في صباح ذلك اليوم .. استيقظ الولد الصغير من النوم وهو يشعر ببعض الدوار في رأسه بعد ليلة طويلة قضاها في سبات مضطرب .. مكث للحظات في فراشه ثم نهض متجها إلى الحمام .. بعد الاغتسال عاد الولد الصغير إلى حجرته بينما كان لا يزال يواصل تجفيف وجهه بالمنشفة .. فجأة .. انتبهت حواسه إلى ذلك السكون الغريب الذي يحيط به .. بدأ يفكر في أنه لم يسمع أي صوت من أصوات أسرته منذ استيقاظه .. ترك المنشفة .. خرج إلى الصالة .. لم يكن هناك أحد .. بحث في بقية حجرات المنزل .. كانت كلها خالية .. عاد إلى الصالة وراح يفكر في دهشة عارمة .. أين ذهب الجميع ؟! .. أين ذهب والداه وأشقاءه ؟! .. لم يحدث أبدا من قبل أن غادر الجميع المنزل مرة واحدة بهذه الطريقة .. ثم .. كيف تركوه نائما وخرجوا هكذا ؟! .. ما الذي حدث ؟! .. في تلقائية .. ذهب إلى النافذة حائرا .. تزايدت حدة دهشته بدرجة هائلة .. لم يكن هناك أي شخص يسير في الشارع .. جميع المحال مغلقة .. الباعة الجائلون الذين اعتادوا افتراش الرصيف المقابل بأقفاص الخضار والفاكهة لا يوجد أي أثر لهم .. لم تكن هناك أية سيارة تعبر الطريق أو تقف على أي جانب منه . ترك الولد الصغير النافذة وعاد إلى الداخل وهو في قمة التعجب .. ما الذي حدث اليوم ؟! .. ماذا أصاب المنزل والشارع ؟! .. أي أمر رهيب حدث أثناء نومه وجعل الجميع يختفون بتلك الطريقة ؟! . ذهب مسرعا إلى جهاز ( التليفزيون ) وقام بتشغيله .. جميع القنوات مشوشة .. ذهب إلى الراديو .. أيضا جميع المحطات معطلة .. أغلق الولد الصغير المذياع ووقف يتلفت حوله غير مصدق .. ماذا حل بالعالم ؟! .. بالتأكيد شئ ما حدث .. شئ قاس جدا .. شئ جعل الأشخاص يختفون والأشياء تتعطل .. ما عدا .. ما عدا هو .. حينئذ بدأ شعور غريب بالارتياح يتسلل إلى صدره .. سرعان ما تحول إلى سرور وفرح .. فبدأ يتجول داخل المنزل وعلى وجهه ابتسامة مرحة .. بدا وكأن عينيه تتطلعان إلى الأشياء من حوله للمرة الأولى .. هكذا .. قضى الولد الصغير وقتا طويلا في بهجة التنقل بين حجرات النوم والمطبخ ودورة المياه والوقوف في النافذة .. ثم .. تملكته رغبة مفاجئة في ارتداء ملابسه والخروج إلى الشارع حيث يمكنه الاستمتاع بالسير وحيدا .. بلا أشخاص يسيرون من حوله أو سيارات تعبر بجانبه أو أصوات مزعجة تفسد حرية تجوله . بالفعل .. ارتدى الولد الصغير ملابسه وخرج إلى الشارع .. راح يسير مبتسما يغمره شعور رائع بالسكينة والهدوء الأمر الذي جعله يصدر من بين شفتيه صفيرا متناغما للحن رقيق . ظل الولد الصغير في مواصلة الاستمتاع بالسير بمفرده بعد أن تخلت رأسه عن التفكير في سبب لما حدث اليوم .. اختفاء أسرته من المنزل .. غياب الأشخاص والسيارات من الشوارع .. المحال المغلقة .. التليفزيون والراديو المشوش إرسالهما .. حتى الشرفات التي كان يمر أسفلها خلال سيره .. لم يجد مخلوق واحد يقف فيها .. لم يعد يشغله التفكير في هذه الأشياء .. فقط .. كان كل ما يستحوذ على نفسه هي تلك النشوة الصافية لكونه وحيدا .. بلا أحد .. هكذا .. بدت الشوارع الخالية في عينيه ذات جمال خاص لم يعهده من قبل .. أيضا البيوت والنوافذ بدا صمتهما إلى نفسه أليفا .. رائقا بمودة لم يجربها في أوقات سابقة . قضى الولد الصغير وقتا طويلا في السير بمفرده إلى أن بدأت السماء تعلن بداية حلول الليل .. فجأة .. شعر الولد الصغير بشيء من الخوف يتسرب إلى نفسه .. تراجعت أحاسيس المرح والسرور والبهجة التي كانت تتملكه ليحل محلها شعور بالفزع لكونه وحيدا إلى هذه الدرجة .. وقف في منتصف الطريق الخالي متلفتا حوله .. كان الليل الذي حل قد جعل البيوت والأرصفة والمحال المغلقة تضيع معالمها داخل الظلام .. هكذا بدأ الولد الصغير يشعر برعشة شديدة في أطرافه وتسارعت دقات قلبه وأحس بدوار حاد في رأسه .. على الفور استدار عائدا بسرعة إلى منزله بينما عينيه تحاولان البحث على جانب الطريق وفي شرفات البيوت عن وجه أي شخص ليشعر بالاطمئنان حتى يصل إلى المنزل لكنه لم يجد .. تزايدت سرعة خطواته حتى صارت أقرب إلى الهرولة وبدأ العرق الغزير ينهمر من وجهه حتى وصل بأنفاس لاهثة إلى المنزل . هناك .. وجد جميع أفراد أسرته كما هم .. يتحركون بين أرجاء الصالة وفي الحجرات كما تعود دائما أن يراهم .. كان أبيه جالسا فوق كرسيه المعتاد يقرأ الجريدة وحينما رآه التفت إليه قائلا : ـ ( أين كنت ؟ .. هل أديت واجباتك المدرسية ؟ .. هل أديت الصلاة ؟ .. بالطبع كنت مشغولا باللعب مع أصدقائك طوال اليوم ولم تفعل شيئا ذو قيمة .. ليست هناك فائدة منك ) . خرجت والدته من المطبخ وحينما رأته قالت : ـ ( كيف تخرج من المنزل دون أن تتناول طعامك ؟ .. لا تنس أن تستحم وترتدي ملابس نظيفة .. بالطبع لم تقم بترتيب فراشك بعد أن استيقظت من النوم .. حاول ولو لمرة واحدة أن تنظم كل هذه الأشياء المبعثرة في حجرتك .. أنا لم أر في حياتي ولد كسول مثلك ) . دخل الولد الصغير إلى حجرته .. كان أشقاؤه كالمعتاد يتبادلون المزاح والشجار بصوت مرتفع .. حينما رأوه تبادلوا توجيه الحديث له قائلين : ـ ( لماذا أنت شاحب هكذا ؟ .. هل جرى وراءك أحد الكلاب في الشارع ؟ ) ـ ( أخبرتك من قبل ألا تستعير أدواتي المدرسية .. أين أضعت علبة الألوان الخاصة بي ؟ ) . ـ ( أرجوك .. أريد أن أنام الليلة .. حاول أن تغير أوضاعك المقلقة أثناء النوم بجانبي وإلا أيقظتك ) . لم يستطع الولد الصغير أن يجيبهم .. ذهب إلى النافذة .. جميع الأشياء كما هي .. كما اعتاد دائما أن يراها .. زحام الأشخاص والسيارات .. صخب الباعة الذين يفترشون الرصيف المقابل .. الضوضاء الصادرة من أجهزة الراديو داخل المحال المختلفة . كانت الحيرة والدهشة في أعماقه قد وصلتا إلى الحد الذي أصبح معه عاجزا عن الكلام أو حتى مجرد إبداء انطباع على ملامح وجهه .. أحس بأن رأسه مشلولة بالفعل .. غير قادرة على التفكير أو الفهم .. لم يعد أمامه سوى أن يظل صامتا .. بينما كل ما بداخله لا يزال محتفظا بالاستفهام وعدم التصديق . كان يشعر بالإرهاق الشديد .. لذا .. أسرع بأداء واجباته المدرسية والصلاة والاستحمام وارتداء الملابس النظيفة وتناول الطعام وتنظيم الأشياء المبعثرة في حجرته ثم توجه إلى الفراش وأغمض عينيه . * * * * * في صباح اليوم التالي .. استيقظ الولد الصغير من نومه وهو يشعر ببعض الدوار في رأسه بعد ليلة طويلة قضاها في سبات مضطرب .. مكث للحظات في فراشه محاولا بصعوبة إبقاء عينيه مفتوحتين .. تدافعت الأفكار والأسئلة داخل رأسه بشكل سريع وحاد .. هل كان يحلم ؟! .. هل ما حدث بالأمس مجرد كابوس صغير ؟! .. أم أنه كان حقيقة بالفعل ؟! .. لم يستطع أن يجد إجابة لشلال الأسئلة الذي لم يكف عن التدفق داخل نفسه . ظل الولد الصغير على حالته هذه طوال اليوم .. غير قادر على أن يحكي لأحد عما حدث خشية أن يتهم بالجنون .. في المدرسة .. في الشارع .. مع الأصدقاء .. إلى أن انتهى من واجباته المدرسية في نهاية اليوم .. أمضى قليلا من الوقت في النافذة يراقب العابرين حتى شعر برغبة ملحة في تناول كراسة الرسم وعلبة الألوان .. أمام الصفحة الكبيرة البيضاء .. راح يفكر في أشياء كثيرة .. أسرته .. أصدقائه .. المدرسة .. الشارع .. ثم .. بدأ في الرسم .. لفترة طويلة .. ظل منهمكا في مواصلة الرسم .. بعد أن انتهى .. تأمل الولد الصغير لوحته وابتسم .. كانت هناك نشوة حقيقية تتسلل إلى روحه بينما عينيه تتمليان في الحجرة الصغيرة التي رسمها فوق بياض اللوحة .. حجرة صغيرة ذات باب مغلق ونافذة لها سطح زجاجي موصد .. كان يجلس وحيدا بداخلها ليفكر في أشياء كثيرة تخص حياته .. مطمئنا لوجود أشخاص تتحرك وراء الباب المغلق وخلف النافذة الموصدة يمكنه ببساطة أن يخرج إليهم إذا ما أحس فجأة .. أنه خائف