يتساءل أب مصدوم من تصرفات ابنته:
أنا الآن في ورطة كبيرة ولا أدري كيف أخرج منها بسلام؛ فقبل فترة اكتشفت أن ابنتي على علاقة حب مع أحد الشباب عن طريق الإنترنت، وصارحتها وغضبت منها ووعدتني بألا تعيدها.
وبعد مضي عدة أشهر اكتشفت مرة أخرى بأنها على علاقة مع شخص آخر تعرفت عليه عن طريق موقع خاص بكرتون الأطفال، وبدأت بينهما علاقة عن طريق الماسنجر.
طبعا هي صارحتني هذه المرة؛ ربما لأني كنت دائما منفتحا مع أولادي، وأعلمهم بأن يصارحوني بكل شيء، وأحذرهم من مخاطر علاقات الإنترنت، وخاصة ابنتي كنت أذكر لها كثيرا مخاطر العلاقات الوهمية.
المهم أنها أخبرتني، ويبدو أنها لم تكن لتخبرني إلا أني فاجأتها وهي تغلق الشات، فسألتها: لماذا خفتي؟ فقالت بأنها كانت تنوي أن تخبرني، وفعلا اكتشفت أنها كانت ستخبرني لأنها أرسلت لهذا الشاب بأنها ستخبرني بعلاقتهما.
تقول بأنه من دولة عربية ونحن الآن مقيمون في دولة أوروبية، المهم أنها صارحتني بكل براءة بحبهما، وأنا صدمت لأني لم أدر بماذا أجيبها، وحاولت أن أحاورها لعلنا نصل معا إلى نتيجة.
لم أصرخ أو أضرب، وإنما أمسكت أعصابي وفكرت بأن رد الفعل الغاضب ربما سيعود بنتيجة عكسية، وأمهلتها إلى نهاية اليوم لتفكر وتقرر إذا ما كان الذي قامت به صحيحا.
وخلال حواري المبدئي معها تبين لي بأنها بريئة، وبأنها لا تدرك بأن الذي تعمله خطأ، وتعتقد بأن ما تفعله صحيح، أنا مصدوم ولا أدري كيف أتصرف؟
دلوني بالله عليكم، هل أضربها، أم أهددها، أم أحرمها من الإنترنت؟
هي مدمنة على الإنترنت، وأنا مرتاح بأن لغتها الإنجليزية ما زالت ضعيفة، وبالتالي علاقاتها في هذا البلد نادرة فليس لها أصدقاء، وهي تشكو من ذلك دائما.
طبعا هي ذكية وممتازة في الدراسة، ومبدعة في مجال التصميم وخاصة استخدام الكمبيوتر في مجال التصميم.
ما العمل؟
* * * * * * * * * * * *
و يجيب الخبيرالتربوي
السيد الفاضل، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
أهلا بك ومرحبا، ونجاك الله من كل ورطة ومن كل سوء، وبارك فيك وفي ولديك، وجعلهما قرة عين لك في الدنيا والآخرة.
سيدي الفاضل.. لن أخوض في الحديث عن الإنترنت ذلك السلاح ذي الحدين، فبرغم مزاياه العديدة إلا أن له مساوئ لا يستهان بها، وما علينا إلا أن نساعد أبناءنا على الاستفادة من مزاياه، واجتناب مضاره، وقبل أن أبدأ في الرد على رسالتك الكريمة لي ملاحظتان:
أولهما: أنه يتضح من رسالتك أن ابنتك تتسم بالأدب والبراءة والخلق الرفيع، بل والرقة ورهافة الحس، وهو أمر سيساعد كثيرا في حل المشكلة.
ثانيهما: أنه رغم ما تعانيه من قلق تجاه مشكلة مصادقة ابنتك لشابين عبر النت إلا أنك عالجت الأمر بحكمة وحلم وصبر؛ وهي سلوكيات تحسب لك وتحمد عليها، وستثاب عليها إن شاء الله، فكثير من الآباء يتصرفون بعنف وانفعال في مثل هذه المواقف؛ الأمر الذي تتفاقم معه المشكلة وتزداد تعقيدا.
لكن يبدو أن قلقك هذا أدى إلى إغفال كثير من التفاصيل المهمة التي تساهم في وضوح الرؤية، وبالتالي تساهم في الحل بشكل أفضل، فلم تذكر على سبيل المثال:
-أين والدة الفتاة من كل ما يجري؟ وما طبيعة علاقتها بالابنة؟
-ومنذ متى وأنتم تقيمون بإنجلترا؟ وإذا كانت الفتاة تدرس هناك فلم لا يوجد لديها أصدقاء بالمدرسة؟ فهل تعاني من الغربة أو لديها مشكلة في التواصل الاجتماعي ولذا فضلت صداقة النت؟
رغم أن التفاصيل السابقة مهمة لتساهم في رؤية أفضل للمشكلة كما ذكرت، إلا أن الأمر الأهم هو الأسلوب والطريقة التي أجريت بها الحوار الذي دار بينك وبين ابنتك؛ فقد كنت أفضل أن تكتب ولو جزءا قصيرا من هذا الحوار.
لأن الحوار من أهم الأشياء التي تحدد إلى أي مدى أصبت معها أم لم تصب، فكثير من الآباء يظنون أنهم يقيمون حوارا مع أولادهم وهم لا يفعلون، ويكون الحوار عبارة عن استجواب، أو محاضرة وعظ، أو محاولة إقناع بوجهة نظر معينة، بغض النظر عن وجهة نظر الطرف الآخر، أو إملاء ما يجب فعله ولكن بطريقة هادئة.
الأمر الذي يظن الآباء معه أنهم استطاعوا إقناع أولادهم بما يجب فعله، ولا يكون أمام الأبناء سوى التظاهر بالموافقة على رأي الآباء أو الاقتناع الوقتي بهذه الآراء.
ولذا أقترح عليك أن تقرأ السمات التالية التي يتسم بها الحوار الفعال الناجح، فإن كان حوارك مع ابنتك اتسم بهذه السمات فبها ونعمت واستمر على هذا المنوال، فإنك -بإذن الله- ستنجح مع ابنتك خاصة أنها -كما ذكرت- لم تكن تدري أن ما تفعله خطأ، أما إذا كان غير ذلك فأرجو مراجعة أسلوبك في الحوار معها.
وسمات الحوار الفعال الناجح هي:
1- الهدوء وعدم الانفعال (كما تفعل).
2- أن يكون الحوار مشتركا بينكما ولا يكون حوارا من طرف واحد، بمعنى ألا تملي عليها ما يجب أن يقال، فعلى سبيل المثال لا ينبغي أن تقول بتوبيخ أو عتاب: أنا أريدك أن تفكري فيما فعلت هل ما قمت به صواب أم خطأ؟
فإذا كانت ابنتك تتسم بطبيعة حيية كما هو واضح من رسالتك، فستشعر بالخجل وتعتبر أن ما قامت به شيء مشين دون أن تفكر جديا فيما حدث أيصح أم لا.
3- ألا تتحول لمحقق وتلاحقها بالأسئلة حتى لو كنت تسألها بهدوء.
4- ألا توبخ أو تهدد أو تؤنب، ولكن اطرح القضية أو المشكلة ودعها تفكر من تلقاء نفسها.
5- أن تقدر مشاعرها، فمثلا يمكنك أن تبدأ معها حوارا جديدا يبدو من نبرة صوتك ونظراتك لها دفء مشاعر الأب الحنون المتفهم والذي يملك زمام الأمور في نفس الوقت.
فتبدأ قائلا (على سبيل المثال): "لم أدرك أن الأعوام تمر بهذه السرعة، ولم أكتشف أن لي ابنة أقرب للشباب منها إلى الطفولة، كم أنا سعيد بذلك، وهذه الابنة كبرت لدرجة أنها الآن تبحث عن الحب ومن تحب"، ثم تدرج معها في الحديث عن هذا الشاب الجديد.
ولا تعر اهتماما كبيرا لأمور لا داعي لها مثل: اسم هذا الشاب؟ وعمره؟ ومن أين هو؟ وهل يدرس أم انتهى من دراسته؟ فكل هذه التفاصيل ليس لها هدف إلا الاستجواب والتحقيق، الأمر الذي يجعل ابنتك تتوقف عند حد الإجابة بكلمات مقتضبة جدا وكأنها في قفص الاتهام.
كما أن هذه التفاصيل لن تقدم أو تؤخر؛ لأن مبدأ التعرف والحب عبر النت مرفوض بغض النظر عن الاسم والسن والعنوان.
ولكن يمكنك القول مثلا: "ما الذي جذبك إليه؟" واستمع لكل ما تقول ولا تقاطعها، ولا تعلق بأي تعليق حتى تنتهي هي من كلامها.
ثم تحدث إليها عن قصة فتاة كانت تحاور أمها بشأن فتى تود التعرف عليه، فالتفتت إليها الأم وانتظرت حتى انتهت الفتاة من حديثها، ثم قالت لها: اسمعي يا ابنتي، إن الله قد خلقنا مؤلفين، كل منا يؤلف كتاب حياته وكلنا بيده أن يدخل في كتابه هذا من شاء من الأفراد والأشخاص، فاحرصي حبيبتي أن تدخلي في كتابك هذا مَن إذا رأيته في صفحات حياتك لا تندمين أنه دخلها، هل فهمت ما أقصد؟
ثم ذكّرها أنها بالأمس القريب كانت تكن نفس المشاعر أو قريبا منها لشاب آخر، ألا يدل ذلك على شيء؟! ودعها تفكر، لكن قبل أن تتركها يمكنك قول: سأدعك تفكرين فيما قلته، وإن كان لديك أي شيء ترغبين في إخباري به أو إخبار والدتك فلا تترددي؛ فنحن على استعداد للاستماع إليك، ولا تلح عليها في الحديث، ودعها وأمهلها مدة للتفكير.
6- لا تجعل القلق يحاصرك فتلاحقها وتتجسس عليها، ولكن تفقد أحوالها من بعيد، ودعها هي التي تأتي إليك أو إلى والدتها لتحكي من تلقاء نفسها، وثق أنها ستفعل إذا التزمت بكل ما سبق، فكن لها خير صديق، ونعم الأب، وإذا لم تأت لتتحدث معك بعد فترة -وهذا مستبعد في إطار العلاقة الجيدة بينكما- فعليك حينئذ أن تبدأ أنت قائلا: كيف الأحوال؟ هل من جديد؟ أو ألا ترغبين في الحديث؟
7- كن حازما إذا شعرت بأنها تراوغك وتتملص منك، أو تخفي شيئا عنك وعن والدتها (ولا أظن أن ابنتك ستفعل لأنها تتميز بالبراءة كما ذكرت)، وتحدث معها عن توقعاتك بنبرة حازمة هادئة: "كنت أتوقع منك تصرفا آخر غير الذي تفعلين"، واتركها مباشرة بعد هذه الجملة لتفكر فيما يجب فعله.
أما عن أسلوب التعامل بشكل عام:
1- احرص على أن تستمر العلاقة بينكما طيبة ودودة.
2- احرص على أن تضرب لها الأمثلة من حياتك ومن حياة من حولك من الرجال والشباب في مثل هذه العلاقات على أن تكون واقعية بعيدة عن المحاضرات والوعظ.
3- كونا أنت وزوجتك قريبين من ابنتكما بحيث تبث لوالدتها ما لا تستطيع البوح لك به، وتستطيع أنت أن تتحدث عن مشاعر الشباب ورغباتهم في هذه الفترة فتعي ما بغية الشباب من الفتيات في هذه المرحلة.
4- إن الله حباكما بابنة مبدعة ذكية؛ فاستثمرا قدرات ابنتكما في مجال التصميم، وحاولا أن تجدا لها عملا كمصممة، كما يمكنكم شغل أوقاتها بما ينفعها وينفع المسلمين، فيمكنكم مثلا البحث عن الجاليات الإسلامية وتقديم العون للمسلمين هناك إن كان هذا الأمر متاحا، واشتركوا جميعا في مثل هذه الأعمال الخيرية.
5- تنزهوا جميعا معا، وأضفوا على البيت الجو الأسري المرح الدافئ، ولا تجعلوا هذا الحدث يوتر العلاقة بينكم أو يفسدها؛ فهي فترة ستمر بسلام إن شاء الله إذا ما راعيتم (خاصة أنت وزوجتك) ما سبق ووضعتموها في حجمها الطبيعي.
الوالد الفاضل.. كن على يقين بأن الله لا يضيع عملك وتربيتك والخلق القويم الذي غرسته في ابنتك منذ صغرها، ودعواتي لك بأن يحفظها الله ويعينك على حسن التوجيه.