمعين فنصر به الدين ورفع ذكره في العالمين وهزم به جحافل الشرك والمفسدين وجعل دينه باقياً إلى يوم الدين ، وفرض الله الحج على عباده في السنة التاسعة من الهجرة النبوية المباركة فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكرٍ الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما إلى الحج في تلك السنة ليقرآن على الناس سورة براءة (( براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهرٍ واعلموا أنكم غير معجزي اللهِ وأن اللهَ مخزي الكافرين وأذانٌ من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريءٌ من المشركين ورسُولُهُ )) وليعلنان في ذلك الموقف العظيم أمام الملأ أنه يمنع على المشركين دخول مكة وأنه لا يحج بعد ذلك العام مشركٌ ولا عريان ليكون نهايةً لدولة الشرك وإيذاناً بسقوطها وانهزامها وزوالها واندحارها أمام قوى الحق والعدالة والإيمان والطاعة فكان نصراً مؤزراً للإسلام وأهله وذلاً وهزيمةً للكفر وأهله ، فلما طهر الله بيته من أدران أهل الشرك والطغيان أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم بالحج فنادى المنادي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يحج وكان ذاك في السنة العاشرة من الهجرة فاجتمع الناس من كل مكان وتوافدوا يريدون أن يصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لينطلقوا معه للحج ليقتدوا به صلى الله عليه وسلم ، وبلغوا أكثر من مائة ألف في موقف لم يشهد له مثيل في جوٍ من الإيمان والمحبة والوئام فنعمت الصحبة تلك الصحبة ونعمت الحجة تلك الحجة فظفروا بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم والحج معه وكان يعلمهم مناسكهم ويقول ( خذوا عني مناسككم ) فأخذوها كما هي ووعوها حق الوعي وفهموها حق الفهم وطبقوها في حياتهم وبلغوها لمن بعدهم فجزاهم الله خير الجزاء .
ولقد حث النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين أن يتعجلوا إلى الحج ولا يتأخروا فقال ( تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له )(4) وفي رواية ( فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة ) (5) فمن أخره بعد استطاعته لغير عذر فإنه يأثم ويجب الحج من تركته إن مات ولم يحج ، بل قد روي فيه الوعيد الشديد فقد روي عن عليٍ رضي الله عنه مرفوعا ( من ملك زاداً وراحلةً تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً ) (6) وقال عمربن الخطاب رضي الله عنه : لقد هممت أن أبعث في الأمصار من كانت عنده جدةٌ ( أي استطاعة ) ولم يحج فليضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين ماهم بمسلمين (7)0 فالأمر خطيرٌ يا عباد الله فليحذر الإنسان من التسويف والتأخير وليبادر ما دام مستطيعاً فإنه قد يؤخر للمستقبل ثم لايستطيع بعد ذلك إما أصيب بمرضٍ أوحادثٍ أقعده لا قدر الله فيشق عليه الحج بعد ذلك ، وإنما الحج مرةً واحدةً في العمر وما زاد فهو تطوع لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( الحج مرةً فما زاد فهو تطوع ) (8) وقال ( أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا ) فقال رجلٌ : أكل عامٍ يا رسول الله ؟ فقال : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ) (9) ولكن ليستشعر المؤمن أنه يؤدي ركناً من أركان الدين لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( بني الإسلام على خمس ) وذكر منها ( وحج بيت الله الحرام ) (10) وليعلم أنه إن حج مريداً وجه الله فلم يرفث بارتكاب ما يفسد حجه كالجماع ونحوه ولم يفسق أي يخرج عن طاعة ربه بارتكاب كبائر الذنوب رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه نقياً طاهراً من الذنوب وليس له جزاءٌ بعد ذلك إلا الجنة كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فهل بعد هذا يتردد المؤمن في المبادرة إلى الحج فليتجهز من الآن وليعزم النية الصادقة على الحج وليعلم أنما هي أيامٌ معدودات يتفرغ فيها لعبادة ربه جل وعلا فإنه إنما خلق أصلاً للعبادة كما قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات ولكننا شغلنا عما خلقنا لأجله بما تكفل لنا به وهو الرزق فالله المستعان .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وسلام على المرسلين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتبه
أخوكم / سرحان بن غزاي العتيبي
sarhangzai@hotmail.com
-------------------------------------
1-متفق عليه
2- رواه أحمد والترمذي والنسائي وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم ( 2901 )
3- متفق عليه
4- رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم ( 2957 )
5- حسنه الألباني في إرواء الغليل فقال ضعيف لكن لعله يرتقي إلى درجة الحسن بالطريق الأولى
6- رواه الترمذي وضعفه الألباني في ضعيف الجامع حديث رقم ( 5860 )
7-ذكره في المنتقى ونسبه إلى سنن سعيد بن منصور
8- رواه أبو داود وصححه الألباني
9- رواه مسلم
10- متفق عليه