[وقوله: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75]. وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة: 64]. ].
* قوله: (وقوله:
مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ). هاتان الآيتان أوردهما المصنف -رحمه الله- لإثبات اليدين لله -سبحانه وتعالى- حقيقة على ما يليق به. * الآية الأولى: قوله تعالى في سورة ص:
مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ فيها إثبات أن الله تعالى خص آدم -عليه السلام- بأنه خلقه بيديه سبحانه، فأثبت الله تعالى لنفسه يدين حقيقيتين على ما يليق بجلاله وكماله، وقد حرف ذلك المعتزلة والأشعرية، فقالوا: المراد خلقته بقدرتي أو خلقته بنعمتي، يعني: أن المراد باليد: القدرة أو النعمة، ويجاب عليهم بجوابين: الأول: بأن يقال لهم: أليس إبليس مخلوقا بقدرة الله؟ إذًا يأتي إبليس يقول: وأنا يا رب خلقتني بقدرتك، فلا يكون لآدم فضيلة وميزة على إبليس؛ لأن الجميع مخلوقون بقدرة الله، وكذلك فإن الجميع مخلوقون بنعمته، ليس أحد مستقلا بنفسه، وكل منهم منعم عليه، فإبليس قد أنعم الله عليه بخلقه وإيجاده، فكيف يقول الله تعالى لإبليس: اسجد لآدم الذي خلقته بنعمتي وقدرتي، مع أن إبليس مخلوق بنعمة الله وقدرته؟!، فلو كان المراد باليد: النعمة والقدرة، لقال إبليس: وأنا كذلك يا رب خلقتني بقدرتك ونعمتك، فدل ذلك على تفضيل الله لآدم بأنه خلقه بيديه الحقيقيتين كما يشاء. الجواب الثاني: أن الله -سبحانه وتعالى- ذكر اليد بلفظ المثنى، فقال:
لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75]. ولم يقل: بيدنا، بل ذكرها بلفظ التثنية، والله تعالى لا يوصف بأن له قدرتان فقط، فلا يقال: بقدرتينا؛ لأن قدرة الله عامة شاملة ولا تحصر بعدد، وكذلك لا يقال: بنعمتي ؛ لأن نعم الله كثيرة لا تعد، ولا تحصر باثنتين فقط، فدل ذلك على أن المراد بذلك إثبات يدين حقيقيتين لله تعالى كما يشاء. وبعض المبتدعة يقولون: إن المراد بقوله:
لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ يعني: توليت خلقه، وليس المراد إثبات اليد، بل المراد إثبات تولي ذلك والعناية به. والجواب عن ذلك بأن يقال: إن جميع المخلوقات قد تولى الله خلقها، فلماذا ذكر الله ذلك في تمييز آدم على إبليس مع أن إبليس وآدم قد تولى الله خلقهما جميعا؟ فدل ذلك على أن المراد باليدين هما الحقيقيتان على ما يشاء تعالى. وأما قوله تعالى:
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات: 47]. فالمراد بذلك: القوة، فليس الأيد جمع يد بل الأيد: هو القوة، وقد استخدمها العرب بذلك كما يقال: فلان له أيد، يعني: قوة، وفلان يملك أيدا، يعني: قوة، ولا يقال: فلان يملك أيديا، كما قال الله تعالى عن داود -عليه السلام-
ذَا الْأَيْدِ أي: ذا القوة في عبادة الله، فليس المراد بالأيد هنا جمع يد، بل المراد بالأيد القوة. * الآية الثانية: قوله تعالى في سورة المائدة:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة: 64]. قولهم: يد الله مغلولة، أي: عن النفقة والعطاء، يعني: أنه لا ينفق، والعرب تعبر عن البخل بغل اليد، كما قال تعالى:
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [الإسراء: 29]. أي: لا تجعل يدك مغلولة بحيث إنك لا تنفق ولا تتصدق مما في يدك، وقوله:
وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ يعني: لا تزد في النفقة إلى درجة الإسراف، فالمراد بقولهم:
يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ يعني: عن النفقة، أي: لا ينفق بها -سبحانه وتعالى- فقال تعالى ردا عليهم:
غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يعني: مبسوطتان بالعطاء وبالرزق وبالفضل على العباد، فالمقصود ببسط اليد هو: كثرة العطاء وكثرة الإنفاق الذي هو أهله، فدل ذلك على إثبات اليدين لله تعالى كما يليق بجلاله؛ لأن التعبير ببسط اليد، وإن كان المقصود به كثرة النفقة والعطاء، لكنه لا يجوز إطلاقه إلا على من اتصف بهذه الصفة في الأرض. وقد وردت أيضا اليد بالجمع كما قال تعالى:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس: 71]. أي: مما خلقنا، فلماذا ذكرها الله بلفظ الجمع أيدينا؟ الجواب: أن ذلك يستخدم في لغة العرب للتعظيم والتفخيم وليس للجمع، كما في قوله تعالى:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]. فقوله: إنا يعني: الله نفسه، وذلك للتعظيم، فالذي يعظم نفسه، يذكر نفسه بلفظ الجمع، يقول مثلا: ربحنا وخسرنا وأحضرنا وأمرنا وأعطينا، ومنعنا، ونحو ذلك، والضمير يعود على شخص واحد، فكأنه يعظم نفسه، والله -سبحانه وتعالى- أحق بالتعظيم، وبأن يعظم نفسه، فكذلك قوله:
خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أيدينا هنا بلفظ الجمع لأجل التعظيم، جمع اليد وأضافها إلى ضمير الجمع والمقصود هو ذات الله تعالى. وقد ورد ذكر اليد بصيغة المفرد كما في قوله تعالى:
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك: 1]. وقوله:
وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 26]. والمقصود بها الجنس -جنس اليد- لا العدد، ووردت بلفظ اليمين كما في قوله تعالى:
وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67]. ووردت بلفظ القبض، كما في قوله تعالى:
وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر: 67]. فهذه الأدلة صريحة في إثبات اليد الحقيقية لله -سبحانه وتعالى- وفيها رد على المعتزلة الذين يحرفونها كما يشاءون، فيقولون: إن المراد باليد: القدرة، أو النعمة، أو المراد بذلك: التهويل- تهويل الأمر- وليس هناك أمور حقيقة، وهذا كله من تحريف الكلم عن مواضعه وإضلال الله لهم. كذلك أيضا وردت في السنة أحاديث كثيرة صحيحة صريحة في إثبات اليدين الحقيقيتين لله تعالى على ما يليق به، لا يستطيع المعتزلة وغيرهم تأويلها- تحريفها- كقوله -صلى الله عليه وسلم-
. فقد ذكر هنا لفظ اليمين وذكر لفظ اليدين ، ومعنى قوله:
من اليمن الذي هو البركة والخير، وكذلك في قوله -صلى الله عليه وسلم-
. وذكر ابن كثير أحاديث كثيرة عند قوله تعالى:
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67]. في قبض الله للمخلوقات يوم القيامة، مثل قوله -عليه الصلاة والسلام-
. ومثل قول ذلك اليهودي للنبي -صلى الله عليه وسلم- إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك وقوله -صلى الله عليه وسلم-
. وفي حديث آخر، قال -صلى الله عليه وسلم-
. وقال ابن عباس -رضي الله عنه- ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم . فتحصل لنا من هذه الآيات والأحاديث؛ أن لله يدين حقيقيتين كما يشاء، وأنه يقبض بهما ويبسط، ويرفع ويخفض، وأن له أصابع... إلخ. والغرض والقصد من تعلمنا ومعرفتنا لهذه الصفات العلى لله -جل وعلا- عدة أمور: الأمر الأول: أنها صفات كمال ليس فيها نقص بوجه من الوجوه. الأمر الثاني: أنه يجب على المسلم أن يتبع النصوص ويصف الله تعالى بما وصف نفسه، أو وصفه رسوله، ولا يحرف ولا يعطل ولا يمثل ولا يشبه. الأمر الثالث: أن فيها تعظيم للمتصف بها، سيما إذا اعتقد من وصفه بها عدم مشابهتها لصفات المخلوقين، واعتقد عظمتها وعدم إحاطة شيء من المخلوقات بها، فإن الإنسان متى اعتقد أن الله يقبض السماوات السبع بيمينه- مع عظمتها- والأراضين السبع بشماله مع سعتها، عرف عظمة خالقه وإلهه، ولم يجرؤ على معصيته. كيف يعصيه هذا الآدمي الضعيف، وكيف يخرج عن طواعيته، وكيف يبارزه بالمخالفة مع علمه بعظمة ربه وإلهه، ولهذا ورد عن أحد السلف أنه قال: لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من تعصيه. فعلم العبد بعظمة الله، وتسميه بالأسماء الحسنى، واتصافه بالصفات العلى يحجزه عن معصية خالقه، ويدفعه إلى طاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. والخلاصة: أن أهل السنة والجماعة يثبتون لله تعالى يدين حقيقيتين تليق بجلال الله وكماله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تأويل ومن غير تشبيه ولا تمثيل. -30-