الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد[1]:
فإني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بأبناء كرام، وإخوة في الله في مقر جامعة الإمام محمد بن سعود رحمه الله للتواصي بالحق والتناصح والتعاون على البر والتقوى، وعنوان الكلمة: "فضل العلم والعمل".
وأسأل الله جل وعلا أن يجعل هذا اللقاء لقاءً مباركا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعاً، وأن يمنحنا وإياكم وسائر المسلمين الفقه في الدين والثبات عليه، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم، ويصلح قادتهم، كما أسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا لكل خير، وأن يعينهم على كل خير، وأن ينصر بهم دينه، وأن يصلح لهم البطانة، وأن يجعلنا وإياكم وإياهم من الهداة المهتدين، إنه جل وعلا على كل شيء قدير.
أيها الإخوة في الله: إن الله جل وعلا خلق الخلق ليعبدوه، وأرسل الرسل وأنزل الكتب لهذه الحكمة العظيمة، لدعوة الناس إلى عبادة الله وبيانها لهم وإيضاحها لهم، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ[2]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[3]، وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ[4]، وقال عز وجل: الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ[5]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((من سلك طريقاً يلتمس به علماً؛ سهل الله به طريقاً إلى الجنة))[6]، ويقول أيضا عليه الصلاة والسلام: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيثاً أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لاتمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به))[7] متفق على صحته. وهذا الحديث العظيم يبين لنا أقسام الناس وأنهم ثلاثة:
قسم: تفقهوا في الدين وعلموا وعملوا، فهم مثل الأرض الطيبة التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، تعلموا وتفقهوا في الدين وعلموا الناس.
وقسم: تعلموا وتفقههوا ونقلوا العلم إلى الناس، وليس عندهم من التوسع ما عند الأولين في التعليم والتفقيه في الدين، بل يغلب عليهم الحفظ ونقل الأخبار والروايات.
وقسم ثالث: أعرضوا، فلم يتفقهوا في الدين ولم يحملوه، فمثلهم كمثل القيعان التي لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً.
وهذا الحديث يدل على وجوب التفقه في الدين، والتعلم على كل مكلف؛ حتى لا يكون من الطائفة الثالثة، ثم أنت ياعبد الله مخلوق لعبادة الله، مأمور بها، ولاسبيل إلى أن تعرفها وأن تفقه فيها إلا بالعلم، كيف تؤدي عبادة لا تعرفها؟ وأنت مخلوق لها، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[8]، وأنت مأمور بها، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[9]، والرسل بعثوا بها والدعوة إليها، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ[10].
ولا سبيل إلى هذه العبادة وأدائها على الوجه المطلوب إلا بالله ثم بالعلم والتفقه في الدين، وهذه العبادة هي دين الإسلام، هي الإيمان والهدى، هي طاعة الله ورسوله، هي توحيد الله واتباع رسول الله عليه الصلاة والسلام، هي الهدى الذي بعث الله به نبيه في قوله جل وعلا: وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى[11]، هذه العبادة هي توحيد الله وطاعته، هي اتباع الرسل، هي الانقياد لشرع الله، هي الإسلام، هي الإيمان هى الهدى، هي التقوى والبر، هذه هي العبادة، فالواجب التفقه فيها والعلم والتبصر من منطلق الكتاب العزيز والسنة المطهرة.
وهذان منبع العلم: القرآن العظيم، والسنة المطهرة هما السبيلان لمنهج الله واتباعه، ثم إجماع سلف الأمة الذي استند إلى هذين الأصلين، هو: الأصل الثالث في معرفة الحق واتباعه، يقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))[12]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))[13]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً؛ سهل الله له به طريقاً إلى الجنة))، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لاينقص ذلك من آثامهم شيئاً))[14].
ويقول عليه الصلاة والسلام يوماً لأصحابه: ((أيحب أحدكم أن يذهب إلى بطحان - وادٍ في المدينة - فيرجع بناقتين عظيتين سمينتين، بغير إثم ولا قطع رحم؟ قالوا: نحب ذلك يا رسول الله، قال: لأن يغدو أحدكم إلى المسجد فَيَعلَم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين عظيمتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع، ومن أعدادهن من الإبل))[15].
فأنت يا عبد الله مخلوق لهذه العبادة، مأمور بأداءها على الوجه المطلوب الذي شرعه الله، ولا سبيل لك إلى ذلك إلا بالله ثم بالتفقه في الدين.
ووصيتي لنفسي وإخواني المستمعين، ولكل من بلغته هذه الكلمة، وصيتي للجميع: تقوى الله في السر والعلن، والعناية بالتفقه في الدين، والتبصر في الدين، فعلى كل مكلف أن يتعلم، الواجب على كل مكلف أن يتعلم ما لا يسعه جهله، من الرجال والنساء، حتى يتعلم ما أوجب الله عليه، وما حرم عليه، وحتى يؤدي ما أوجب الله عليه على بصيرة، وحتى يمتنع عما نهى الله عنه على بصيرة، هذا واجب الجميع.
وعلى أهل العلم وفقهم الله أن يعلّموا ويبينوا، وأن يصبروا، عليهم أن يفقهوا الناس وأن يعلموا الناس وأن يبينوا ما عندهم من العلم، يقول الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[16]، ويقول سبحانه وتعالى: وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ[17].
فالله أخذ ميثاق أهل الكتاب أن يبينوا ولا يكتموا، وكما أخذ على أهل الكتاب أخذ علينا؛ فعلينا أن نبين وأن نوضح، وعلى كل مسلم أن يتعلم ويسأل، قال تعالى: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ[18].
فالواجب التعلم والتبصر والعمل، فلابدّ أن تتعلم ما أوجب الله عليك عن طريق الكتاب والسنة، عن طريق علماء السنة - علماء الحق -، وأن تسأل ربك التوفيق والإعانة، ولابد أن تعمل، لابد من العمل... وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ[19]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ[20]، والتقوى هي العمل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ[21].
فأنت مأمور بتقوى الله، مأمور بالإسلام، مأمور بالإيمان، وهذا هو العلم والعمل، قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ[22]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة))، وقد روي: ((بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق))[23].
قال تعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى[24]، وقال سبحانه: وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى[25].
فأنت مأمور بالتفقه والتعلم حتى تعرف هذا الدين، تعرف ما هي التقوى، وما هو الإسلام، وما هو الإيمان، وما هو البر، وما هو الهدى، وهذه الكلمات كلها ترجع إلى شيء واحد هو توحيد الله وطاعته، وتوحيد الله وطاعته هما عبادة الله التي خلقنا لها، وهذا هو الإيمان والهدى، وهذا هو البر والتقوى، وهو الإسلام الذي قال فيه سبحانه وتعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ[26]، أن تعلم ما أوجبه الله عليك، وأصله توحيد الله والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، وأصل الدين كله شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وحقيقتهما توحيد الله والعباده، وتخصيصه بها عن إيمان وصدق، مع الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، والسير على منهاجه في كل أمرك وفي كل عباداتك.
فشهادة أن لا إله إلا الله توجب عليك الإخلاص لله، وتخصيصه بالعبادة أينما كنت، في السر والعلن، في الشدة والرخاء، في جميع الأحوال.
وشهادة أن محمداً رسول الله، توجب عليك اتباعه، والإيمان بأنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأن الله أرسله إلى الناس عامة جنهم وإنسهم، وأن عليك اتباعه والانقياد لشرعه كما أمر الله بذلك في كتابه في قوله: وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ[27]، وقوله: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا[28]، ويقول سبحانه: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[29]، ويقول جل وعلا: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى[30]، وهو محمد عليه الصلاة والسلام، وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[31]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((إني أوتيت القرآن ومثله معه))[32].
فعلى الأمة جميعها رجالها ونسائها، على جميع المكلفين، على جميع الجن والإنس أن يوحدوا الله، وأن يخصوه بالعبادة، وأن يؤمنوا بأنه ربهم وإلههم الحق، وأن يؤمنوا بأسمائه وصفاته، ويثبتوها له على الوجه اللائق بجلاله بلا تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، وعليهم أن يخصوه بالعبادة، وأن يطيعوا أوامره، وأن ينتهوا عن نواهيه.
هذا هو الواجب على الجميع علماً وعملاً، لهذا خُلقوا، وبه أُمروا، والواجب على الجميع التواصي بهذا الأمر والتناصح فيه، قال جل وعلا: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[33].
هذه أخلاق المؤمنين والمؤمنات، وهذه أوصافهم: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ، ليسوا أعداء وليسوا خصوماً، ولكنهم أولياء وأحباب، هذا وصفهم أحباب فيما بينهم يتناصحون ويتواصون بالحق، لا غلّ بينهم ولا حقد ولا كذب ولا غش ولا خيانة، ولكن ولاية ومحبة وتعاون وتواصٍ بالحق.
هكذا المؤمنون والمؤمنات، فإذا وجدت من نفسك غلاً على أخيك أو كذباً أو ظلماً؛ فاعلم أنك قد نقصت إيمانك وأخللت إيمانك وأضعفت إيمانك بهذا الخلق الذميم الذي وجدته من نفسك، من خيانة أو غش أو غيبة أو نميمة أو كذب أو ظلم، قال صلى الله عليه وسلم: ((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه))[34].
لذا عليك أن تحاسب نفسك وتجاهدها أينما كنت، يروى عن عمر رضي الله عنه أنه كان في خطبة يقول: (حاسِبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ[35].
ويقول الله جل وعلا: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ[36]، ويقول جل وعلا: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[37].
هذه أخلاق المؤمنين... أولياء متناصحون، متعاونون على البر والتقوى، متواصون بالحق والصبر عليه، فإذا وجدت من نفسك خللاً في هذا فاعرف أنه نقص في دينك، ونقص في إيمانك، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه))[38]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى))[39]، ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته))[40] متفق على صحته من حديث ابن عمر رضى الله عنهما، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه))[41] أخرجه مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فالواجب عليك يا عبد الله، وعليك يا أمة الله: محاسبة النفس وجهادها في طلب العلم، والتفقه في الدين، وأداء حق أخيك في الله وأختك في الله، فكل واحد هكذا؛ يتفقه، ويتعلم، ويتبصر، ويجاهد نفسه حتى لا يغش أخاه، وحتى لا يظلم أخاه ولا أخته في الله، وحتى يكون ولياً لأخيه وأخته في الله، ولا حقد ولا كذب ولا غش، ولا خيانة، ولا ظلم، وحتى يبذل وسعه في التفقيه في الدين والدعوة، عن طريق حلقات العلم، وكذا عن طريق الإذاعة، وكذلك المكاتبة، وأيضاً عن طريق الهاتف، وكذا عن طريق المشافهة.
هكذا المؤمن ناصح لأخيه أينما كان، وهكذا المؤمنة ناصحة لأخيها في الله وأختها في الله، فالمؤمن ناصح لإخوانه، وأخواته في الله، والمؤمنة كذلك، كما سمعتم في قوله سبحانه في سورة التوبة: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ[42]، وعدهم الله الرحمة بهذا العمل بالإيمان وسلامة القلوب والولاية بينهم، ومع ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كونك ولي أخيك وولي أختك في الله لا يمنع من أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، بل يوجب ذلك.
فالأخوة في الإيمان توجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع إقام الصلاة كما أمر الله، وأداء الزكاة كما أمر الله، مع طاعة الله ورسوله في كل شيء، وأنت موعود بالرحمة على هذه الأخلاق، وعلى هذه الأعمال، فدين الإسلام قول وعمل، علم وعمل، يزداد بالعلم والعمل والتقوى، وينقص بضد ذلك.
والرحمة تحصل للمؤمن بأعماله الصالحة، وتقواه لله في الدنيا والآخرة، يرحم في الدنيا بالتوفيق والإعانة والتسديد، ويرحم في الآخرة بدخول الجنة والنجاة من النار، بسبب إيمانه وتقواه، وقد جمع الله هذا النصح وهذه الولاية في أربع خصال في الإيمان والعمل، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وهذه جماع الدين كله، فالدين كله ينحصر في هذه الأربعة؛ من جمعها أفلح، وتم ربحه، ومن ضيعها تمت خسارته، ومن ضيع شيئاً منها ناله من الخسران بقدر ذلك.
فالناس في خسران، قال تعالى: إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ[43] الجن والإنس في خسران: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[44]، هؤلاء هم الرابحون: الَّذِينَ آمَنُوا، يعني: علموا الحق وآمنوا به وصدقوا به، وآمنوا بأن الله معبودهم الحق وإلههم، وآمنوا بالرسل وباليوم الآخر، والجنة والنار، والحساب والجزاء، وآمنوا بكل ما أخبر الله به ورسوله.
ثم مع هذا الإيمان حققوا ذلك بالعمل وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، آمَنُوا وَعَمِلُوا فأدوا ما أوجب الله، واجتنبوا ما حرم الله، هكذا المؤمن.
ثم أمر ثالث: وهو من العمل ومن الإيمان، ولكن خصه الله بالذكر؛ لعظم شأنه، وهو التواصي بالحق، والتواصي بالحق عمل وإيمان، داخل في الإيمان، وداخل في العمل، ولكن نص الله عليه بهذه الصورة؛ لعظم الأمر، ليعلم المكلفون، وليعلم المؤمنون: أنه لابد من التواصي بالحق.
وأمر رابع: وهو التواصي بالصبر؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يعمل ويتعلم ويتفقه، ويعلم غيره، ويأمر غيره، إلا بالله ثم بالصبر، فمن لم يصبر لم يفعل شيئاً، مثل ما قال لقمان لابنه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ[45]، ويقول الله جل وعلا: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ[46]، ويقول سبحانه: وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[47]، ويقول لنبيه: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ[48].
فعلى كل مؤمن ومؤمنة التخلق بهذه الأخلاق الأربعة، والاتصاف بهذه الصفات الأربع: إيمان صادق بالله ورسوله يتضمن الإيمان بالله وأنه معبودك الحق، وأنه ربك، وأنه الخلاق العليم والرزاق لعباده، وأنه سبحانه المسمى بالأسماء الحسنى والموصوف بالصفات العلى، وأنه سبحانه لا شبيه له، ولا مثل له ولا ند له، وأنه جل وعلا مستحق لأن يعبد.
ثم الإيمان بالرسل جميعاً، من أولهم إلى آخرهم، من آدم ونوح إلى آخرهم، وخاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام، نؤمن بأنه رسول الله وأنه خاتم الأنبياء، وأفضلهم، وأنه رسول إلى جميع الثقلين الجن والإنس، كما قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا[49]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا[50]، وقال جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ[51].
فهو رسول الله إلى الثقلين الجن والإنس، وهو رحمة للعالم كله عليه الصلاة والسلام، بشيراً ونذيراً للجميع، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا[52].
ثم مع الإيمان والعمل التواصي بالحق والتناصح، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ[53]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا[54]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا[55]. إلى غيرها من الآيات داخل في هذا التواصي بالحق والتواصي بالصبر.
لكن في سورة العصر نص على ذلك، فقال: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[56]، وهذا من إيمانك ومن عملك الصالح، أن تتواصى مع إخوانك بالحق والصبر، فالطلبة يتواصون فيما بينهم بالصبر على الحق، فكل واحد ينصح لأخيه، في مذاكراتهم، وفي اجتماعهم، ليس هناك غل ولا حقد، ولا حسد، يجتمعون ويتذاكرون في الدروس وفي العلم، ويبحثون، عن إخلاص لله ومحبة لله وتعظيم لله، ورغبة في الحق، ثم من كان عنده علم أفاد به أخاه الطالب الآخر، وأحب أن يزيده خيراً في مباحثاته ومذاكراته.
وإذا أتوا إلى الأستاذ أتوا بأدب، ورغبة في العلم، وإخلاص وصدق، وسألوه عما أشكل، وأقبلوا على الدرس واعتنوا به قبله وبعده، مع العناية بسؤال الأستاذ عما أشكل بأدب، وعن نية صالحة في طلب الحق ومعرفته.
ومن أسباب ذلك: العناية بالمتون، وأعظمها: القرآن الكريم، والحرص على حفظه وتدبر معانيه، والإكثار من تلاوته، وهو كتاب الله، وهو حبل الله المتين، وهو الأصل الأصيل؛ هو أعظم أصل، وأعظم كتاب، وأشرف كتاب، فالعناية به تكون أهم عناية، تدبراً وتعقلاً وعملاً.
ثم السنة، العناية بالسنة وحفظ ما تيسر منها، مثل بلوغ المرام، وعمدة الأحكام، وغير ذلك، يحرص الطالب على حفظ ما تيسر من السنة، مع العناية بالقرآن الكريم والمذاكرة فيه وتدبر معانيه، ومراجعة كتب التفسير فيما أشكل.
ومع هذا كله المذاكرة بين الطلبة ومع الأساتذة، عن إخلاص، وعن صدق، ورغبة، لا عن رياء ولا عن سمعة، ولكن عن صدق وعن رغبة في العلم، فإذا علم الله منك ذلك زادك حفظاً ووفقك وأعانك، وجعل لك لسان صدق بين إخوانك.
فالوصية للجميع هو النصح للطلبة، والإخلاص لله في ذلك، وحفظ الوقت، كل واحد يحفظ وقته من ليله ونهاره، وقت لشغلك، وقت للمذاكرة، وقت لحاجتك لنفسك، وقت لنومك، فيكون وقته منظماً، قد عني به، حتى لا يضيع منه شيء، وقت للعلم والعمل والدرس والمذاكرة، ووقت لحاجة البيت والأهل، ووقت للنوم.
المؤمن الحق يرتب نفسه ويجاهدها في أوقاته كلها، ويحذر ما حرم الله عليه، يحفظ وقته، ويحفظ جوارحه عما حرم الله عليه، فيجتهد في حفظ هذه الجوارح حتى تكون في طاعة ربه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه...))[57] الحديث.
فالمؤمن هكذا؛ يعتني بما أوجب الله عليه، ويدع ما حرم الله عليه، ويحرص على التقرب إلى الله بما يسر الله من النوافل، عن إخلاص ورغبة فيما عند الله، ويحفظ وقته للعلم والعمل، ومع إخوانه يتواضع ولا يتكبر، يقصد العلم والفائدة، ويكون لين الجانب متواضعاً مع إخوانه ومع أساتذته، ويتأدب مع الأستاذ، ويسأل بقصد العلم، وبقصد الفائدة، وبالعبارة الحسنة والأدب الصالح.
وعلى العالم أن يتقي الله وأن يبذل وسعه في إيضاح الحق للطلبة، وأن يصبر وأن يتحمل، وأن يجتهد في العبارات الواضحة والأسلوب الواضح، وأن يعتني بكل ما يحتاجون إليه؛ حتى يتخرج الطالب عن علم وبصيرة، وعن ثقة بما أعطاه الله من العلم.
ومن أهم الأمور: العناية بالعمل، يكون الطالب قدوة لغيره، وهكذا الأستاذ، فالتعليم يكون بالعمل أيضاً، فالأستاذ يعلم بعمله الطيب وبأخلاقه الكريمة؛ حتى يتأسى به الطالب، بالمحافظة على الصلاة، والمسارعة إليها، والطمأنينة فيها، بمسارعته إلى كل خير، في تواضعه، في حرصه على العلم، في تنبيه الطالب على ما ينفعه، إلى غير ذلك من الأخلاق الجيدة الطيبة، حتى يتأسى به الطالب في أخلاقه وأعماله.
وعلى الطلبة أن يكونوا أيضاً قدوة في الخير، يتأسى بهم أهلوهم، يتأسى بهم جيرانهم، يتأسى الطالب الصغير بالطالب الكبير في أخلاقه وأعماله الطيبة، هكذا طالب العلم: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))، ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنه))، وله مثل عمل أخيه، إذا أرشده وعلمه: له مثل أجره، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله))[58].
الرسل لهم مثل أجور أتباعهم، ونبينا صلى الله عليه وسلم له مثل أجور أتباعه، وكل عالم له مثل أجر من هداه الله على يديه، وهكذا الطالب، وهكذا غيره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله))، ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))، ويقول صلى الله عليه وسلم لِعَلِيّ لما بعثه إلى خيبر: ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم))[59].
فالوصية مرة أخرى: تقوى الله، والتواصي بالحق، والتناصح والصبر والعمل، وأن يكون كل واحد مثالاً طيباً، معروفاً بالأخلاق الطيبة، والأعمال الصالحة لزملائه وإخوانه وأهل بيته، والوصية أيضاً للمدرسين والعلماء: أن يتقوا الله وأن يصبروا على تعليم الناس، وأن يحرصوا على تثقيفهم بالأساليب الحسنة، بالتواضع والأسلوب الحسن والصبر والمصابرة في ذلك.
والله المسئول أن يوفقنا إياكم جميعاً لما يرضيه، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين.
ومن الواجب أيضاً العناية بأهل البيت، تعليم أهل البيت، من إخوة وأخوات وبنين وبنات وغيرهم، كل واحد من الطلبة والعلماء: الواجب عليه أن يعتني بأهل بيته، وأن يرشدهم ويعلمهم؛ حتى يستفيدون من علمه وفضله، وأعماله الطيبة.
نسأل الله للجميع التوفيق والهداية، ونسأل الله للجميع حسن الختام، ونسأل الله جل وعلا أن يمنحنا وإياكم المزيد من كل خير، وأن يبعدنا وإياكم من مضلات الفتن، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يجعلنا جميعاً من الهداة المهتدين، إنه جل وعلا جواد كريم. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله واصحابه وأتباعه بإحسان.
[1] محاضرة ألقاها سماحته في جامعة الإمام بالرياض، وقرأت على سماحته بتاريخ 4/6/1419هـ.
[2] سورة الذاريات، الآيات 56 - 58.
[3] سورة البقرة، الآية 21.
[4] سورة النحل، الآية 36.
[5] سورة إبراهيم، الآية 1.
[6] أخرجه مسلم برقم 8467 (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار) باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر.