وفد الخزرج يعود إلى المدينة
عاد الستة نفر من الخزرج إلى يثرب وكانوا على عهدهم مع رسول الله ، قاموا بالدعوة قدر استطاعتهم، استطاعوا أن يدخلوا بعض أ هل المدينة في الإسلام، ولكنهم عرّفوا أهل المدينة جميعًا بأمر هذا الدين الجديد، فقد تناسوا أمور القبلية تمامًا وأتوا إلى الإسلام برجلين من الأوس هما: أبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة رضي الله عنهما، وهذا أيضًا يحسب لهذين الصحابيين الجليلين اللذين قبلا الدخول في هذا الدين الجديد على أيدي رجال كانت بينهم وبين الأوس حروب ودماء.
بيعة العقبة الأولى
مرّ عام كامل والدعوة تأخذ وضعها في البلد الجديد يثرب، والوضع متجمد في مكة ورسول الله يقوم بدعوته مع الوفود الزائرة، واضطهاد المؤمنين في مكة ما زال على أشده.
بعد انقضاء هذا العام وفي موسم الحج جاء اثنا عشر رجلاً من أهل يثرب وقد تمكن الإيمان من قلوبهم منهم خمسة من الستة السابقين وسبعة من المسلمين الجدد، والتقوا مع رسول الله عند العقبة ودارت بينهم وبين رسول الله مباحثات في غاية الأهمية، كان رسول الله فيها حريصًا على تأسيس النواة الأولى التي ستقوم على أكتافها دولة الإسلام، فالآن القرائن تشير إلى أن هذه المدينة الجديدة يثرب قد تصلح لاستقبال رسول الله والمسلمين؛ وذلك لإقامة دولة هناك. لكن ليس هذا على وجه اليقين فمعظم أهل المدينة لم يدخلوا في الإسلام بعد وإن كانوا قد عرفوه، وكذلك فإن المؤمنين من أهل يثرب ما زالوا في أول طريق إيمانهم، وعلمهم قليل واختياراتهم محدودة، فأراد رسول الله أن يستوثق من قوة إيمانهم من ناحية، وأن يهتم بتعليمهم من ناحية أخرى، وأن يحرص على زيادة عددهم من ناحية ثالثة، فماذا فعل ؟
لقد عقد معهم رسول الله عهدًا في غاية الأهمية عرف في التاريخ باسم بيعة العقبة الأولى، فهذه بيعة أو عهد أخذه على المجموعة المكونة من اثني عشر رجلاً من الأنصار، وهو لم يأخذه على الستة الأوائل من عام سبق لأنهم كانوا حديثي العهد بفكرة الإيمان أصلاً، ورسول الله علمنا التدرج دائمًا في كل أموره حتى في تكاليف الإيمان، فهو الآن يطلب منهم أمورًا لم يطلبها منهم من قبل وسيسكت عن أمور سيطلبها منهم فيما بعد عندما يرتفعون أكثر في سُلَّم الإيمان وعندما توائم الظروف كما سنرى، تمت البيعة عند العقبة ولذلك عرفت باسم بيعة العقبة، وسميت الأولى لأنه ستحدث بيعة ثانية في نفس المكان بعد عام آخر.
كانت بنود هذه البيعة كما روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت t -وكان من المشاركين في هذه البيعة الجليلة- قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله على بيعة النساء (وعرفت بذلك لأنه لم يُفرض فيها حرب ولا جهاد) على أن لا نشرك بالله، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفَّيتم فلكم الجنة، وإن غَشِيتُمْ من ذلك شيئًا فأمركم إلى الله ، إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم.
تعليقات على بنود البيعة
في هذه البيعة قام فيها رسول الله بوضع حجر الأساس لبناء الأمة الإسلامية.
لقد أوتي رسول الله جوامع الكلام، فهذه البيعة قليلة الكلمات تحوي دستورًا متكاملاً لبناء اللبنة الأساسية التي تقوم على أكتافها أمة صالحة، والله إننا نحتاج لمجلدات ولسنوات لدراسة هذه الكلمات القليلة السريعة التي ذكرها رسول الله في هذه البيعة.
أولاً: أول شيء ذكره رسول الله هو القضية الأساسية المحورية في الإسلام، أن لا نشرك بالله، العقيدة الصحيحة، وعبادة الله وحده دون إشراك، والتلقي منه وحده دون غيره، وتقديمه على كل شيء. هذا هو البند الأول.
ثانيًا: البند الثاني والثالث والرابع والخامس في البيعة هي بنود ذكرت لأجل هدف واحد، وهو الارتفاع بأخلاق هذه الأمة إلى أعلى مستوى، لا تقوم الأمة على أكتاف من تهاونوا في خُلُق من الأخلاق، إن ضاعت الأخلاق ضاع كل شيء، ضاعت السياسة وضاع الاقتصاد وضاع الحكم وضاع القضاء وضاعت المعاملات وضاعت البلاد والعباد، بل إن رسول الله قصر الهدف من بعثته على إتمام مكارم الأخلاق، فقال : "إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ".
ثالثًا: أن هناك بندًا أخذه رسول الله على الأنصار أن لا يعصوه في معروف، وهو في هذا البند يوضح أمرين لا تقوم الأمة بغيرهما، أما الأمر الأول: فهو طاعة الرسول ، والرسول مبلغ عن ربه وأوامره إما أن تكون قرآنًا وإما أن تكون سنة، وكلا الأمرين ملزم للأمة الإسلامية، واللبنة التي تقوم على أكتافها الأمة لا بد أن تحرص على اتباع الرسول في كل صغيرة وكبيرة.
والأمر الثاني المهم في هذا البند هو أن الطاعة لا تكون إلا في معروف، وبديهي أن الرسول لن يأمر إلا بمعروف، وكان من الممكن أن يقول: ولا تعصوني فقط ويسكت، ولكنه في هذا المقام يضع أسس بناء الأمة الإسلامية، هذا العهد وهذه البيعة ليست خاصة بزمانهم فقط، إنما هي إعداد للأمة في كل أزمانها إلى يوم القيامة، والقائد الذي يقوم في مقام رسول الله بعد موت رسول الله لا بد أن يطاع، ولكن لا يطاع إلا في معروف، والمعروف هو ما جاء من الله ومن رسوله .. (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وهي قاعدة أصيلة في بناء الأمة الإسلامية.
رابعًا: التعليق الرابع على البيعة يتعلق أيضًا بأمر محوري في بناء الأمة الإسلامية، ما الذي ينتظره الجيل الذي سيبني الأمة الإسلامية أو الذي سيعيد بناءها؟ ما الجزاء؟ ما الثمن؟ أهو المال؟ أهو الرئاسة؟ أهو وضع اجتماعي معين؟ أهو أمن وأمان؟ أهو راحة واستقرار؟
كلا، إن الجزاء في كلمة واحدة فقط، قال رسول الله : "فَإِنْ وَفَّيْتُمْ فَلَكُمُ الْجَنَّةُ".
الجنة فقط هي الثمن، ولو وضع المسلم أي شيء إلى جوار الجنة ما أفلح، لا في بناء الأمة الإسلامية ولا في الآخرة.
الجنة فقط، أما كل الأثمان الأخرى من مال ورئاسة وأمن وراحة، فقد تأتي وقد لا تأتي، فليست هي القضية، وليست هي منتهى أحلام المؤمنين.. {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]. فقط الجنة.
وهنا يتضح الفارق الهائل بين مجموعة الأنصار التي بايعت هنا وبين قبائل بني شيبان وقبائل بني عامر وغيرها من القبائل التي اشترطت شروطًا معينة للإيمان برسول الله .
فمع كل التكاليف التي فرضت على الأنصار لم يكن هناك أي وعد بأي شيء إلا الجنة، وهنا يُربط المؤمن ربطًا وثيقًا بربه بدلاً من أن يُربط بدنياه، وهو درس محوري في بناء الأمة الإسلامية.
خامسًا: التعليق الخامس على هذه البيعة المباركة، هو أن الجهاد اختفى تمامًا من بنود البيعة، فالتربية المتدرجة من ناحية أمر في غاية الأهمية، هذه المجموعة ما زالت جديدة على الإسلام ولم يعش بين أظهرها من يزرع فيهم حياة الجهاد زرعًا أكيدًا، والجهاد أمر عظيم، وتضحية كبيرة، ولا يقدر عليه إلا من قطع شوطًا لا بأس به في طريق الإيمان، فهو كما قال رسول الله : "وَذِرْوَةُ سِنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى فالظروف في يثرب لا تسمح بجهاد وكذلك الظروف في مكة لا تسمح به، ما زالت الشوكة ضعيفة، وما زالت هناك فرصة كبيرة لإسلام أهل يثرب، وما زال هناك وقت لهجرة رسول الله إلى هناك، بل إن الرسول إلى هذه اللحظة لم يكن متأكدًا أن الهجرة ستكون إلى هذه البلد، فهذا لم يحدث إلا بعد بيعة العقبة الثانية، التي ستتم بعد عام من البيعة الأولى.
لهذه الأسباب لم يشر إلى موضع الجهاد في البيعة، وعرفت البيعة في التاريخ ببيعة النساء؛ لأن النساء لا يطلب منهن جهاد ولكن يطلب منهن كل ما طلب من الأنصار في هذه البيعة الأولى، وذلك كما جاء وصفه في آخر سورة التحريم.
وكان أيضًا من حكمة الرسول في هذا الأمر أنه لم يذكر أن الجهاد غير مطلوب منهم في هذه الفترة، بل سكت عنه ولم يشر إليه سلبًا أو إيجابًا، فأولاً كان هذا الأمر معروفًا في دين الإسلام حتى هذه الفترة، وكان الجهاد ممنوعًا بأمر الله {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]. ولم ينزل حكم جديد من الله ينسخ الحكم السابق.
وثانيًا -وهو أمر مهم جدًّا- أن الرسول لو كتب في هذه البيعة أنه لا جهاد عليكم، فإنه في المستقبل عندما يفرض الجهاد -وهو سيفرض حتمًا في وقت من الأوقات- سيكون صعبًا على المسلمين المبايعين أن يتقبلوا حذف بند وإضافة بند آخر، وخاصة لو كان هذا البند بندًا صعبًا كالجهاد، أمر نفسي بحت، لو قال إن الجهاد غير مطلوب منكم، فقد رفع هذا الأمر من الحسبان وستكون مفاجأة إذا فرض عليهم، أما إذا لم يشر إليه فهم يتوقعونه، قد يكون غدًا أو بعد غد أو بعد عام أو بعد عشرة أعوام ولكن حتمًا سيجيء؛ لأن الحرب بين الحق والباطل سُنَّة من سنن الله الكونية لا بد أن تحدث، وفوق ذلك فإن هناك أقوامًا في يثرب سيدخلون في هذا الدين، وحتمًا سيراجعون بنود هذه البيعة قبل الارتباط بالدين الإسلامي، وقد يدخلون الدين وهم مطمئنون لحذف بند الجهاد من تكاليفه، ولا يفقهون أن هذه مرحلة ستعقبها مراحل أخرى؛ ولذلك ترك رسول الله هذه النقطة دون إشارة مباشرة، وهذا من حكمته .
وهكذا تمت البيعة المباركة، وعاد الأنصار الاثنا عشر إلى يثرب؛ ليستكملوا دعوتهم ونشاطهم هناك.