اخواني وأخواتي الأحبة :
هذه دعوة أوجهها إلى كل المتخاصمين لكي يصلحوا ما بينهم " والصلح خير " النساء 128 ولكي ينتزعوا ما في قلوبهم من شحناء وبغضاء وغل ، وأن يزرعوا بدلاً منها المودة والرحمة والمحبة والتسامح . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحَلُّ لمسُلمٍ ، أنْ يَهجُرَ أخَاهُ فوقَ ثلاثِ ليالٍ، يلتَقِيان فيَعُرِضُ هذا ويُعرِضُ هذا،وخَيرُهُمَا الذىيبَدأُ بالسَّلامِ ".رواه مسلم . يهجر: يقاطع ، فيعرض ( بوجهه وينصرف )، خيرهما : أفضلهما وأكثرهما ثوابا . قال ابن عبد البر ،رحمه الله : قيل للإعراض مُدابرة لأن من أبغضَ أعرضَ ومن أعرض ولى دبره والمحب بالعكس . وقال صلى الله عليه وسلم: "سِبَابُ المسْلِم فُسُوقٌ وقِتَالهُ ُكُفْرٌ" رواه البخاري ومسلم.
لذلك أخي الكريم بادر بالصلح واعلم أن :
- خَيرُ المُتَخَاصِميَن هُو الذي يَبدأُ بالسَّلامِ ،كما أخبرَ بذلكَ صلى الله عليه وسلم "وخَيرُهُمَا الذي يبَدأُ بالسَّلامِ " .
- من مكارم الأخلاق : أن تَعْفُو عن منْ ظلَمَكَ وتُعطِي من حَرَمكَ وتَصِلَ من قَطَعَكَ. لما نزلت هذه الآية " خُذ العَفوَ وأمُرْ بالعُرِفِ وأعْرِضْ عن الجَاهِلِينَ " الأعراف: 199، قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل : ما هذا يا جبريل ؟ فقال جبريل : إنَّ الله يأمُرُكَ أن تَعْفُو عن منْ ظلَمَكَ وتُعطِي من حَرَمكَ وتَصِلَ من قَطَعَكَ .رواه بن جرير
- إنَّ اللهَ تعالى عَفوٌ كريمٌ يُحِبُّ العَفوَ . عن عائشةَ رضي الله عنها قالت : قُلت يا رسول الله أرأيتَ إن علمتُ أي ليلةٍ ليلةُ القدر ما أقُول فيها ؟ قالَ : " قُولي اللهُمَّ إنَّكَ عَفوٌ تحبُ العَفوَ فاعْفُ عنِّي .رواه الترمذي.
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم :" اللهُمَّ إنَّكَ عَفوٌ كريم ٌتحبُّ العَفوَ فاعْفُ عنِّي " .رواه الترمذي.
- ألا تحبُ أن تكونَ من أحبابِ اللهِ ورسوله ؟ قال الأعرابيُ : أحبُ أن أكونَ من أحبابِ اللهِ ورسولهِ .فقال صلى الله عليه وسلم أحبَّ ما أحبّهُ اللهُ ورسولهُ تكنْ مِنْ أحبابهم . واللهُ تَعالى يُحِبُّ العافينَ عن الناسِ وكَذا رَسُولُهُ.
- بعَفوِكَ عن أخِيكَ يَعفُو الله ُعَنكَ ويَغفِرُ لكَ . قال صلى الله عليه وسلم " ارحموا تُرحموا ، واغفروا يُغفر لكم "رواه أحمد .
- يغفر الله سبحانه وتعالى لجميع المؤمنين في ليلة القدر، وليلة النصف من شعبان ويومي الاثنين والخميس إلا للمتخاصمين حتى يصطلحا، فلا تحرم نفسك من مواسم المغفرة . قال صلى الله عليه وسلم " تُعرضُ الأعمالُ في كلِ يوم إثنين وخميس، فيغفِرُ اللهُ في ذلكَ اليوم لكل امرئ لا يُشرِكُ باللهِ شَيئاً إلا امرءا كانتْ بَينَهُ وبينَ أخَيهِ شَحناء فيقولُ اتْرُكوا هذين حتى يَصطَلِحَا" رواه مسلم .
- إن أعظم حسنة عند الله سبحانه وتعالى هي حسنُ الخلق والتواضع والصبر على البلاء، واعلم أنه لن يزداد الذنب عظماً إلا ازداد العفو فضلاً ، ويأتي الأجر على قدر المشقة. قال صلى الله عليه وسلم " من تَركَ شيئاً للهِ عَوَّضَهُ اللهُ خَيراً مِنْهُ .
- المبادر بالصلح والعفو هو الأقوى لأن المبادر متسامح ، والتسامح سمة الأقوياء . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما نقصتْ صدقةٌ من مالٍ ، وما زادَ اللهُ عبداً بعفوٍ إلا عزاً ، وما تواضعَ أحدٌ لله إلا رَفَعَهُ " رواه مسلم .
- لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هيناً ليناً سَمْحاً ، يعفُو عن المُسيئين ويَصْفحُ صَفْحاً جميلاً لا عتابَ فيه ، وما انتَصَرَ لنَفسِه قَط .عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: ما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مُنتَصِراً من مَظْلَمة ٍظُلِمها قَط ما لم تُنتَهك مَحارمُ اللهِ ، فإذا انتُهِكَ مِنْ محارمِ اللهِ شئٌ كانَ أشدَّهُم في ذلكَ غَضَباً " الترمذي وكان هذا الخلق حتى مع الكافرين ، ولعلك تذكر قولته المشهورة لكفار قريش في يوم الفتح (( يا مَعشرَ قريشٍ ما تظُّنُونَ أنِّي فاعلٌ بكم ؟)) قالوا: خيرا، أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ ، قالَ: "فإني أقولُ لكم ما قالَ يُوسُف لاخوته " لا تَثرِيبَ عَليكُم اليوم " يوسف 92 " اذهبُوا فأنُتم الطُّلقَاء ".
- روى البخاري في صحيحه أنَّ رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصِني قال: لا تَغْضَب ، فردَّدَ مِرارا قالَ : لا تَغْضْب .بمعنى أنه إذا حصل لك الغضب فلا تعمل بما تحدثك به نفسك في وقت الغضب ، بل جاهدها في ترك ذلك . قال صلى الله عليه وسلم " ليسَ الشديدُ بالصُرعةِ، إنما الشديدُ الذي يَملكُ نَفْسَهُ عندَ الغَضَب " متفق عليه.
-اصبر على أذى الناس واعف عنهم واحتسب الأجر عند الله تعالى" وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مِثُلها فمن عَفا وأصْلَحَ فأجْرُهُ على الله إنَّهُ لا يحُبُّ الظَّالمين" 40 الشورى . وإن كان يحق لنا أن نعاقب بالمثل إلا أن الله سبحانه وتعالى جعل العفو والصبر خير من ذلك " وإنْ عاقَبتُم فَعاقِبُوا بِمثلِ ما عُوقِبتُم بِه ولئنْ صَبرتُم لَهُو خَيرٌ للصَّابِرين " النحل : 126
فإن صبرت وعفوت وأحسنت فتأمل فيما ورد عن جزاء ومكانة المحسنين من الله سبحانه وتعالى :
- معية الله سبحانه وتعالى للمحسنين " واللهُ مع المحسنين " .
- محبة الله سبحانه وتعالى للمحسنين " " واللهُ يحب المحسنين " 143آل عمران.
- ُقربُ المحسنين من رحمة الله سبحانه وتعالى " إنَّ رَحمَت اللهِ قَريبٌ مِن المُحْسِنينَ " 56 الأعراف .
- قال على رضي الله عنه وكرم الله وجهه :إذا كان في رجل خَلَّة رائعة فانتظر أخواتها . فعليك أن تعود نفسك على كتم الغيظ والعفو عن الناس والإحسان إلى المسيء ، وعليك أن تعود نفسك شيئاً فشيئاً ، فإن الأمر لا يأتي دفعة واحدة ، بل هو من تعويد النفس على ذلك مرات ومرات حتى تصل إلى مرتبة المحسنين . قال صلى الله عليه وسلم "....ومن يتصبر يصبرّه الله، وما أُعطي أحد عطاءً خيراَ وأوسع من الصبر " متفق عليه .
ومن المؤمنين رجالٌ بلغوا في الإحسان درجاتٍ عظيمةٍ فهم لا يقتصرون على دفع الإساءة بالعفو فحسب بل يزيدون فوق ذلك الإحسانُ إلى المسيء ، وهؤلاء هم أصحاب اليد البيضاء ، وهم أصحاب الفضل العظيم ،لأنهم يتبعون هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتفعت وسمت أخلاقهم ، فعفوا عمن ظلمهم وأعطوا من حرمهم ووصلوا من قطعهم وأحسنوا إلى من أساء إليهم ‘ فانقلب عدوهم صديقاً حميماً وغَنِمُوا بمحبة الله ومعيته وأجره ومغفرته وعفوه وقربه ." ادفَع بالتي هِي أحْسَنُ فإِذَا الذِي بَينكَ وبَينُه عَدَاوةٌ كَأنَّهُ وَليٌ حَمِيمٌ ، ومَا يُلقَّاهَا إلا الذينَ صَبرُوا ، وما يُلقَّاهَا إلا ذُو حَظٍّ عَظِيم "فصلت :34
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تَدخُلوا الجنةَ حتى تُؤمِنُوا ، ولا تُؤمِنُوا حتى تَحَابُّوا ، ألا أَدلُّكُم على شئٍ إذا فعلتُمُوه تَحابَبْتُم ، أفَشُوا السّلامَ بينَكُم " رواه مسلم
.
فهيا أخي الكريم وأختي الكريمة : أنثر بذور المحبة والمودة والوئام ، ودع عنك مكائد النفس والشيطان ،وأسلك سبل السلام فالسلام يورث المحبة ، والبشاشة حبال المودة ، وتبسمك في وجه أخيك صدقة ، والتسامح والعفو من درجات الإحسان و "هل جزاءُ الإحْسانِ إلا الإحْسَان " الرحمن: 60 .
وأخيرا أخي الكريم وأختي الكريمة، إن لم تكن على خصومة مع أحد ، فأنت على خير كبير ، لكن لا يفوتك أجر الإصلاح بين المتخاصمين ، وقد جاء في الحديث الشريف " أفضل الصدقة : إصلاح ذات البين " رواه .و قال أمين الوحي جبريل عليه السلام : " لو كان لنا عبادةٌ في الأرض لانشغلنا بإصلاح ذات البين ".
وقد وعد الله المصلحين بين الناس بالأجر العظيم ومدح الله تعالى هذا الأمر فقال " لا خير في كثير من نجواهم ، إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً " 114النساء . "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم " الأنفال :1 وقال " إنما المؤمنون أخوة ، فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون " 10 الحجرات
وذلك لما لهذا الأمر من شأن ومكانة ، وإن اضطر المصلح بين المتخاصمين للكذب جاز له ذلك شرعاً ، عن أم كلثوم بنت عقبة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ليس الكذابُ الذي يصلحُ بين الناسِ فيُنمي خيراً ، أو يقولُ خيراً " متفق عليه .
اللهم ألف بين قلوب المتخاصمين , و اجعلنا الله من أهل الحظ العظيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه .