الحمد لله
المبادرة إلى الجماعة ، والتبكير في الذهاب إلى المساجد من فضائل الأعمال التي يغفل عنها ويقصر فيها كثير من الناس ، والمؤمن حين يذوق طعم الإيمان ، ويستشعر لذة العبادة ، لا يكاد يصبر حتى يسمع النداء ليذهب إلى المسجد ، بل تجده مسارعا مسابقا ، لا يدخل وقت الصلاة إلا وقد اشتاق إليها ، ويصدق عليه وصف النبي صلى الله عليه وسلم لأحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، وهو الرجل المعلق قلبه في المساجد .
ولا شك أن التبكير إلى صلاة الجماعة والحرصَ على إدراكِ تكبيرتها الأولى دليلٌ على تعظيم هذه الشعيرة ، وحبها ، والرغبة فيها ، وهو دليل أيضا على صلاح العبد ودينه وتقواه .
قال سفيان الثوري : " مجيئك إلى الصلاة قبل الإقامة توقير للصلاة " انتهى .
"فتح الباري" لابن رجب (3/533)
وقال إبراهيم التيمي : " إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه " انتهى . "سير أعلام النبلاء" (5/84)
وكان وكيع بن الجراح يقول : " من لم يدرك التكبيرة الأولى فلا ترجُ خيره " انتهى .
رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (3/74) .
بل كان بعض السلف يعدون الذهاب إلى المسجد بعد الأذان تقصيرا ، وأن الفضل هو في الذهاب قبل النداء .
قال سفيان بن عيينة :
" لا تكن مثل عبد السوء ، لا يأتي حتى يُدعَى ، ايت الصلاة قبل النداء " انتهى .
التبصرة لابن الجوزي (131)
ونحن نذكر أنفسنا وإياك هنا ببعض فضائل التبكير إلى صلاة الجماعة والمبادرة إليها :
أولا :
روى ابن المنذر – كما في "الدر المنثور" (2/314) - عن أنس بن مالك رضي الله عنه في تفسير قول الله سبحانه وتعالى : ( سَابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) الحديد/21 ، أنها التكبيرة الأولى . وذكره بعض المفسرين عن مكحول وسعيد بن جبير من التابعين .
ثانيا :
روى عبد الرزاق في "المصنف" (1/528) من طريقٍ صحيحٍ عن أنس رضي الله عنه قال :
( من لم تفته الركعة الأولى من الصلاة أربعين يوما كتبت له براءتان : براءة من النار ، وبراءة من النفاق ) .
وجاء عن مِيثم ، رجلٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( بلغني أن الملَك يغدو برايته مع أول من يغدو إلى المسجد ، فلا يزال بها معه حتى يرجع يدخل بها منزله ) .
رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (5/183) وصححه ابن حجر في "الإصابة" (6/148) والألباني في "صحيح الترغيب" (1/242) .
ثالثا :
وفي التبكير إلى صلاة الجماعة تحصيل أجر انتظار الصلاة ، والمكث في المسجد ، ودعاء الملائكة ، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي صَلاَةٍ مَا كَانَتْ تَحْبِسُهُ ، وَتُصَلِّي - يَعْنِي عَلَيْهِ الْمَلاَئِكَةُ - مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ ) رواه البخاري (477) ومسلم (649)
كما فيه تحصيل فضيلة الصلاة في الصف الأول ، وفضيلة إدراك التأمين مع الإمام ، فقد جاء في الحديث الصحيح : ( إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ) رواه البخاري (780) ومسلم (410) .
ومن بكَّر في حضور الجماعة أمكنه الاستفادة من الوقت بين الأذان والإقامة بصلاة السنة الراتبة أو تحية المسجد ، وشغل الوقت بالدعاء بخيري الدنيا والآخرة ، فإن ما بين الأذان والإقامة من مواطن إجابة الدعاء .
رابعا :
وفي هدي السلف الصالح من النماذج التي تبعث الهمة في القلب ، وتبث العزيمة في النفس ، وتدعو كل مقصِّرٍ ومفرِّطٍ إلى الحياء من رب العالمين ، حيث يتسابق إليه العباد والزهاد ، وهو في غفلته ساه عن الأجر والمغنم .
يروي ابن شاهين في كتابه "الترغيب في فضائل الأعمال وثواب ذلك" (رقم/107) عن الحسن عن أنس رضي الله عنه قال :
( اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم حذيفة ، قال رجل منهم : ما يسرني أني فاتتني التكبيرة الأولى مع الإمام وأن لي خمسين من الغنم . وقال الآخر : ما يسرني أنها فاتتني مع الإمام وأن لي مائة من الغنم . وقال الآخر : ما يسرني أنها فاتتني مع الإمام وأن لي ما طلعت عليه الشمس . وقال الآخر : ما يسرني أنها فاتتني مع الإمام وأني صليت من العشاء الآخرة إلى الفجر ) .
وعن أبي حرملة عن ابن المسيب قال : " ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين ، وما نظرت في قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة " انتهى . السير (4/30) . يعني أنه كان يصلي في الصف الأول .
خامسا :
ويخشى على من يعتاد التأخر عن صلاة الجماعة ، وإهمال فضل التكبيرة الأولى أن يؤخره الله عن الأجر والفضل والخير ، حيث يرضى لنفسه التأخر ، فيكون جزاؤه من جنس عمله .
وقد قال بعض العلماء في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم : ( تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ ، لا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّه ) رواه مسلم (438) أن المقصود هو من يتأخر عن الصف الأول والتكبيرة الأولى .
وانظر جواب السؤال رقم (34852)
سادسا :
وأظنك أخي السائل قد أدركت – بعد كل ما سبق – خطأ ما ترتكبه من تعمد التأخر عن الجماعة ، وأن الخوف الذي يدفعك لذلك هو من وحي الشيطان ، يريد حرمانك من الأجر والفضل .
ونحن ندرك أن موقف الإمامة موقف فيه من الهيبة والرهبة الشيء العظيم ، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يدفعك إلى التقصير فيه ، فإذا دخلت المسجد ، وكنت أحق من يؤم الموجودين ، فتقدم ولا تتأخر ، فإن الإثم يلحقك إذا تقدَّمَ الناسَ من لا يُتقن قراءة الفاتحة ولا يحسن إقامة أركان الصلاة .
ونطمئنك بأن الخوف الذي تشعر به عند الإمامة هو شعور عارض ، سرعان ما يذهب عنك مع اعتياد الإمامة ، فعليك أن تتحمل المشقة في بداية الطريق ، ثم سيفتح الله لك باب الخير جزاء صبرك وتحملك .
ويمكنك الاستعانة ببعض ما يهون شعور الخوف الذي يصيبك ، فاحرص على الأمور الآتية :
1- التحضير الجيد في مراجعة الآيات التي تريد قراءتها في الصلاة ، فإن ذلك يكسبك من الثقة والقوة ما يدفع عنك الخوف والرهبة .
2- اعتياد الصلاة في البيت بصوت مرتفع ، في قيام الليل وصلاة النافلة الليلية ، ففي ذلك تعويد للنفس على موقف الإمامة والقراءة .
3- إمامة الناس في الصلوات السرية ، فإن اعتياد الوقوف في مكان الإمام يخفف من رهبة تقدم الناس في الجهرية .
4- اسْعَ في إقناع النفس بسهولة الأمر ، وكيف أن بعض صبيان الصحابة كان يتقدم الناس في مسجد قومه ، وأن الأمر لا يعدو قراءة يسيرة سهلة مع خشوع واطمئنان وخضوع لله رب العالمين .
5- ولا تنس سؤال الله تعالى التوفيق إلى الخير ، وتسهيل البر والعمل الصالح .
ونسأل الله تعالى لنا ولك التوفيق والفوز بالنعيم المقيم .
والله أعلم .