الأرقام التى تناقلتها وسائل الإعلام عما تزمع دولة قطر إنفاقه من أجل استضافة بطولة كرة القدم على أرضها فى سنة 2022، أى بعد اثنى عشر عاما، أرقام مذهلة تجبر من يقرؤها أو يسمعها على التفكير فى مغزاها.
الأرقام غير عادية فى ضخامتها، ومع ذلك فالمشروعات التى سوف تنفق عليها لا يمكن اعتبارها ضرورية بأى معنى من المعانى. فهى لا تلبى حاجات أساسية لأى شعب، لا لشعب قطر ولا لأى شعب عربى آخر، أو غير عربى، بل كلها لتقديم خدمات كمالية للغاية وترفيه من السهل الاستغناء عنها. نعم، الرياضة استولت على عقول الناس، وأصبحت تثير حماس البشر فى كل مكان، وتقدم الخصومات ويحتدم الخلاف حولها، بل وقد يتقاتل الناس بسببها. وأبطالها أصبحت أسماؤهم على كل لسان، مثل أشهر نجوم السينما وأكثر، ويتقاضون رواتب ومكافآت خيالية، ويقطع الناس مسافات طويلة لمشاهدتهم. لقد أصبحت الرياضة غرام الناس فى كل مكان، ومصدرا مهما من مصادر فخر الأمة بنفسها، ولكن كل هذا لا يحولها إلى ضرورة من ضروريات الحياة، بل إن كل هذا ليس إلا مظهرا من مظاهر عالم الجماهير الغفيرة، حيث تزداد أهمية الشخص كلما زادت جماهيريته، وكلما زاد حضوره الإعلامى، ويصبح المرء مشهورا بأنه فقط مشهور، ويزيد حماس الناس لمجرد وجودهم بين أناس متحمسين..إلخ. فإذا كان الأمر كذلك، ولم تكن هذه المباريات ضرورة من ضروريات الحياة، فما الذى يفسر هذا الاستعداد من جانب أى دولة لأن تنفق عليها هذه المبالغ الخيالية؟
لكل دولة دوافعها. قد تكون الدولة طامعة فى تحسين صورتها أمام العالم بعد أن تعرضت سمعتها للخدش بسبب أو آخر، أو راغبة فى تدشين عهد جديد من الانفتاح على العالم، أو فى كسب أموال كثيرة مما ينفقه القادمون للتفرج على المباريات أو مما تنفقه الشركات على الإعلان للافادة من كثرة عدد المتفرجين. وقد يكون الدافع مجرد الحصول على اعتراف من العالم بأن الدولة قادرة على عمل اللازم لاستضافة هذا الحدث الكبير، أو لمجرد الشهرة. قد تكون هناك دوافع من هذا النوع وراء الجهد الكبير الذى بذل من أجل أن تفوز دولة قطر بهذا النصر المبين، ولكنى أستشف أسبابا أخرى لا توجد فى حالة أى دولة أخرى من الدول التى استضافت المونديال من قبل. قد يسهل فهم هذه الأسباب إذا رجعنا إلى فترة سابقة من التاريخ.
عندما حدثت فى سنة 1973، أى منذ ما يقرب من أربعين عاما، تلك الزيادة الكبيرة والمفاجئة فى أسعار البترول، إذ تضاعفت أسعاره عدة مرات فى شهور قليلة، تدفقت الأموال على دول الخليج الغنية بالبترول بمعدلات غير معهودة من قبل. وحيث إن معظم هذه الدول صغيرة جدا، وعدد سكان كل منها، بل كلها مجتمعة، صغير جدا أيضا، ظهر أن ما تدفق عليها من أموال أكبر بكثير من حاجتها، وثار السؤال عما هى صانعة بكل هذه الثروة المفاجئة.
أذكر أن مصريا وطنيا مرموقا (هو المرحوم الدكتور إبراهيم شحاتة) كتب مقالا عقب هذه الزيادة الكبيرة فى أسعار البترول بعنوان «فرصة العرب الأخيرة، (نشر فى مجلة العربى الكويتية)، وقال فيه إن هذه الزيادة الكبيرة فى إيرادات العرب تسمح لهم بتحقيق الكثير من الآمال التى يحملونها منذ فترة طويلة، فى تحقيق تنمية اقتصادية سريعة وحل مشاكل اجتماعية مزمنة منعهم الفقر من حلها. كتب إبراهيم شحاتة هذا الكلام فى وقت كانت فكرة «القومية العربية» مازالت حية فى الأذهان، وكان من الممكن للمرء أن يتصور أن تساهم أموال دولة غنية، كالكويت أو الإمارات، مساهمة كبيرة فى حل مشاكل دول عربية أخرى فقيرة، كمصر أو السودان.
كم تغير الحال الآن، وكم ضعفت الذاكرة، وكم نسى العرب أنهم كانوا فى يوم من الأيام ينظرون إلى أنفسهم كأمة، ويتوقون للوحدة العربية كهدف.
الآن أصبحت أموال الكويت للكويت، وأموال دبى لدبى، وأموال قطر لقطر، نعم، قد تتبرع دولة خليجية ثرية لدولة عربية فقيرة أو تقرضها بشروط ميسرة، ولكن هذا يحدث أيضا بين دول لا تنتمى إلى أمة واحدة. الذى فقدناه هو هذا الشعور بأن أموال النفط يمكن النظر إليها على أنها أموال العرب، وأن الثراء المفاجئ الذى يأتى لدول النفط العربية، يمكن أن يمثل فرصة جديدة للعرب، سواء كانت فرصة أولى أو أخيرة.
الذى حدث هو بالطبع أن هذه الفرصة الأخيرة قد ضاعت، وقد ساهم فى ضياعها عوامل كثيرة، داخلية وخارجية، ولكن من أهم أسباب ضياعها هو ما اخترعه الغرب من أفكار ونظريات ساعدت على تخدير العرب تمهيدا للاستيلاء على أموالهم.
من هذه الأفكار ما أخذ يردده المحللون فى الغرب والمؤسسات الدولية الخاضعة لرأس المال الغربى، من أن دول النفط الثرية فى الخليج ذات قدرة محدودة للغاية على استيعاب هذه الثروة الجديدة.
كثر الكلام فى تلك الفترة عن الطاقة أو القدرة الاستيعابية، ويقصد بها قدرة دولة ما، على الإفادة من استثمارات جديدة فى أرضها، وهى قدرة تتوقف على أشياء كثيرة، منها حجم السكان (ومن ثم حجم السوق)، ومدى تقدم المرافق العامة (أو البنية التحتية)، ومدى توافر عوامل الإنتاج الأخرى التى تتضافر مع رأس المال فى أى استثمار: كالأراضى الزراعية، والمواد الأولية الضرورية، والقوة العاملة المدربة، والمديرين الأكفاء. فإذا كانت الدولة، مثل معظم دول الخليج العربية، رغم ثرائها برأس المال المتولد من تصدير البترول، صغيرة جدا فى حجم السكان، وتفتقر بشدة إلى القوة العاملة المدربة (بل وحتى القوة العاملة غير المدربة)، وإلى الموارد الطبيعية الأخرى غير النفط، كالأراضى الزراعية، فضلا عن قسوة المناخ السائد فيها مما قد يثبط من عزيمة المستثمر والعمال على السواء، فلابد أن يؤدى كل هذا إلى ضعف «الطاقة الاستيعابية»، أى قلة الفرص المتاحة لاستثمار فوائض رأس المال استثمارا مجزيا.
فإذا كان الأمر كذلك، فالحل الوحيد (الذى تفتق عنه الاقتصاديون والمحللون فى الغرب) هو إعادة تدوير هذه الأموال (recycling) فما معنى هذا بالضبط؟ معناه تحويل هذه الأموال الهائلة إلى الدول الغربية، أى إلى بنوكها وسنداتها وفرص الاستثمار فيها، فهنا تتوافر القدرة أو الطاقة الاستيعابية بمعنى الكلمة.
لم تتفتق أذهان المحللين فى الغرب بالطبع، عن أن من الممكن أن يجرى تحويل (أو تدوير) هذه الأموال الهائلة من دول الخليج الثرية إلى الدول العربية الأخرى الفقيرة، مع أن هذه الدول الفقيرة لها قدرة استيعابية هائلة على استخدام هذه الأموال. ذلك أن المهم فى نظر هؤلاء المحللين أن تستولى الدول الغربية وشركاتها على هذه الأموال، وتسحبها من أيدى هذه الدول العربية الصغيرة. إذ لماذا انشئت هذه الدول العربية الصغيرة أصلا؟ ولماذا رسمت الحدود فيما بينها بحيث تقع آبار النفط فى هذه الدول العربية دون تلك؟ ولماذا لم يسمح لهذه الدول العربية الصغيرة بأن تكون مع الدول العربية الأكبر منها دولة واحدة كبرى، لها قدرة استيعابية كبرى، وتستطيع التفاوض باسم الجميع مع كل من يريد البيع لها أو الشراء منها؟ كل هذا كان ممنوعا وغير مرغوب فيه، ولكن لا مانع فى نظرهم، بل من المرغوب فيه، أن تظل كل دولة من هذه الدول العربية الصغيرة مفتونة بنفسها، وبعلمها وسلامها الوطنى وقناتها التليفزيونية الخاصة، ومعقدها الخاص فى الأمم المتحدة، وأن تظن أنها دولة مستقلة استقلالا حقيقيا، وأن تظفر، مثل أى دولة أخرى، بحق إقامة مباريات المونديال على أرضها. بل وقد يخطر ببالها أنها، إذا حظيت بهذا الشرف، إنما تجلب الشرف أيضا للعرب أجمعين.
خطرت بذهنى هذه الخواطر، وتذكرت الكلام عن الطاقة الاستيعابية الذى دار منذ أربعين عاما، عندما قرأت الأرقام التى تداولتها وسائل الإعلام عما تعتزم دولة قطر انفاقه استعدادا لإقامة المباريات على كأس العالم فى كرة القدم على أرضها فى سنة 2022.
الرقم الاجمالى هو مائة بليون (أى مائة ألف مليون) دولار. وهو رقم كبير جدا كان يكفى لحل مشاكل كثيرة اقتصادية واجتماعية للفقراء المنتشرين فى البلاد العربية، وكان من الممكن تكليف بعض الاقتصاديين العرب بوضع خطة لاستثمار هذا المبلغ فى تخفيف حدة البطالة العربية مثلا، بإنشاء مشروعات صغيرة تخلق للمتبطلين فرص عمل مجزية مدى الحياة.
ليس من الصعب على الاقتصاديين العرب إعداد «ملف» جيد عن موضوع كالبطالة مثلا، مثلما كان من السهل على المختصين بكرة القدم إعداد ملف جيد عن المطلوب لإقامة مباريات المونديال. كما أنه ليست هناك مشكلة فى توافر القدرة الاستيعابية لدى البلاد العربية الفقيرة اللازمة لإقامة هذه المشروعات الصغيرة.
ليست هناك مشكلة فى هذا أو ذاك. المشكلة فقط أن المستفيدين من هذه المشروعات ليسوا هم المقاولين الأوروبيين أو الأمريكيين، ولا الشركات الغربية التى ستقوم بتصميم وتنفيذ الملاعب التسعة الجديدة المكيفة، لوقاية اللاعبين والمتفرجين من حرارة الصيف فى قطر التى تصل إلى أكثر من 50 درجة مئوية، فضلا عن انشاء استاد جديد لمبارتى الافتتاح والختام اللتين سوف تقوم باذاعتهما بالطبع، محطات تليفزيويات العالم، وتعلن من خلالها مختلف الشركات المتعددة الجنسيات عن بضائعها التى لا يحتاج إليها أحد، فضلا عن الشركات التى ستقوم بإنشاء شبكة سكة حديد جديدة فى قطر التى لا يزيد سكانها (القطريون والأجانب) على 1.3 مليون شخص، ولا تحتاج إلى أى سكة حديد، وإنشاء مطار جديد يتسع لخمسين مليون راكب سنويا، وفنادق حتى تصل الطاقة الفندقية على الاستيعاب إلى 95 ألف غرفة بحلول 2022..إلخ.
لا يشك أحد الآن فى أن قطر لديها القدرة على استيعاب هذه الاستثمارات كلها، وإن لم تكن لديها مثل هذه القدرة قبل الموافقة على إقامة المونديال على أرضها. والمهم فى نهاية الأمر، فى تحديد ما إذا كان لديك أو ليس لديك قدرة على استيعاب كل هذه المشروعات والفنادق والمطارات والسكك الحديدية، ليس هو ما إذا كان لديك عدد معقول من السكان، أو يزورك فى كل عام من السياح عدد يحتاج إلى هذا العدد الغفير من غرف الفنادق، بل المهم هو أن يكون فى العالم عدد كاف من المستفيدين الأثرياء من بناء كل هذه الملاعب والفنادق والمطارات. وليذهب العرب، فقراؤهم وأغنياؤهم إلى الجحيم.