العمل في الجمارك وتحصيل الرسوم على ما يجلبه الناس من بضائع أو أمتعة ، الأصل فيه أنه حرام .
لما فيه من الظلم والإعانة عليه ؛ إذ لا يجوز أخذ مال امرئ معصوم إلا بطيب نفس منه ، وقد دلت النصوص على تحريم المَكْس ، والتشديد فيه ، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في المرأة الغامدية التي زنت فرجمت : ( لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ ) رواه مسلم (1695) .
قال النووي رحمه الله :
" فيه أن المَكْس من أقبح المعاصي والذنوب الموبقات ، وذلك لكثرة مطالبات الناس له وظلاماتهم عنده ، وتكرر ذلك منه ، وانتهاكه للناس وأخذ أموالهم بغير حقها ، وصرفها في غير وجهها " اهـ .
وروى أحمد (17333) وأبو داود (2937) عن عقبة بن عامر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ ) .
قال شعيب الأناؤوط : حسن لغيره. وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود .
والمَكْس هو الضريبة التي تفرض على الناس ، ويُسمى آخذها (ماكس) أو (مكَّاس) أو (عَشَّار) لأنه كان يأخذ عشر أموال الناس . وقد ذكر العلماء للمكس عدة صور .
منها : ما كان يفعله أهل الجاهلية ، وهي دراهم كانت تؤخذ من البائع في الأسواق .
ومنها : دراهم كان يأخذها عامل الزكاة لنفسه ، بعد أن يأخذ الزكاة .
ومنها : دراهم كانت تؤخذ من التجار إذا مروا ، وكانوا يقدرونها على الأحمال أو الرؤوس ونحو ذلك ، وهذا أقرب ما يكون شبهاً بالجمارك .
وذكر هذه الصور الثلاثة في "عون المعبود" ، فقال :
(في القاموس : المكس النقص والظلم ، ودراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق في الجاهلية .
أو درهم كان يأخذه المُصَدِّق (عامل الزكاة) بعد فراغه من الصدقة .
وقال في "النهاية" : هو الضريبة التي يأخذها الماكس ، وهو العشار .
وفي "شرح السنة" : أراد بصاحب المكس : الذي يأخذ من التجار إذا مروا مَكْسًا باسم العشر اهـ .
وقال الشوكاني في "نيل الأوطار" :
( صاحب المكس هو من يتولى الضرائب التي تؤخذ من الناس بغير حق ) اهـ .
والمَكْس محرم بالإجماع ، وقد نص بعض أهل العلم على أنه من كبائر الذنوب .
قال في "مطالب أولي النهى" (2/619) :
( يحرم تعشير أموال المسلمين -أي أخذ عشرها- والكُلَف -أي الضرائب- التي ضربها الملوك على الناس بغير طريق شرعي إجماعا . قال القاضي : لا يسوغ فيها اجتهاد ) اهـ .
وقال ابن حجر المكي في "الزواجر عن اقتراف الكبائر" (1/180) :
( الكبيرة الثلاثون بعد المائة : جباية المكوس , والدخول في شيء من توابعها كالكتابة عليها ، لا بقصد حفظ حقوق الناس إلى أن ترد إليهم إن تيسر. وهو داخل في قوله تعالى : ( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) الشورى/42 .
والمكاس بسائر أنواعه : من جابي المكس ، وكاتبه ، وشاهده ، ووازنه ، وكائله ، وغيرهم من أكبر أعوان الظلمة ، بل هم من الظلمة أنفسهم , فإنهم يأخذون ما لا يستحقونه ، ويدفعونه لمن لا يستحقه , ولهذا لا يدخل صاحب مكس الجنة ، لأن لحمه ينبت من حرام .
وأيضا : فلأنهم تقلدوا بمظالم العباد , ومن أين للمكاس يوم القيامة أن يؤدي الناس ما أَخَذَ منهم ، إنما يأخذون من حسناته ، إن كان له حسنات , وهو داخل في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( أتدرون من المفلس ؟ قالوا : يا رسول الله ، المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . قال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ، وقد شتم هذا ، وضرب هذا ، وأخذ مال هذا ، فيأخذ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرح عليه ثم طرح في النار) .
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا يدخل الجنة صاحب مكس ) .
قال البغوي : يريد بصاحب المكس الذي يأخذ من التجار إذا مروا عليه مكسا باسم العشر . أي الزكاة .
قال الحافظ المنذري : أما الآن فإنهم يأخذون مكسا باسم العشر ، ومكسا آخر ليس له اسم ، بل شيء يأخذونه حراما وسحتا ، ويأكلونه في بطونهم نارا , حجتهم فيه داحضة عند ربهم ، وعليهم غضب ، ولهم عذاب شديد . اهـ .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "السياسة الشرعية": ص 115 :
( وأما من كان لا يقطع الطريق , ولكنه يأخذ خَفَارة ( أي : يأخذ مالاً مقابل الحماية ) أو ضريبة من أبناء السبيل على الرؤوس والدواب والأحمال ونحو ذلك , فهذا مَكَّاس , عليه عقوبة المكاسين . . . وليس هو من قُطَّاع الطريق , فإن الطريق لا ينقطع به , مع أنه أشد الناس عذابا يوم القيامة , حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الغامدية : " لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له " ) اهـ .
وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء عن العمل في البنوك الربوية أو العمل بمصلحة الجمارك أو العمل بمصلحة الضرائب ، وأن العمل في الجمارك يقوم على فحص البضائع المباحة والمحرمة كالخمور والتبغ ، وتحديد الرسوم الجمركية عليها .
فأجابت : إذا كان العمل بمصلحة الضرائب على الصفة التي ذكرت فهو محرم أيضا ؛ لما فيه من الظلم والاعتساف ، ولما فيه من إقرار المحرمات وجباية الضرائب عليها ) اهـ .
"فتاوى اللجنة الدائمة" (15/64) .
ومن هذا يتبين أن أخذ هذه الرسوم والضرائب ، أو كتابتها والإعانة عليها ، محرم تحريما شديداً .
ثانياً :
نظراً لأن هذا الظلم واقع على المسلمين ، وامتناعك من العمل فيه لن يرفعه ، فالذي ينبغي في مثل هذه الحال – إذا لم نستطع إزالة المنكر بالكلية – أن نسعى إلى تقليله ما أمكن .
فإذا كنت تعمل في هذا العمل بقصد رفع الظلم وتخفيفه عن المسلمين بقدر استطاعتك ، فأنت في ذلك محسن ، أما من دخل في هذا العمل بقصد الراتب ، أو الوظيفة , أو تطبيق القانون ، ونحو ذلك فإنه يكون من الظلمة ، ومن أصحاب المكس ، ولن يأخذ من أحد شيئاً ظلماً إلا أُخِذَ بقدره من حسناته يوم القيامة . نسأل الله السلامة والعافية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى" (28/284) :
"وَلا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ عَوْنًا عَلَى ظُلْمٍ ; فَإِنَّ التَّعَاوُنَ نَوْعَانِ :
الأَوَّلُ : تَعَاوُنٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِنْ الْجِهَادِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَإِعْطَاءِ الْمُسْتَحَقِّينَ ; فَهَذَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ . . . .
وَالثَّانِي : تَعَاوُنٌ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ، كَالإِعَانَةِ عَلَى دَمٍ مَعْصُومٍ ، أَوْ أَخْذِ مَالٍ مَعْصُومٍ ، أَوْ ضَرْبِ مَنْ لا يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، فَهَذَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . . .
ومَدَارَ الشَّرِيعَةِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) ; وَعَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : (إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ .
وَعَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ تَحْصِيلُ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلُهَا ; وَتَعْطِيلُ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلُهَا . فَإِذَا تَعَارَضَتْ كَانَ تَحْصِيلُ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا ، وَدَفْعُ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ مَعَ احْتِمَالِ أَدْنَاهَا : هُوَ الْمَشْرُوعُ .
وَالْمُعِينُ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ مَنْ أَعَانَ الظَّالِمَ عَلَى ظُلْمِهِ ، أَمَّا مَنْ أَعَانَ الْمَظْلُومَ عَلَى تَخْفِيفِ الظُّلْمِ عَنْهُ أَوْ عَلَى أَدَاءِ الْمَظْلِمَةِ : فَهُوَ وَكِيلُ الْمَظْلُومِ ; لا وَكِيلُ الظَّالِمِ ; بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُقْرِضُهُ ، أَوْ الَّذِي يَتَوَكَّلُ فِي حَمْلِ الْمَالِ لَهُ إلَى الظَّالِمِ .
مِثَالُ ذَلِكَ : وَلِيُّ الْيَتِيمِ وَالْوَقْفِ إذَا طَلَبَ ظَالِمٌ مِنْهُ مَالا فَاجْتَهَدَ فِي دَفْعِ ذَلِكَ بِمَالِ أَقَلَّ مِنْهُ إلَيْهِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ بَعْدَ الاجْتِهَادِ التَّامِّ فِي الدَّفْعِ ؛ فَهُوَ مُحْسِنٌ ، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ . . .
كَذَلِكَ لَوْ وُضِعَتْ مَظْلِمَةٌ عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ أَوْ دَرْبٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَتَوَسَّطَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مُحْسِنٌ فِي الدَّفْعِ عَنْهُمْ بِغَايَةِ الإِمْكَانِ ، وَقَسَّطَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةٍ لِنَفْسِهِ ، وَلا لِغَيْرِهِ ، وَلا ارْتِشَاءٍ ، بَلْ تَوَكَّلَ لَهُمْ فِي الدَّفْعِ عَنْهُمْ وَالإِعْطَاءِ : كَانَ مُحْسِنًا ; لَكِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ يَكُونُ وَكِيلُ الظَّالِمِينَ مُحَابِيًا مُرْتَشِيًا مَخْفَرًا لِمَنْ يُرِيدُ (أي يدافع عنه) وَآخِذًا مِمَّنْ يُرِيدُ . وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الظَّلَمَةِ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ هُمْ وَأَعْوَانُهُمْ وَأَشْبَاهُهُمْ ثُمَّ يُقْذَفُونَ فِي النَّارِ" اهـ .
والله أعلم .