من اهم خصائص النظام القضائي في الاسلام، ان القضاء وظيفة شرعية الزامية يجب على القاضي القيام بها، كبقية الوظائف الشرعية الاخرى. بمعنى ان مهمة القضاء مهمة كفائية اذا قام بها البعض سقطت عن الكل، وان تقاعس الجميع اثموا جميعاً. والاصل في القضاء هو احقاق الحق، تعويضاً كان او ردعاً. وقد اجمع فقهاء الامامية على ان لله في كل واقعة حكماً ثابتاً، لقوله عليه السلام: "ما من شيء الا وفيه كتاب وسنة "، و"ان الله تعالى انزل في القرآن تبيان كل شيء، حتى والله ما ترك شيئاً يحتاج اليه العباد، فلا يستطيع عبد ان يقول: لو كان هذا انزل في القرآن".
وفي اللغة معنى القضاء هو الحكم، ومنه قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ 1، وفي الاصطلاح هو ولاية الحكم شرعاً لمن له الفتوى2. والاصل فيه كتاب الله، وبالخصوص قوله تعالى: ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾3، وفي السنة انه صلى الله عليه وآله وسلم بعث علياً عليه السلام قاضياً الى اليمن 4، وبعث علي عليه السلام عبدالله بن العباس قاضياً الى البصرة5.
ومن اجل عرض اهم خصائص النظام القضائي الاسلامي لابد لنا من ترتيب النقاط التالية:
اولاً: يشترط الاسلام في القاضي شرطي العدالة والاجتهاد، اضافة الى شروط اخرى مثل العقل والبلوغ والذكورية والضبط. ولكن اهمية الشرطين الاولين تضع الاسلام على قمة الانظمة القضائية في التاريخ الانساني. فالعدالة تعني ائتمان الفرد على تطبيق جزئيات الشريعة، باقامة علاقة حقيقية وثيقة بينه وبين الله عز وجل، وبينه وبين بقية افراد النظام الاجتماعي. وقيل ان معنى العدالة مقابل لمعنى الطاغوت في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ﴾6. اما الاجتهاد، فيعني القدرة على استنباط الاحكام الشرعية من مصادرها المقررة وتطبيقها على مواردها الخاصة، وقد اكد عليه القرآن الكريم بقوله: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾7، وبهذين الشرطين، يستطيع القاضي القضاء بين الناس بالحق على الصعيد الظاهري، لان الواقع لا يحرزه الا الله سبحانه وتعالى، ولان الوصول الى الحق المطلق مستحيل على الانسان، الا لفرد متصل بالمطلق. ولكن الشريعة اجازت لمجتهدين استخدام الادلة الظنية الموصلة للحق. وعليه فان المجتهد، هو اكثر الافراد حظاً في اصابة الواقع واقامة العدل، ولذلك أسند له دور القضاء.
ثانياً: ان حكم المجتهد في النظرية الاسلامية لا يغير الحكم الواقعي. فلو ظهر لمجتهد آخر خطأ المجتهد الاول بطريق القطع واليقين، جاز له نقضه. لان المدار في الاجتهاد الدليل القاطع كالآية القرآنية الصريحة، والاجماع المحصل، والحديث المتواتر. والمعيار لنقض الحكم هو العلم اليقيني بمخالفته للواقع. بمعنى ان الحكم ينفذ ظاهراً لا باطناً. والاصل في ذلك، ان كل القضاة المجتهدين يعتمدون على الادلة الظنية الموصلة للحق اولاً، والاجتهاد الذي يحتمل فيه الخطأ والصواب ثانياً، فلا يستطيع احدهم نقض حكم الآخر، الا اذا ظهر لقاضٍ ثانٍ خطأ حكم القاضي الاول بطريق القطع واليقين. وعليه، فان الاستئناف هنا، استثنائي ومحدود جداً، وليس الاصل في كل الاحكام الجنائية والحقوقية.
اما في النظام القضائي الغربي، فان الاستئناف حق دستوري وليس قضية ثانوية8، بل ان اول ما يلمح به محامي الدفاع امام هيئة المحلفين، حق المتهم في محاكمة استئنافية اذا لم تحرز عدالة المحاكمة الاولى. ولكن اذا كانت هيئة المحلفين في المحاكمة الاولى بعيدة عن روح العدالة في حكمها على المتهم، فمن الذي يضمن عدالة محاكم الاستئناف بهيئة محلفين جديدة او بقضاة آخرين يمتلكون نفس مواهب نظائرهم في المحاكم الدنيا ؟
والاختلاف هنا بين النظامين، هو ان النظام القضائي الاسلامي يؤمن بأن الحكم على المتهم يجب ان يستند الى العلم بالاصول والقواعد الشرعية في المرافعات، اي ابتناء الحكم القضائي على اساس القطع واليقين او الدليل الظني الموصل للحق. اما الاستئناف في النظام القضائي الغربي، فهو محاولة لمعالجة الخطأ الذي حصل في بناء الحكم القضائي المستند على ادلة باطلة من الاساس.
ثالثاً: اقرار المتهم في الجناية حسب النظرية الاسلامية حجة مقتصرة بالمقر وحده. فلا ينفذ بغير احد غير المقر. ولكن اقرار الجاني لا يخفف من العقوبة الثابتة بحقه، لان تخفيف العقوبة هو سلب حق من حقوق الضحية. ولا يقبل الانكار بعد الاقرار الا في حالة الجناية الموجبة للرجم، حيث يسقط الحد. و"الاصل في شرعية الاقرار بعد الاجماع من المسلمين او الضرورة، السنة المقطوع بها" 9، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (اقرار العقلاء على انفسهم جائز " اي نافذ")10. وهو لاشك مصداق للنص الحكيم: ﴿أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾11.
رابعاً: بعد ثبوت الجناية، ينفذ حكم الله حسب النظرية الاسلامية مباشرة ودون تأخير. ولا تؤمن الشريعة الاسلامية بفكرة ( تعليق الحكم ) او مجرد ( عقوبة الاشراف على سلوك الجاني لاحقاً )، لان في ذلك تضييعاً لحق المجني عليه ايضاً، وتشجيعاً للأفراد على السلوك الجنائي.
اما المدرسة القضائية الغربية، فهي تمارس اسلوب تعليق العقوبة الصادرة بحق الجاني12. حيث يقوم الحاكم بارجاء تنفيذ العقوبة التي استحقها الجاني لارتكابه الجناية، واطلاق سراحه، ومراقبته لفترة محددة، فاذا كان سلوكه الاجتماعي متناسباً مع الاعراف المقبولة، أسقطت العقوبة عنه. ولاشك ان تعليق العقوبة التي هي نتيجة من نتائج ما يسمى ب ( المساومة على الاقرار بالذنب ) التي يعقدها محامي الدفاع مع الجاني وبالاتفاق مع النائب العام تعتبر من اخطر مشاكل النظام القضائي الغربي لانها تهدر حقوق الضحية بشكل سافر.
خامساً: ان تحمل الشهادة واداءها واجب كفائي في الاسلام، وشروطها: الوضوح، والمطابقة، والعلم. ولابد من الشاهد: البلوغ والعقل والعدالة والضبط.. ولابد ان تكون الشهادة مرآة علم الشاهد بالمشهود به، بمعنى انها يجب ان تكون نتيجة علم يقيني حصل للشاهد، لأن الاصل فيها المشاهدة، وهي العلم بالمشهود. ولذلك كانت العدالة وهي الائتمان على تطبيق احكام الشريعة شرطاً اساسياً من شروط الشاهد. فان تيقن القاضي بعدالة الشاهد أخذ بشهادته دون تزكية، وان جهلها بحث عنها. وان تبين فسق الشاهد، سقطت شهادته.
والاصل في تشريعها، قوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾13، ﴿وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء﴾14. وفي رواية انه صلى الله عليه وآله وسلم عندما سئل عن الشهادة ؟ قال: ( هل ترى الشمس ؟ قال: نعم. فقال: على مثلها فاشهد أو دع )15.
واتفق الفقهاء على ان تحمل الشهادة واداءها واجب كفائي، بمعنى انه اذا قام به البعض سقط عن الكل، وان امتنعوا جميعاً اثموا. وتحمل الشهادة يعني دعوة فرد لآخر بالشهادة له. ولاشك ان تلبية الدعوة واجبة شرعاً، فلا يجوز للشاهد الرفض من غير عذر شرعي، للنص القرآني الكريم: ﴿وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ﴾16. وقوله عليه السلام: ( اذا دعاك الرجل لتشهد له على دين أو حق لم ينبغ لك ان تتقاعس عنه )17. واداء الشهادة يعني تأديتها امام القاضي، وهو واجب ايضاً، لقوله تعالى: ﴿لاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُه﴾18، ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ﴾19، وللمروي عن الامام العسكري عليه السلام: ( من كان في عنقه شهادة فلا يأب اذا دعي لاقامتها، وليقمها، ولينصح فيها، ولا تأخذه فيها لومة لائم، وليأمر بالمعروف، ولينه عن المنكر )20. بمعنى ان الفرد اذا حدثت له حادثة، وكان هناك من شهدها كان على الشاهد شرعاً تلبية دعوة المجني عليه، والذهاب الى المحكمة أو دار القضاء لتأدية الشهادة، حتى لو تحمل النصب والمشقة في ذلك.
سادساً: تثبت الجرائم الخلقية بشهادة اربعة شهود، لنص القرآن الكريم: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾21، ﴿لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء...﴾22. ولا تنحصر الشهادة بالرجال، بل ورد في الرواية عن الامام الصادق عليه السلام انه: ( يجوز في الرجم شهادة ثلاثة رجال وامرأتين )23. وفي الجلد تثبت باربعة رجال، او ثلاثة وامرأتين، او رجلين واربع نسوة 24. وفي اللواط والسحق تثبت باربعة رجال فقط، ولا تقبل شهادة النساء.
اما في حقوق الافراد غير المالية فثبت بشهادة رجلين. وفي حقوقهم المالية كالديون، والرهن، والوصايا بالمال، وعقود المعاوضات بشهادة رجلين، او رجل وامرأتين، او رجل ويمين25، بينما تفتقد النظرية الغربية الى هذا التفصيل، حيث يبتنى الحكم القضائي على عدد غير محدود من الشهود26.
سابعاً: ينبغي حسب النظرية الاسلامية ان تكون تزكية وتجريح الشهود من قبل المدعي والمدعى عليه سراً، حيث لا يجوز التشهير بمساوئ الناس او اظهار عوراتهم في الاسلام، كما ورد في قوله تعالى: ﴿لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾27، ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾28. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد واجه ( ماعز ) باخلاقية عظيمة عند اعتراف الاخير بالزنا: ( لعلك قبلتها، لعلك لمستها )29، وهو "تعريض بايثار الاستتار"30، بينما لا تعير النظرية القضائية الغربية اهتماماً للتزكية ولا للتجريح السري31.
ثامناً: شدد الاسلام على تحريم شهادة الزور، كما ورد في قوله تعالى في التعرض لصفة المؤمنين: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّور﴾32، لان من نتائجها اضطراب واضح للعدالة الاجتماعية وزعزعة لعدالة النظام القضائي. وحرم على القاضي الاخذ بتلك الشهادة، اذا تيقن انها كانت زوراً. واذا ثبت الزور في الشهادة انتقض الحكم قبل التنفيذ او بعده لان الحكم سيكون مبتنياً على الباطل، بل ان شاهد الزور يكون مسؤولاً عن ضمان ما اتلف في شهادته.
تاسعاً: اليمين الشرعية على المنكر وسيلة مهمة من وسائل القضاء في الاسلام، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( البينة على من ادعى، واليمين على من ادعي عليه )33. ويشترط فيها صيغة اليمين المقتصرة على اسم الجلالة، واذن الحاكم، وموضوع اليمين وهو الحق المحلوف من اجله. ويشترط في الحالف: العقل، والبلوغ، والاختيار، وحق الاسقاط، والتبرع. والاصل ان الحاكم وليٌ عن المنكر ( المدعى عليه )، فان امتنع عن اداء الحق، وهو حلف اليمين او النكول، قهره عليه الحاكم لصالح المدعي.
وقد ورد اطلاق معنى الحلف في القرآن الكريم. كما في قوله تعالى: ﴿وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ﴾34، ﴿مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾35. ولكن السنة الشريفة خصصت معنى اليمين الشرعية في القضاء.
عاشراً: الكفالة في قوله تعالى: ﴿فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾36، معناه "ضمها الي واجعلني كافلاً لها والقائم بأمرها"37. وعقد الكفالة على الصعيد الشرعي، هدفه الاستيثاق من حضور المدعى عليه وقت المحاكمة، حيث يتعهد الكفيل للمكفول له باحضار غريمه. وهي جائزة الا في الحدود. وهذا العقد يتحقق بالايجاب من الكفيل، والقبول من المكفول به، وان يكون الكفيل قوياً وقادراً على احضار المكفول. واذا امتنع الكفيل عن احضار المكفول تمرداً، حبس حتى يأتي بصاحبه. وان كان الكفيل عاجزاً عن احضار المكفول، ولكنه كان قادراً على الوفاء بحق المدعى عليه مالياً بعد ثبوته، يؤمر بذلك.
اما في النظرية الغربية، فان الكفالة عبارة عن ضمان مالي يقنع المحكمة الجنائية او الحقوقية بامكانية حضور المتهم وقت المحاكمة38. وانحصار الكفالة بالمال، يؤدي الى تفضيل الاغنياء على الفقراء، حيث يطلق سراح المتهمين الاغنياء بكفالة مالية الى حين المحاكمة، وهي فترة قد تستغرق وقتاً مديداً. اما المتهم الفقير الذي لا يستطيع تدبير مبلغ كافٍ لدفع الكفالة فانه يمكث في السجن لحين وقت المحاكمة.
والاختلاف بين النظرتين، يبين ان المال هو الاصل في الاستيثاق من حضور المدعى عليه في النظرية الغربية، وان الكفيل كفرد هو الاصل في الاستيثاق من حضور المدعى عليه في النظرية الاسلامية، لان الزام الكفيل باحضار المدعى عليه يضمن العدالة القضائية بين جميع الافراد، لان الفرد بكيانه الاجتماعي وعلاقاته المتشابكة لابد وان يجد الكفيل الذي يكفله لسبب من الاسباب. اما اذا كان المال هو المقياس في الكفالة القضائية، اصبحت العدالة القانونية معلقة في الهواء ومالت كفة المنافع نحو الاثرياء. وبالتالي، تصبح الطبقة الرأسمالية هي الطبقة الوحيدة المنتفعة في النظام الاجتماعي.
حادي عشر: عقد الصلح وهو عقد شرعي بين المدعي والمدعى عليه يتم عن طريق التراضي بينهما قبل الترافع الى القاضي. وهذا العقد حسب النظرية الاسلامية مبني على التسامح، وتنازل المحق عن بعض حقوقه طلباً للاصلاح. والاصل فيه التراضي وطيب النفس بين الطرفين. والدليل على شرعية الصلح منبثق من قوله تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾39، ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾40، (ادخلوا في السلم كافة)41. بل "تدل النصوص على كونه عقداً مستقلاً بنفسه، لا يتوقف على سبق خصومة، مثل البيع وغيره من العقود"42، لقوله تعالى: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾43.
وليس هناك ما يشير الى اهتمام النظرية القضائية الغربية بعقد الصلح بين الافراد، الا ما يختص بالتعويضات التي تدفعها شركات التأمين والشركات الصناعية الكبيرة44.
ثاني عشر: ان علاج المنحرفين حسب النظرية الاسلامية يجب ان يبدأ قبل وقوع الجناية، بمعنى ان نشر العدالة الاجتماعية بين جميع الافراد وتهذيبهم على اساس مفاهيم الدين والاخلاق يمنع وقوع الانحراف، لان الاصل في وقوع الجنايات هو الحاجة والجهل. فاذا اشبعت الحاجة الانسانية، وعلم الانسان حكم الشريعة، اصبح الفرد عنصراً نظيفاً مساهماً في بناء مجتمعه الآمن الجديد.
اما النظرية القضائية الغربية، فتعتقد بأن علاج الجاني افضل للنظام الاجتماعي من معاقبته، لان العلاج اقل كلفة من العقوبة الجسدية45. ولكنها تتناسى بأن العلاج يجب ان يبدأ من النظام الاجتماعي نفسه لا من المنحرف. نعم، ان عدالة توزيع الثروات الاجتماعية تساعد على علاج الانحراف، والمساواة بين الافراد بغض النظر عن جنسهم ولونهم ومنشأهم يساهم في علاج المنحرفين.
ثالث عشر: وتلعب شخصية الحاكم العلمية دوراً كبيراً في الحكم بين المتخاصمين، في النظرية الاسلامية، لان القاضي المجتهد مسلط على الاصول العقلية والشرعية، وعالم باصول القضاء وموارده، وباني قضائه على اساس العلم والقرائن الموضوعية، وان عليه ان يكون شاهداً على الواقعة اولاً. وعندما تتبين الادلة والشواهد على الجناية عندئذٍ يحكم. ولعل الآيات القرآنية الشريفة تؤكد ذلك على سبيل الاطلاق كما في قوله تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ﴾46، ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾47.
اما في النظام القضائي الامريكي، فان الذي يحكم بالبراءة او التجريم هو اعضاء هيئة المحلفين الذين يتم انتخابهم من دفاتر الضريبة، دون النظر لعلمهم بالقضاء والحكم48. فكيف نتوقع العدالة من هؤلاء، وهم اجهل الناس بقضايا الحكم والفصل بين المتخاصمين ؟
رابع عشر: وينظم الاسلام نظام العقوبات على اساس الحقوق، فيقسمها الى حقوق لله وحقوق للناس، ويفرع على هذه الحقوق حقوقاً مالية واخرى غير مالية. ففي حقوق الله ينزل القصاص والتعزير والدية، ويلزم المخالف بالدفع. وفي حقوق الناس يلزم المعتدي بالدفع او السجن، حيث لا يجعل السجن، العامل الاصيل في العقوبة، لان الاصل في العقوبة انزال الاذى المماثل بالجاني او دفع التعويض للضحية، على خلاف القضاء الغربي الذي يقسم العقوبات ضد الجاني الى اربعة اقسام وهي:الغرامة المالية، وتعليق العقوبة، واطلاق سراح الجاني مع مراقبته بشروط، والسجن49. وعقوبة الموت استثنائية وتقع في حالات جنائية خاصة50. والاصل في العقوبة القضائية الغربية انها ليست ثابتة وغير محددة بالشكل الذي لاحظناه في الاسلام.
خامس عشر: ولا ينتقي النظام القضائي الاسلامي الجرائم الصالحة للمحاكمة ويهمل الجرائم الاخرى، بل ان كل قضية جنائية ترفع من قبل المدعي يجب ان يقضى بها، مالم يعقد الصلح بين المتخاصمين قبل المرافعة. والمدعي فقط هو الذي اذا سكت سكت عنه، باصطلاح الفقهاء. بمعنى ان رفع القضية الجنائية او الحقوقية المتنازع عليها بيد المدعي، وليس بيد النائب العام، كما في النظام القضائي الغربي.
فللنائب العام حسب الفكرة القضائية الغربية صلاحية اختيار وانتقاء الجنايات التي يرى في ملاحقتها مصلحة اجتماعية51، دون ملاحظة الآثار التي اوقعتها الجناية على المجني عليه. فقد يحول انتقاء النائب العام للجنايات، الى عدم تعويض الضحية، او الى افلات الجاني من العقاب، وهو أمر ترفضه النظرية القضائية القرآنية بكل حزم.
*النظرية الاجتماعية في القران الكريم، د:زهير الاعرجي، أمير_قم، ص258-271.
1- الاسراء: 23.
2- التنقيع الرائع للسيوري الحلي ج 4 ص 230.
3- ص: 26.
4- المبسوط للشيخ الطوسي ج 8 ص 82.
5- المبسوط ج 8 ص 85.
6- النساء: 60.
7- التوبة: 122.
8- ( بنجامين كاردزو ). طبيعة العملية القضائية. نيويورك مطبعة جامعة ييل، 1921 م.
9- الجواهر ج 35 ص 3.
10- الوسائل ج 16 ص 133.
11- آل عمران: 81.
12- ( ريتشارد بوسنر ). المحاكم الفدرالية. بوستن: مطبعة جامعة هارفارد، 1985 م.
13- الطلاق: 2.
14- البقرة: 282.
15- علل الشرائع ص 338.
16- البقرة: 282.
17- التهذيب ج 6 ص 276.
18- البقرة: 283.
19- البقرة: 140.
20- تفسير الامام العسكري ص 303.
21- النور: 4.
22- النور: 13.
23- التهذيب ج 6 ص 264.
24- الكافي ج 7 ص 39.
25- من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 33.
26- ( ماكلين فليمنك ). ثمن العدالة الواقعية التامة. نيويورك: الكتب الاساسية، 1974 م.
27- النساء: 148.
28- الحجرات: 11.
29- نيل الاوطار ج 7 ص 104.
30- شرائع الاسلام ج 4 ص 77.
31- ( ابراهام بلوبرغ ). العدالة الجنائية: القضايا والسخرية. نيويورك: فيوبوينت، 1979 م.
32- الفرقان: 72.
33- التهذيب ج 6 ص 229.
34- التوبة: 42.
35- المجادلة: 14.
36- ص: 23.
37- مجمع البحرين للطريحي ص 452.
38- الحجرات: 9.
39-الحجرات: 9.
40- النساء:128
41- الجواهر ج 26 ص 211.
42- ( لويد واينرب ). التنكر للعدالة: الاجراءات الجنائية في الولايات المتحدة. نيويورك: المطبعة الحرة، 1979 م.
43- النساء: 128
44- ( ستيورات نكال ) وآخرون. العلم السياسي للعدالة الجنائية. كاليفورنيا: جارلس تومس، 1983 م.
45- ( ابراهام بلوبرغ )، العدالة الجنائية: القضايا والسخرية. نيويورك: فيوبوينت، 1979 م.
46- النساء: 59.
47- النحل: 43.
48- ( جون جينثر ). هيئة المحلفين في امريكا. واشنطن: حقائق على الملف، 1988 م.
49- ( جارلس سلبرمان ). العنف الجنائي والعدالة الجنائية. نيويورك: راندوم هاوس، 1978 م.
50- ( ارنست فان هاك ) و( جون كونراد ). عقوبة الموت: مناقشة. نيويورك: بلينوم، 1983 م.
51- ( جوزيف سكوت ) و( ترافيس هيرشي ) قضايا مثيرة للجدل في الجريمة والعدالة. كاليفورنيا: سيك، 1988 م.