عنوان صادم بلا شك، لكن الصدمة الأكبر هي حين تتيقن من صحته. لو تركنا النفس على هواها، والعقل على سجيته، فأغلب الظن أن مبدأ إعطاء كل رجل مبيعات عمولة نقدية فور تحقق عملية البيع التي بدأها لهو عين العقل والصواب. التجربة العملية تشير إلى العكس. دعني أشرح لك لماذا.
البيع بالعمولة يجعل رجال المبيعات مستعدين لعمل أي شيء – مقبول أو مرفوض – سواء بإدراكهم أو عن غير وعي منهم، في مقابل الحصول على الجائزة، ألا وهي عمولة البيع. هذا التدافع والتعجل للحصول على العمولة سيجلب لك عملاء سيئين، رديئين، مزعجين، يقدمون لك صفقات ذات هامش ربح ضعيف، ويختمون بمشاكل ما بعد البيع لا حصر لها، سببها في الأغلب وعود قطعها رجل المبيعات، وعود لم تتحقق بعد إتمام صفقة البيع.
عندما يبذل رجل مبيعات وعدا لعميل ولا ينفذه، ثم يتصل هذا العميل ويسأل عن هذا الوعد، والذي في أغلب الأحيان لم يكن مدير الشركة الناشئة يعرف شيئا عنه، يكون هذا المدير أمام قرار صعب: اتهام رجل المبيعات بالكذب، ووضع اللوم عليه، وفي هذه الحالة سيخسر هذا العميل للأبد، أو يقبل تحمل خسارة تنفيذ هذا الوعد على أمل الحفاظ على العميل وتعويض الخسارة منه في صفقات تالية في المستقبل. (عادة ما يكون مثل هذا الوعد مكلفا بدرجة تجعل حصيلة البيع خاسرة).
الرغبة في تحقيق البيع السريع تجعل رجل المبيعات (إراديا أو لا إراديا) لا يهتم كثيرا بدورة المستندات في الشركة، ولا يبالي بطلبات أقسام الحسابات والشحن والتحصيل وخدمة ما بعد البيع لإكمال اللازم من بيانات ومستندات، لأنه ببساطة لا صوت يعلو فوق صوت رنين دراهم العمولة بعدما انتقلت إلى جيب رجل المبيعات.
على الجهة الأخرى، إذا حاول مدير الشركة إجبار رجال البيع على الالتزام بالقواعد، والبيع بهدوء و روية، سينقمون عليه، وسيرغبون في الرحيل إلى رحاب شركة أخرى تسمح لهم بالبيع السريع الساخن والحصول على العمولة بأسرع وقت ممكن.
حين يحصل بائع على عمولة كبيرة، بغض النظر استحقها أم لا، فهذا يثير حنق زميله الذي لم يحصل على عمولة مماثلة، ولو افترضت معي حدوث هذا المثال التالي: رجل مبيعات كان على وشك عقد صفقة لولا حدوث ظرف طارئ له، أجبره على الرحيل خارج البلاد لعدة أيام، فماذا سيفعل ساعتها؟ لو أرسل زميله ليتم الصفقة فلن يحصل هو على عمولته، ولأكمل زميله حصته المطلوب منه بيعها بينما تأخر الأول، ولن تجد شركة تقبل دفع عمولة البيع مرتين لفردين، ولو لم تعطي الثاني عمولته فسيكون غير مقبل على هذا العمل الإضافي الخالي من أي عائد له.
في الأغلب، هذا البائع سيقرر تأجيل الصفقة أو عدم إتمامها، حتى لا يخسر هو، ولا يربح غيره، وستجد في النهاية روح العداء والبغضاء تدب بين فريق المبيعات، وهذه ليست من علامات الشركات الناجحة التي تستمر لمئات السنين. في هذا المثال، الخاسر الفعلي هو الشركة التي خسرت صفقة كانت كفيلة بدر المزيد من المال والربح.
كيف يمكن حل هذه المعضلة؟ وجد نورم أن العمولة السنوية، التي يعتمد نصفها على أداء رجل المبيعات خلال العام، والنصف الثاني على أداء الشركة ككل، هو الحل الأنسب له. وفق هذه المعادلة، سيعمل الكل لكي تربح الشركة، وسيشعر الكل أنه يقف في خندق واحد. دعوني أعطيكم مثالا مررت به مؤخرا.
تعمل في دولة الإمارات شركتان لخدمات الهاتف الأرضي والنقال، اتصالات و دو، والتقسيم بينهما على أساس جغرافي. ذات يوم دق بابي مندوب مبيعات من شركة اتصالات، يعرض علي تركيب هذا الجهاز الصغير على خط شركة دو، هذا الجهاز سيتيح لي إجراء مكالمات دولية مقابل 50 فلسا أو 75 قرشا مصريا أو 15 سنت أمريكي لكل دقيقة.
سألت البائع، هل سأكلم أي و كل دولة في العالم؟ قال نعم. سألته في أي وقت من النهار والليل، قال نعم. أعدت عليه السؤال بصيغة أخرى، فلم تتغير إجابته، وفي مقابل هذا الإصرار منه وافقت على العرض واشتركت. هل تدرون ما حدث بعدها؟
أول وعد كاذب كان أني سأتلقى هذا الجهاز خلال 4 أيام، واليوم مر أكثر من شهر ولم أستلم شيئا.
الوعد الكاذب الثاني أني سأتمكن من الاتصال بكل دول العالم مقابل 50 فلسا، لكني بعدها وجدت أحدهم يتصل بي ويخبرني هناك نوعان من الاشتراك: أن تتصل ببلد واحدة فقط مقابل 50 فلسا للدقيقة زائد درهم في كل مرة اتصال، أو اشتراك شهري قدره 20 درهما للاتصال بأي بلد بهذا السعر.
الوعد الكاذب الثالث أن بيانات الاتصال بي وعنواني ورقم هاتفي ضرورية لتوصيل الجهاز إلي، لكن المتصل الغامض أكد لي أن لا حاجة لي لاستخدام هذا الجهاز السري، ويكفي إدخال كود خاص للحصول على هذا العرض.
بعد هذه التجربة الكاذبة، من البديهي أني لن أثق في أي عرض جديد تقدمه هذه الشركة، ببساطة لأنها لم تحسن اختيار من يمثلوها بدقة، فهؤلاء الباعة – في الأغلب – موظفون بعقد مؤقت، على شاكلة إذا حصلت على 500 نموذج اشتراك موقع عليه، حصلت على عمولة كذا. بدون رقابة، فالكل في الأغلب سيكذب، أو قل يجتهد ويتجمل ويكون أكثر إيجابية لكي ينفذ كل ما قرأه من نصائح البيع والتسويق.
هل تدرون بما أجابني صاحب الصوت الغامض حين قلت له أن زميله قال لي خلاف ما يقوله هو؟ قال: لقد أسأت فهم كلامه وهو حتما لم يقل ذلك، أي أني إما عميل لا يفهم أو كذاب أشر! الآن لماذا قد تريد شركة مثل هذه التعامل في المستقبل مع غبي لا يفهم؟ على أن السؤال الحكيم فعلا هو: من الغبي الفعلي – هل هو من ربح ربحا سريعا، مقابل خسارة مستقبلية؟
الشاهد من كل ما سبق، عليك أن تثق في التجربة الفعلية والتطبيق العملي، وليس في فكرة تظنها سديدة. على المدى الطويل، سيتحول رجل المبيعات الباحث عن العمولة من رزين وصادق، إلى مداهن ومجامل. هذا التحول التدريجي والبطيء ربما لن يشعر به أو يدركه، فمن سيرفض ربح مال إضافي، وبالحلال، وما العيب في التركيز على مزايا المنتج أكثر من عيوبه، لا تكن سوداويا، هيا كن إيجابيا وركز على كل ما هو إيجابي، وما الكذب في المثال السابق، فالجهاز يتصل بكل دول العالم فعلا مقابل 50 فلسا، مع بعض الشروط، ولماذا تزعج العميل بكل هذه التفاصيل الكثيرة التي لا معنى لها…
البيع بالعمولة سيقضي على شركتك الناشئة…
مثل أختها، جاءت المقالة السابقة صادمة للقارئ بعض الشيء، لكني أذكر قارئي الكريم بأنها حملت نصائح موجهة لصاحب الشركة الناشئة، التي ليس لديها رأس مال عريض يعوضها عن بعض الخسائر الصغيرة. الشركة الناشئة لا تملك رفاهية تعيين خريجي الجامعات وتعليمهم، أو العصاميين، أو العاملين لدى منافسين على أمل نجاحهم معها. الشركة الناشئة مثل رجل يسير على سلك رفيع مرتفع، لا يقدر على حمل أثقال إضافية تهوي به، بل عليه موازنة حمله الحالي حتى يصل إلى أرض أكثر صلابة!
أود أن أختم بطلب، أريد ممن يرفض هذه النصائح أن يذكر أدلة من واقع التجربة تبرر رفضه، وأن يكون صاحب شركة ناشئة، وأن يكون قد مر بتجربة تعيين موظفي مبيعات، وأن يعطينا نتائج تجربته. لا أريد تعليقات من أناس لم يجربوا ويظنون شيئا لم يطبقوه بأنفسهم هو الصواب. التطبيق هو ما أريد – لا الظن أو الافتراض. هنا قدمت لكم أفكارا جديدة، وهي من اجتهاد بشر، تصيب وتخطئ، لكنها تبقى من نتاج تجربة فعلية، توجب أخذها بعين الاعتبار والتفكير.