بنود بيعة العقبة الثانية
قال رسول الله فيما رواه الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: "تُبَايِعُونَنِي عَلَى:
1- السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ.
والسمع في النشاط مقبول، ولكن السمع في الكسل صعب، وكان من الممكن أن يقول رسول الله تبايعونني على السمع والطاعة وليسكت، ولكن الغرض هو توضيح الرؤية تمامًا؛ ليؤخذ قرار حمل الأمانة على بصيرة.
2- وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ.
3- وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرِوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
4- وَعَلَى أَنْ تَقُومُوا فِي اللَّهِ لاَ تَأْخُذُكُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ.
5- وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ إِلَيْكُمْ، وَتَمْنَعُونْي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ".
وقفات مع بنود البيعة
وانتهى البيان القوي العجيب، ولنا مع هذا البيان وقفات:
أولاً: البيان في منتهى الوضوح، ليس هناك مجال للتراضي أو للتمييع أو لسوء الفهم أو للغموض، هذه طبيعة الدعوة بكل صراحة وبكل وضوح، من أراد أن يحملها على هذه الصورة فقد فاز ورشد، ومن ظن أنها سهلة هينة فقد خاب ظنه، إنه الاختبار الصعب الشاق الذي وصفه ربنا بقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].
ثانيًا: شتان بين ما طلبه رسول الله من الأنصار في بيعة العقبة الأولى وما طلبه منهم في بيعة العقبة الثانية، في الأولى كان الرسول يبني فردًا مسلمًا مؤمنًا يتصف بعقيدة سليمة وبأخلاق حميدة وخصال فاضلة، لا يسرق، لا يزني، لا يقتل، وهذا كله حسن وجميل، بل رائع، ولكن أن تبني أمة، فأنت تحتاج لما هو أعلى وأرقى، تحتاج لبذل وعطاء وكفاح وعرق ودماء، تحتاج لمكابدة، لصبر، لقوة تحمل، لتجرد، تحتاج لمن باع نفسه وماله ووقته وجهده وحياته كلها لله .
طاعة في النشاط والكسل، نفقة في العسر واليسر، أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، القيام في الله دون أن تأخذك فيه لومة لائم، الدفاع عن دين الله وعن سنة الرسول كما تدافع عن نفسك وزوجتك وأولادك، هذا هو الذي يحمل فوق أكتافه أمة.
أما أن يكتفي المؤمن بالاعتقاد الصحيح وبالصلاة والصوم واجتناب الكبائر من سرقة وزنا وقتل ويصبح صالحًا في ذاته فقط، وليس له علاقة بإصلاح المجتمع من حوله، فهذا جزء من الإسلام، وجزء محدود؛ لأنه ترك معظم الإسلام، والناس تحتاج لمن يقودها إلى الخير، والإسلام يريد من يدافع عنه، وما أكثر من يعتدي على حرمات المسلمين، فلا بد أن يوجد جيل يدافع عن حرمات المسلمين، وهذا الذي كان الرسول يريده في بيعة العقبة الثانية، يريد الأمة الصالحة القوية وليس فقط الفرد الصالح القوي، ولهذه الأسباب فإن رسول الله جعل الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، هو أعلى ما فيه، ويكفي أن البيعة الأولى والتي اهتمت ببناء الفرد المسلم -ولكن دون جهاد- قد عرفت في التاريخ ببيعة النساء، بينما عرفت بيعة العقبة الثانية بشروطها الصعبة بأنها بيعة الحرب وبيعة الجهاد.
ثالثًا: يتضح أيضًا من بنود هذه البيعة مبدأ التدرج في التربية عند رسول الله ، فمنذ عام مضى طلب رسول الله من الأنصار أمورًا معينة كانت في مقدور الرجل حديث الإسلام، والآن بعد عام من الدعوة والإيمان والقرب من الله يطلب أمورًا أعلى، وستمر الأيام ويأتي وقت يطلب فيه ما هو أعلى وأعلى مثل القتال في بدر، ومثل بيعة الرضوان التي عرفت في التاريخ ببيعة الموت.
رد الأنصار
ألقى رسول الله بيانه وكان في انتظار رد الأنصار، والوفد كان برئاسة البراء بن معرور t، نعم البراء لم يسلم إلا منذ أيام قلائل، لكنه كان سيد القوم بل قيل إنه رئيس الوفد اليثربي بكامله مسلمين ومشركين، وإن كان الأصح أن رئيس الوفد بكامله كان عبد الله بن أبي بن سلول. قام البراء بن معرور t الذي لم يؤمن إلا منذ أيام قلائل، ولكن سبحان الله لقد تمكّن الإيمان من قلبه تمكنًا عظيمًا، وجدناه يتحدث -وهو يلقي كلمة وفد الأنصار- وكأنه قد قضى في محاضن التربية الإسلامية سنوات وسنوات، ولكنا -سبحان الله- ما عدنا نستغرب ذلك من الأنصار، هذا الإيمان العميق من طبيعة الأنصار، هذا العطاء بلا حدود من طبيعة الأنصار، رأيناه من قبل في أسعد بن زرارة t، ورأيناه في سعد بن معاذ t، ورأيناه في أسيد بن حضيرt، ورأيناه في عبد الله بن حرام t، ورأيناه في غيرهم، وسنراه في مواقف أخرى كثيرة، رضي الله عن الأنصار.
قام البراء بن معرور t يتكلم عن وفد الأنصار، فقال وهو آخذ بيد رسول الله كما جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله: والذي بعثك بالحق نبيًّا، لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا (أي نساءنا)، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب، وأبناء الحلقة، ورثناها كابرًا عن كابر.
نلاحظ اشتياق الأنصار إلى البيعة، فهم لا ينظرون إليها على أنها تكليف خطير، ولكن على أنها تشريف وتمجيد ورفعة.
ولكن -سبحان الله- والبراء يتكلم ولم ينتهِ من كلامه بعد، اعترض كلامه رجل عظيم من الأنصار هو أبو الهيثم بن التيهان t، وهو من الصحابة الأجلاء، اعترض كلامه بخطاب موجه إلى رسول الله ، قال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال (يعني اليهود في المدينة) حبالاً وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟
هذا كلام في منتهى الخطورة، ولنا معه أكثر من تعليق:
أولاً: أن هذه مباحثات وليست أوامر من اتجاه واحد، والجندي قد يعرض رأيه من زاوية ومن زاوية أخرى يناقش ويحاور، ولكن إذا اتخذ قرارًا ما فالكل يعمل على تنفيذه، لكن الآن في هذا الموقف نحن في المرحلة التي تسبق القرار، ولا بد من التثبت من كل نقطة.
ثانيًا: موقف الأنصار خطير فعلاً، فهم على معاهدات مع اليهود، وسيقومون بقطع هذه المعاهدات ووقف العلاقات الدبلوماسية مع اليهود، واليهود يحيطون بالمدينة المنورة إحاطة السوار بالمعصم، وهم من أهل الحروب وصناع السلاح وأصحاب قوة اقتصادية هائلة، ويمتلكون التجارة والصناعة والزراعة بل والماء، والأنصار الآن سيتحدون مع رسول الله في جبهة واحدة، ولكن ماذا يحدث لو تركهم رسول الله بعد انتصاره على مكة في يوم من الأيام؟ ماذا سيفعلون مع اليهود آنذاك؟ سيكون الموقف في غاية التأزم.
وقد يقول قائل: إن هذا الاعتراض فيه تعدٍّ على رسول الله ؛ لأنه يفترض حدوث أمر هو ليس من الأمور الطيبة، والرسول لا يأتي منه إلا طيب، ولكن سبحان الله، إن هذا الاعتراض يزيد من قوة الميثاق، ويزيد من قيمة البيعة، وهو بمنزلة التوثيق لكل بند من بنودها. وإذا كان أبو الهيثم بن التيهان t متأكدًا من أن الرسول سيبقى معهم، فمن أدراه أن هناك رجالاً من الأنصار المشاركين في البيعة في نفوسهم هذا القلق من موقف اليهود ومن مستقبل المدينة، فهو إن أثار هذه النقطة الآن فسيغلق كل أبواب الشيطان على نفوس الأنصار، والرسول بصدره الرحب وفقهه الواسع يقرأ كل هذه الأفكار ويقدر كل هذه المشاعر، فماذا فعل إزاء هذا الاعتراض، أتراه قيَّد هذه الحرية؟ أتراه قال: إن في هذا تطاولاً على القيادة؟ أتراه قال: كيف لا تحسن الظن يا أبا الهيثم في قولي وفعلي وأنا من أنا؟ أبدًا، إن رسول الله تبسَّم! نعم تبسَّم، ثم قال: "بَلِ الدَّمَ الدَّمَ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ".
هل نقص من قدر القيادة شيء عندما اعترض أحد الجنود على نقطة ما يريد توضيحها؟ أبدًا، القيادة الواثقة من نفسها لا يجب أن تغضب لهذا، بل تشجعه، حتى يخرج كل الجنود ما في صدورهم، فيقفوا إلى جانب القادة وهم يشعرون بأنهم معها وهي معهم، أو كما قال رسول الله : "أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي".
يذكرني هذا الموقف بموقف آخر على النقيض تمامًا منه، مسئول كبير في أحد البلاد العربية وقف يرد على تعليق ذكره أحد المعترضين عليه، يذكر المعترض أن البلد ليست في الرخاء الذي يذكره المسئول الكبير، بل فيها كذا وكذا من المشاكل الاقتصادية، فقال المسئول الكبير بلهجة حادة: الأمر ليس كذلك، يكفي أنك تعترض ثم تعود إلى بيتك آمنًا. وكأن الأصل أن الذي يعترض ويناقش يحبس ويجرم ويعزر، فإذا تُرك يعترض -فقط يعترض- دون أن تقيد حريته فهذا فضل ومِنّة!
أين هذا من موقف رسول الله ؟! وهو أحكم البشر وسيد الخلق وهو النبي المرسل، وهو الرسول الذي يوحى إليه، وهو المعصوم، ومع كل هذه المقومات يقبل الاعتراض ويبتسم وينفي عن نفسه الاتهام بالتخلي عن الأنصار عند النصر والتمكين، هكذا في بساطة.
وتفكر معي، كيف كان أبو الهيثم بن التيهان قبل اعتراضه في نفسية حائرة، وأفكار مضطربة، ثم كيف أصبح بعد كلام رسول الله في وضع مستقر ونفسية هادئة.
قاعدتان لبناء الأمم
والرسول يقرر في كلامه هذا قاعدتين أصيلتين في بناء الأمم:
القاعدة الأولى
هي أن كل إنسان -أي إنسان- قابل للمناقشة وللحساب وللاستجواب ولعرض الرأي وللمعارضة؛ لأنه في النهاية بشر، والبشر قد يخطئون، بل لا بد أن يخطئوا، إلا الذين عصمهم الله وهم الأنبياء.
القاعدة الثانية
هي أنه إذا شعر الجندي أن القائد معه في الخندق، يعاني مما يعاني منه ويشكو مما يشكو منه ويتألم منه، فإن الجندي يبذل أقصى وسعه لخدمة القضية التي من أجلها جلس هو والقائد في خندق واحد، أما إذا شعر الجندي باستعلاء القائد وتكبره، وسعادته وقت حزن الجنود، وترفه وقت بؤس الجنود، وأمنه وقت خوف الجنود، وشبعه وقت جوع الجنود، وراحته وقت تعب الجنود، إذا شعر الجندي بكل هذا فإنه يفقد كل حماسة لخدمة القضية التي من أجلها وقف وحيدًا في خندقه، يصبح جسدًا بلا روح، لو واتته الفرصة لينكص على عقبيه لفعل، بل قد يغدق الأموال ويدفع الرشاوي حتى يهرب من الجندية لماذا؟ لأنه فقد مصداقية القائد، وفقد قدوة القائد.
لا، لا، رسول الله ليس كذلك، رسول الله القائد العطوف الحنون الرءوف الرحيم: "بَلِ الدَّمَ الدَّمَ وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ".
وعندما قال رسول الله هذه الكلمات نزلت بردًا وسلامًا على الأنصار، فقاموا يبايعون وهم مطمئنون، ولكن حدث أمر عجيب، لقد قام العباس بن عبادة بن نضلة الخزرجي -وهو من رجال بيعة العقبة الأولى ومن السابقين- قام ليخاطب قومه، وكأنه يريد أن ينبه الناس لخطورة ما هم يقدمون عليه، قال العباس بن عبادة t: هل تدرون علامَ تبايعون هذا الرجل؟
قالوا: نعم.
فقال العباس بن عبادة t موضحًا لهم: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس (أي كل الناس)، فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهِكَت أموالكم مصيبةً، وأشرافُكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نَهْكَة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة.
يريد العباس بن عبادة t أن يوضح الرؤية للأنصار، يشرح لهم بالتفصيل طبيعة المعركة، وطبيعة المرحلة، النصر ليس أمرًا سهلاً قريبًا، طريق النصر مليء بالأشواك والجراح والآلام، طبيعة المعركة بين الحق والباطل أن يفقد أهل الحق أموالهم، وأن يفقد أهل الحق أشرافهم، وأن يفقد أهل الحق كل شيء، كل شيء.
ولا بد أن يصبروا، فإذا بلغ الألم إلى أقصاه وثبت المؤمنون وصبر الصابرون جاء النصر لا محالة {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
سمع الأنصار هذه الكلمات من العباس بن عبادة t فزادتهم قوة إلى قوتهم، وإيمانًا إلى إيمانهم، وقالوا في إصرار: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف.
الأنصار يرضون بالثمن
ثم نظر الأنصار إلى رسول الله يسألونه عن الثمن، الثمن لمصيبة الأموال، وقتل الأشراف، الثمن للطاعة المطلقة لله ولرسوله في النشاط والكسل، الثمن للنفقة في العسر واليسر، الثمن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الثمن للقيام لله دون أن تأخذهم فيه لومة لائم، الثمن لنصرته وحمايته مما يحمون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم، الثمن لحرب الأحمر والأسود من الناس، الثمن لكل هذه التضحيات.
قالوا: فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفّينا بذلك؟
قال: الجنة.
يا الله! الجنة، الجنة وفقط، الثمن لكل هذه التضحيات الجنة، لم يعد بأي شيء آخر، لم يعد بدولة، ولا بتمكين، ولا بنصر، مع أن هذا كله سيحدث لا محالة، ولكن قد لا تراه، لكن قد تموت شهيدًا قبل التمكين بسنوات، قد تموت طريدًا شريدًا معذبًا، ولكن في النهاية، أنت إلى الجنة ذاهب {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} [التوبة: 111].
سمع الأنصار الثمن، فازدادوا حماسة، واشتاقت قلوبهم للجنة، فقالوا في صوت واحد: ابسط يدك يا رسول الله.
فبسط يده ، فقاموا يريدون المبايعة، لكن قام الصحابي الجليل السابق المجاهد الواعي أسعد بن زرارة t، وأمسك يد رسول الله يبعدها عن أيدي الأنصار، ثم قال: رويدًا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله.
قال أسعد يوضح: وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تَعَضَّكم السيوف، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله.
الصحابي الجليل أسعد بن زرارة يؤكد على نفس المعنى من جديد، الأمر ليس نزهة، من أراد أن يحيا حياة آمنة يعبد الله في بيته ومسجده، لا يسرق ولا يزني ولا يقتل ولكن ليس له علاقة بتمكين دين الله في الأرض ولا بالجهاد في سبيل الله ولا بالدعوة إلى الله ولا بالعمل الدءوب لله، ولا بالتضحية من أجله، فعليه أن يبايع بيعة النساء، هذه تكفيه، أما من أراد أن يبايع بيعة الرجال، وبيعة الحرب، فعليه أن يفقه هذه البيعة فقهًا جيدًا.
يحذرهم أسعد بن زرارة t أن يتسرعوا، احسبوا خطواتكم، فالفرار من الزحف أمر خطير، والتخلي عن نصرة الدين أمر شنيع، يقول لهم هذا الكلام وهو أصغرهم سنًّا t، فما أعظم شباب الأنصار!
لكن الأنصار كانوا قد سمعوا الوعد: الجنة فما عادوا يطيقون صبرًا، ما بينهم وبين الجنة إلا أن يبايعوا، قام الأنصار يتسارعون وقالوا: يا أسعد، أمط عنا يدك (أبعد عنا يدك)، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها.
يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: فقمنا إليه رجلاً رجلاً، فأخذ علينا البيعة يعطينا بذلك الجنة.
حتى النساء -المرأتان اللتان شاركتا في هذه المباحثات- بايعتا بيعة الحرب، السيدة نسيبة بنت كعب أم عمارة، والسيدة أسماء بنت عمرو رضي الله عنهن، ولكن البيعة لهما كانت مشافهة بالكلام، فما صافح رسول الله امرأة أجنبية قط.
وهكذا تمت البيعة الخالدة، البيعة التي غيرت من وجه الأرض، ومن يومها والأنصار يعرفون بالأنصار، أصبح اسمًا ملاصقًا لهم، جاء الأنصار، ذهب الأنصار، قام الأنصار، قعد الأنصار، هكذا أصبحوا أنصار الله، وأنصار رسوله ، وأنصار هذا الدين، والثمن الجنة.