تربع القطن المصري علي عرش الزراعات المصرية لعقود عديدة كان خلالها عماد الاقتصاد لمصر وللمزارعين حتي تجاوزت مساحات زراعته في بعض العقود1.5 مليون فدان.
هذا الأمر دفع بالاقتصادي الكبير طلعت حرب إلي إدخال صناعات الغزل والنسيج إلي مصر للاستفادة من وفرة محصوله وزيادة الربحية من وراء تصنيعه بدلا من الاعتماد فقط علي بيعه كخام في الأسواق العالمية وما يمكن أن يحدث بسببها من خسائر كبيرة للدولة والمزارعين.
وقد لا يعلم البعض أن القطن في الأصل نبات صحراوي يجود في الأراضي الرملية ضعيفة الخصوبة كما أنه نبات متحمل للملوحة سواء في التربة أو ماء الري وأن احتياجاته المائية محدودة واقتصاديات العائد من وحدة المياه في القطن مرتفعة بالمقارنة بغيره من الحاصلات الصيفية.
ويتميز المناخ المصري بصلاحيته لزراعة جميع صنوف القطن سواء الطويلة أو فائقة الطول أو القصيرة والأخيرة تشهد أسواقها رواجا حاليا كبيرا كما أن الأصل لجميع الأصناف المصرية من الأقطان الطويلة هو القطن الأشموني قصير التيلة والذي تدهورت إنتاجيته حتي اختفي تماما من الساحة الزراعية المصرية وهو مشتق من سلالات القطن الأمريكي قصير التيلة في زمن كان تطوير واستنباط الأصناف الجديدة من القطن نشطا قبل أن تتدهور صناعة التقاوي في مصر.
وللحق والتاريخ فقط نذكر أن الدكتور يوسف والي وزير الزراعة المصري الأسبق والأشهر طلب منذ أكثر من عشر سنوات تبني الوزارة لخطة طموح للتوسع في إنتاج الأقطان قصيرة التيلة خاصة في أراضي المشروعات القومية لاستصلاح الأراضي مثل مشروعي توشكي وشرق العوينات والزمامات الصحراوية لمحافظات الصعيد والتي لا تصلح في مراحل استصلاحها الأولي لإنتاج الحاصلات الاقتصادية بينما يمكن أن تجود بها زراعات القطن المتحمل للملوحة ونقص الخصوبة للأراضي حديثة الاستصلاح, وأيضا بسبب ما يتمتع به مناخ محافظات الصعيد من ارتفاع كبير في درجات حرارة الصيف مصحوبة بانخفاض في نسبة الرطوبة بالجو علي عكس مناخ محافظات الدلتا حيث يعمل الجو الحار الجاف في الصعيد علي ايجاد جو تعقيمي يقلل من أخطار الإصابة بالإصابات الحشرية والمرضية لأقطان الصعيد, كما أن هذا المناخ مناسب كثيرا للأقطان القصيرة ومشابها لأجواء ولايات الجنوب الأمريكي الأشهر في إنتاج هذه النوعية من القطن. وبالمثل أيضا فإن أراضي مشروع تنمية شمال سيناء والمعروفة مجازا بترعة السلام تصلح في بدايات إنتاجها للاستغلال في زراعات القطن أثناء تنمية خصوبتها وغسيلها من تراكمات ما بها من أملاح والاعتماد علي مياه النيل المخلوطة بمياه الصرف الزراعي في ري زمام أراضيها والبالغة620 ألف فدان منها400 ألف فدان داخل سيناء والتي يعد القطن مثاليا في تحمل مثل هذه الظروف غير المواتية, بالإضافة إلي قلة استنزافه لمياه الري.
ونظرا لأن الزمن القادم يمكن أن يشهد تأكيدا لواقعية تغيرات المناخ وتكرارا لحدوث الظواهر المتطرفة مثل الجفاف الذي حل بروسيا ودول البحر الأسود أو الفيضانات الغزيرة التي ألمت بالصين والهند وبنجلاديش وباكستان وجميعها من الدول العشر الكبري المنتجة والمصدرة للقطن في العالم بما أخذ بأسعار القطن عاليا في الوقت الذي راهن فيه المسئولون عندنا علي انقضاء زمن القطن وزراعته علي الرغم من وجود ثلاثة أمور محلية غاية في الأهمية من المفترض أن تجعل من محصول القطن المحصول الأول في الزراعات الصيفية المصرية. الأمر الأول هو قلعة الصناعات النسيجية المصرية والتي تعد الثانية في العراقة العالمية بعد مصانع إنجلترا مباشرة والتي ينبغي أن نحافظ عليها ونطور من تقنياتها بدلا من أن تتحول أزمتنا في الغذاء إلي أزمة أخري في الكساء في زمن قادم لن يرحم والنظرة إلي دول جنوب الصحراء تكفي لنري منظر الجائع العاري لعلنا نتعظ. الثاني أن مصر تعاني فجوة عميقة في الاكتفاء الذاتي من زيوت الطعام حيث نستورد من88 إلي92% من احتياجاتنا منها بسبب خروجنا من تصنيف الدول المنتجة للقطن وزيوت بذرته الفاخرة والتي لا تمثل إلا نحو10% فقط من إجمالي إنتاج زيوت الطعام في العالم وبدء دخولها هو أيضا في إنتاج الوقود الحيوي خاصة في الدول الافريقية ودول حوض النيل وبسبب أيضا تحول مصانعنا إلي تكرير زيوت الطعام الخام المستوردة بدلا من عصر بذور الزيوت والتي يعد القطن ودوار الشمس والصويا من أهمها. ويمكن لزيت بذرة القطن وحده أن يقربنا من الاكتفاء الذاتي الكامل من الزيوت إذا ما عادت مساحات زراعته إلي مليون فدان علي أن يستكمل الباقي من دوار الشمس والصويا اللذين يناسبهما المناخ المصري والموسم الصيفي الخالي من الزراعات الاقتصادية بعيدا عن لب القزقزة وسوداني التسالي حيث لا يوجد في العروة الصيفية إلا زراعات الأرز والقطن والذرة مخصص لها مساحة7.2 مليون فدان لا ندري بماذا تزرع!!
هذه الحاصلات الثلاث المهمة تقلصت مساحات زراعتها إما بسبب التقدير الخاطيء لمساحات اكتفائنا الذاتي واستهلاك الأول منها للماء وبسبب ذلك وصل سعر الكيلو جرام من الأرز إلي خمسة جنيهات ونحن ما زلنا في أول موسم الحصاد! أو بسبب رفض استلام محصول الذرة للخلط مع القمح أو اعتزال زراعات القطن بكامل إرادتنا وبذلك نكون قد أفرغنا الساحة تماما لزراعات اللب والسوداني صيفا بعيدا عن وجع دماغ هذه الزراعات الاقتصادية. الأمر الثالث هو الكسبة الناتجة من عصر بذرة القطن والتي تستخدم بكفاءة في تغذية الحيوانات اللاحمة, والتي نعاني أيضا فجوة غذائية فيها تتجاوز نسبتها30%.
من السابق يبدو الأمر واضح تماما في أن زراعات القطن تحمل الخير الكثير لمصر كمحصول كساء وغذاء وعلف بمعني أننا نستفيد من محصوله بكفاءة عالية كما أن مناخ مصر وصحاريها وأراضي مشروعاتها القومية يمكن أن تستعيد لمصر عرشها المفقود في الأقطان الطويلة والقصيرة فليس من المعقول أن تهبط مصر إلي الترتيب الخامس عشر عالميا في إنتاج القطن بعد أن كنا في الصدارة.
في منتصف مارس يحين موعد زراعة القطن في موسم زراعي صيفي خال من الحاصلات الاقتصادية فما أحوجنا إلي استعادة عرش القطن المفقود بدءا من هذا العام في عالم متغير ومتقلب.