بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله سبحانه وتعالى : " وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ " .
الآية الكريمة دالة على وجوب الحج ، وقد جاءت الأحاديث الكثيرة بأن الحج أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده ولقد أجمع المسلمون على ذلك إجماعاً ضرورياً . ووجوبه على المكلف فى العمر مرة بالنص والإجماع . ولقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال : " أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ، ثم قال : ذرونى ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم وإذا أمرتكم بشىء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شىء فدعوه . ثم قال : الحج مرة فمن زاد فهو تطوع " (1) .
وإن الأخطاء التى يقع الناس فيها فى الحج كثيرة جداً تفوق الحصر يرجع كلها إلى الجهل بأحكامه .
من أول هذه الأخطاء وأهمها أن يؤجل المكلف الحج حتى يطعن فى السن ويضعف البدن فيصعب عليه أداء المناسك ويحاول تتبع الرخص مع أن النبى صلى الله عليه وسلم سماه جهاداً . فعن عائشة رضى الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد ؟ فقال : " لكن أفضل الجهاد حج مبرور " (2) فكيف يؤجل القوى الفتى هذا الجهاد حتى يضعف . وإن ذلك التأجيل إنما يحدث حيث يظن الرجل أن الحج لا يجب عليه إلا بعد أن يفعل كذا وكذا من أمور دنياه ويجعل له ترتيباً فى ذهنه ليس له أصل فى شرع ولا دين ، وذلك يدل على أمور أخطأ الفهم فيها :
أولها : أن يخاف ألا يرزقه الله بمال يعلم به ولده أو يزوج به ابنته أو يقيم به بعض شأنه إن هو أنفق هذا المال فى الحج مع أن حديث ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفى الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة جزاء إلا الجنة " (3) ، ولا شك أن هذا الفهم متابعة للشيطان فى وسوسته ومجانبة للحكمة فى التصرف فى المال وظن سيئ بالله سبحانه فتدبر قوله سبحانه : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ " فأى باب أطيب من الإنفاق فى أداء فريضة الله فى الحج فهل يتعظ أولو الألباب ولا يتابعوا الشيطان يخوفهم الفقر ، ألا يجدوا ما ينفقون فى تعلم أو زواج إذا أنفق فى الحج .
فالعجب لمن يؤمن بالله رزقاً ثم يخاف إن أنفق ماله فى فرائض الله أن يبخل عليه الله بالمال ينفقه فيما أحل الله .
والأمر الآخر الذى أخطأ فيه الفهم هو فى قوله تعالى : " مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا " فلا يجعل من نفسه مستطيعاً لأمور ليست من الاستطاعة فى شىء .
يقول صاحب محاسن التأويل : فعلى كل مستطيع الحج يجد إليه السبيل بأى وجه كانت الاستطاعة ، الحج . على ظاهر الآية .
قال : وروينا عن عكرمة أنه قال : الاستطاعة : الصحة . وقال الضحاك : إذا كان شاباً صحيحاً ليس له مال فليؤجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضى نُسكه . فقال له قائل : أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت ؟ فقال : لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه ؟ قال : لا بل ينطلق إليه ولو حبواً ، قال : فكذلك يجب عليه حج البيت .
وقال مالك : الاستطاعة على إطاقة الناس ، الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على المشى . وآخر يقدر على المشى على رجليه . وقالت طائفة : الاستطاعة الزاد والراحلة .
ويقول القاسمى أيضاً فى قوله تعالى : " وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ " هذه الآية الكريمة حازت فنون الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج والتشديد على تاركه ما لا مزيد عليه . فمنها : الإتيان بـ ( اللام وعلى ) فى قوله : " وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ " يعنى أنه حق واجب لله فى رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته . ومنها : أنه ذكر " النَّاسِ" ثم أبدل عنه " مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا " وفيه ضربان من التأكيد . أحدهما : أن الإبدال تثنية المراد وتكرير له . والثانى : إن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له فى صورتين مختلفتين .
ومنها : قوله : " وَمَنْ كَفَرَ" مكان من لم يحج تغليظاً على تارك الحج ، ومنها : ذكر الاستغناء عنه وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان ، ومنها : قوله : " عَنِ الْعَالَمِينَ " ولم يقل عنه . وما فيها من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ولأنه يدل على الاستغناء الكامل فكان أدل على عظم السخط الذى وقع . انتهى .
وأفعال الحج من الإحرام والطواف والسعى ورمى الجمار والوقوف بعرفة ومزدلفة من الأفعال ما ينبئ عن امتثال العبد لأوامر سيده وإن لم يفهم المقصود من هذه الأوامر إنما يتعين عليه الامتثال ويلزمه الانقياد من غير سؤال عن المقصود ولا طلب الفائدة والمعنى من هذه الأفعال لذا كان من تلبيته صلى الله عليه وسلم ( لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً لبيك إله الحق).
ويقول رب العزة سبحانه : " الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ " يقول السعدى فى تفسيره : يجب أن تعظموا الإحرام بالحج وخصوصاً الواقع فى أشهره وتصونوه من ل ما يفسده أو ينقصه من الرفث وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية خصوصاً عند النساء وبحضرتهن ، والفسوق وهو : جميع المعاصى ومنها محظورات الإحرام والجدال وهو المماراة والمنازعة والمخاصمة لكونها تثير الشر وتوقع العداوة . والمقصود من الحج الذل والانكسار لله والتقرب إليه بما أمكن من القربات والتنزه عن مقارفة السيئات فإنه بذلك يكون مبروراً . والمبرور ليس له جزاء إلا الجنة . وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة فى كل مكان وزمان فإنه يتغلظ المنع عنها فى الحج .
واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصى حتى يفعل الأوامر .. ( ثم يقول أيضاً ) : أمر الله تعالى بالتزود لهذا السفر المبارك فإن التزود فيه الاستغناء عن المخلوقين والكف عن أموالهم سؤالاً واستشراقاً وفى الإكثار منه نفع وإعانة للمسافرين وزيادة قربة لرب العالمين وهذا الزاد الذى المراد منه إقامة البنية بلغة ومتاع . وأما الزاد الحقيقى المستمر نفعه لصاحبه فى دنياه وأخراه فهو زاد التقوى الذى هو زاد دار القرار والموصل لأكمل لذة وأجل نعيم دائماً وأبداً . انتهى .
وبهذا يلتقى الحج مع سائر العبادات فى أنه زاد يتقى به العبد سخط ربه وناره ويطمع فى جنته التى أعدها للمتقين ، فهذه أيام الحج وأشهره واستعداد الناس للخروج إليه فسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين . اللهم هيئ لنا حج بيتك الكريم وتقبل منا ومن سائر المسلمين وارفع عنا الآثام والذنوب وتقبل منا واقبلنا يا رب العالمين إنك على كل شىء قدير ، والله من وراء القصد .
------------
(1) أخرجه مسلم والنسائى وأحمد وغيرهم من حديث أبى هريرة ، وله شواهد من حديث أبن عباس وعلى وأنس بن مالك ، انظرها فى الإرواء ( رقم 980 ) .
(2) أخرجه البخارى فى صحيحه ( رقم 1520 ) كتاب الحج ، باب فضل الحج المبرور .
(3) صحيح . أخرجه الترمذى والنسائى وأحمد والطبرى وابن حبان وغيرهم من حديث ابن مسعود وسنده حسن ، وله شواهد من حديث ابن عباس وجابر بن عبد الله وعمر بن الخطاب وابنه عبد الله بن عمر ، وانظر الصحيحة ( رقم 1200 ) ، والإرواء ( رقم 2524 ) .
الافتتاحية
فريضة الله في الحج
بقلم الرئيس العام / محمد صفوت نور الدين
( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) [ آل عمران : 97] .
الآية نص على وجوب الحج ، والأحاديث الكثيرة تدل على أن الحج أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده ، وقد أجمع المسلمون على ذلك إجماعًا ضروريًا ، وإن وجوبه على المكلف في العمر مرة بالنص والإجماع .
ولقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال : ( أيها الناس ، قد فُرض عليكم الحج فحجوا) ، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت ، حتى قالها ثلاثًا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لو قلت : نعم لوجبت ، ولما استطعتم) ، ثم قال : (ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) . ثم قال : (الحج مرة ، فمن زاد فهو تطوع) .
وإن الأخطاء التي يقع الناس فيها في الحج كثيرة جدًا تفوق الحصر ، يرجع كلها إلى الجهل بأحكامه ، ومن أول هذه الأخطاء وأهمها ؛ أن يؤجل المكلف الحج حتى يطعن في السن ويضعف ، ويكون ذلك سببًا في صعوبات كثيرة على الناس ، وسببًا لتتبع الرخص والبحث عنها لكثرة الضعفاء ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه جهادًا.
فعن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قلت : يا رسول الله ، نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد ؟ فقال : (ولكن أفضل الجهاد حج مبرور) ، فكيف يؤجل القوي الفتي الجهاد حتى يضعف ؟!
وإن ذلك التأجيل إنما يحدث ، حيث يظن الرجل أن الحج لا يجب عليه إلا بعد أن يفعل كذا وكذا من أمور دنياه ويجعل له ترتيبًا في ذهنه ليس له أصل في شرع ولا دين ، وذلك يدل على أخطاء :
أولها : أنه يخاف ألا يرزقه بمال يُعلم به الولد ، أو يزوج به نفسه أو ابنته ، أو يقيم به شأنه إن هو أنفق هذا المال في الحج ، مع أن حديث ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (تابعوا بين الحج والعمرة ، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب ، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ، وليس للحجة المبرورة جزاء إلا الجنة) .
ولا شك أن هذا الفهم متابعة للشيطان في وسوسته وبُعد عن الحكمة في التصرف في المال وظن سيئ في حق الله سبحانه ، فتدبر قول الله سبحانه وتعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ(267)الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(268)يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ(269)وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار ) [ البقرة : 267 - 270] .
فأي باب أطيب من فريضة الله في الحج ينفق فيه ، فهل يتعظ أولو الألباب ، ولا يتابعوا الشيطان في خوف العيلة والفقر ألا يجد ما ينفقه في تعلم أو زواج إذا أنفق في الحج .
فالعجب لمن يؤمن بالله رزاقًا كيف يخاف إن أنفق ماله في فرائض الله ، يخاف أن يبخل الله عليه بالمال لينفقه فيما أحل الله .
ثانيًا : سوء فهم قوله تعالى : ( مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ) [ آل عمران : 97] ، فلا يجعل من نفسه مستطيعًا لأمور ليست من الاستطاعة في شيء .
فيقول القاسمي في (محاسن التأويل) : فعلى كل مستطيع للحج يجد إليه السبيل بأي وجه كانت الاستطاعة ، الحج على ظاهر الآية ، قال : وروينا عن عكرمة أنه قال : الاستطاعة ؛ الصحة .
وقال الضحاك : إذا كان شابًا صحيحًا ليس له مال فليؤجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي نسكه ، فقال له قائل : أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت ؟ فقال : لو لكان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه ؟ قال : لا ، بل ينطلق إليه ولو حبوًا ، قال : فكذلك يجب عليه حج البيت .
وقال مالك : الاستطاعة على إطاقة الناس ، الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على المشي ، وآخر يقدر على المشي على رجليه ، وقالت طائفة : الاستطاعة : الزاد والراحلة .
ويقول القاسمي أيضًا في قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) : هذه الآية الكريمة حازت فنون الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج والتشديد على تاركه ما لا مزيد عليه ، فمنها الإتيان بـ (اللام وعلى) ، في قوله : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) يعني أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته ، ومنها أنه ذكر (الناس) ، ثم أبدل عنه : ( مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ) ، وفيه ضربان من التأكيد ، أحدهما : أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له ، والثاني : أن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين ، ومنها قوله : (ومن كفر) مكان من لم يحج تغليظًا على تارك الحج ، ومنها ذكر الاستغناء عنه ، وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان ، ومنها قوله (عن العالمين) ، ولم يقل : عنه ، وما فيها من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ؛ لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ؛ ولأنه يدل على الاستغناء الكامل ، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع . (انتهى) .
وأفعال الحج من الإحرام والطواف والسعي ورمي الجمار والوقوف بعرفة ومزدلفة من الأفعال التي تنبئ على امتثال العبد لأوامر سيده ، وإن لم يفهم المقصود من هذه الأوامر ، إنما يتعين عليه الامتثال ، ويلزمه الانقياد من غير سؤال عن المقصود ولا طلب الفائدة ، والمعنى من هذه الأفعال ؛ لذا كان تلبيته صلى الله عليه وسلم أحيانًا : (لبيك حقًا حقًا ، تعبدًا ورقًا ، لبيك إله الحق) .
ويقول رب العزة سبحانه : ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ ) [ البقرة : 197] .
يقول السعدي في تفسيره : يجب أن تعظموا الإحرام بالحج ، وخصوصًا الواقع في أشهره وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه من الرفث ، وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية ، خصوصًا عند النساء وبحضرتهن .
والفسوق وهو : جميع المعاصي ، ومنها محظورات الإحرام ، والجدال وهو المماراة والمنازعة والمخاصمة ؛ لكونها تثير الشر وتوقع العداوة ، والمقصود من الحج الذل والانكسار لله ، والتقرب إليه بما أمكن من القربات والتنزه عن مقارفة السيئات ، فإنه بذلك يكون مبرورًا ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان ، فإنه يتغلظ المنع عنها في الحج ، واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الأوامر ، ثم يقول أيضًا : أمر الله تعالى بالتزود لهذا السفر المبارك ، فإن التزود فيه الاستغناء عن المخلوقين والكف عن أموالهم سؤالاً واستشرافًا ، وفي الإكثار منه نفع وإعانة للمسافرين وزيادة قربة لرب العالمين ، وهذا الزاد الذي المراد منه إقامة البنية بلغة ومتاع .
وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه في دنياه وأخراه فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار ، وهو الموصل لأكمل لذة وأجل نعيم دائمًا أبدًا .
ومن قول الأعشى :
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله
وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
وقال غيره :
يا نفس إني قائل فاسمعي
مقالة من مشفق ناصح
لا يصحب الإنسان في قبره
غير التقى والعمل الصالح
وبهذا يلتقي الحج مع سائر العبادات في أن يكون زادًا يتقي به العبد سخط الله وناره ، ويطمع بأدائه في جنة قال الله عنها : ( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) [ آل عمران : 133] ، فهذه أيام الحج وأشهره ، واستعداد الناس للخروج إليه : ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) [ آل عمران : 133] .
اللهم هيأ لنا حج بيتك الكريم ، وتقبل منا ومن سائر المسلمين ، وارفع عنا الآثام والذنوب ، وتقبل منا واقبلنا يا رب العالمين ، إنك على كل شيء قدير . والله من وراء القصد .