وقوله [ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد: 4]. وقوله: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة: 7]. لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة: 40]. وقوله: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46]. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128]. وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46]. كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 249]. ].
* قوله: (
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ). هذه الآيات مناسبة للآيات التي قبلها، والتي هي في مسألة العلو بجميع أنواعه، وقد يقول قائل: كيف الجمع بين آيات العلو وآيات المعية فلأجل ذلك أتى المؤلف -رحمه الله- بآيات المعية حتى لا يأتي بها منكر جاحد، فيطعن في آيات العلو؛ لأن أكثر الذين ينكرون صفة العلو يحتجون بآيات المعية. والمعية تنقسم إلى قسمين: معية عامة، ومعية خاصة. فالمعية العامة: دلت عليها الآيتان الأوليان، وهما قوله:
وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وقوله،
إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا وقوله تعالى:
وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء: 108]. ونحوها. وأما المعية الخاصة: فدلت عليها بقية الآيات كقوله:
لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا وقوله:
إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى وقوله
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ وقوله:
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ونحو ذلك كثير. المعية العامة: مقتضاها العلم والقرب والاطلاع والمراقبة. والمعية الخاصة: مقتضاها النصر والتأييد، والحفظ، والرعاية والكلاءة والفضل، فيكون لكل منهما معنى. وسيأتينا في العقيدة إن شاء الله أن المؤلف ضرب المثل بالقمر وكون القمر في السماء، والعرب يقولون: ما زلنا نسير والقمر معنا، فمعلوم أنه في فلكه سائر وهم على الأرض، فالمعنى أننا نشاهده ونستضيء بضوئه، فكأنه معنا. وقد يبكي صبي فيطل عليه أبوه من فوق السطح مثلا، ولو من بعيد، ويقول له: يا بني لا تبك إنني معك، أي: مطلع عليك وقريب منك. * الآية الأولى: في سورة الحديد وهي قوله:
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد: 4]. فالمعية العامة هي ما جاءت في قوله تعالى:
وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ فدل على أن المراد بقوله:
وَهُوَ مَعَكُمْ أنه عالم بكم. كذلك قوله:
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا بدأها بالعلم؛ وحيث إنه تعالى يعلم ما يلج في الأرض، وما يخرج منها، وما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، فإنه عالم بكم، مطلع عليكم أينما كنتم، لا تخفى عليه منكم خافية، فيكون مقتضى هذه المعية: القرب والاطلاع والسيطرة والهيمنة وكمال التصرف. والنتيجة: إذا عرف العبد أن الله معه؛ فلا شك أنه يراقب الله، يعرف أن الله مطلع عليه، وأنه لا يخفى عليه منه خافية، كما في قوله تعالى:
الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء: 218، 219]. فإذا آمن بأن الله معه، أي: عالم به ومطلع عليه ورقيب على أعماله؛ فإن ذلك يحمله على مراقبة الله، وعلى خوفه، وعدم الخروج عن طاعته، وعدم ارتكاب شيء من معاصيه، تقول له نفسه وقلبه: كيف تتجرأ عليه وهو معك؟ كيف تعصيه وتنتهك حرماته وهو مطلع عليك؟ كيف تتجرأ على مخالفته وهو مراقب لك ولأعمالك؟ ويحمله هذا على إصلاح الأعمال وعدم إفسادها، وعلى الإكثار من الحسنات والبعد عن السيئات، هذه فائدة الإيمان بالمعية. ويأتينا -إن شاء الله- في الأحاديث التي بعد هذه الآيات الحديث الذي يقول فيه -صلى الله عليه وسلم- أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت أي: أن تؤمن بمعية الله لك، فإنك إذا آمنت بذلك راقبته، ومراقبته تحملك على أن تخافه أشد الخوف، وأن تطيعه أتم الطاعة، وأن لا تعصيه طرفة عين؛ لأنك قد آمنت أنه معك ومطلع عليك، يعلم ما توسوس به نفسك، كما في قوله:
وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]. حبل الوريد: هو العصبة التي في الرقبة من الجانبين والمعنى: أن الله قريب من العبد بحيث إنه كامل التصرف فيه. فالحاصل أن هذه المعية يكون من مقتضاها كمال التصرف؛ التصرف في عبده كما يشاء بدون معقب، والقرب منه والاطلاع والعلم بأحواله خفيها وجليها. هذا معنى المعية العامة، التي دلت عليها هذه الآية من سورة الحديد، وهي قوله:
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا [الحديد: 4]. يلج في الأرض، أي: يدخل فيها مثل المياه الجوفية أو ما يدفن فيها من كنوز، أو من معادن أو من بذور، أو من أموات
وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا من نبات ومعادن ومياه ونحوها:
وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ من عذاب، أو من رحمة، أو من مطر، أو من رياح،
وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا من الأعمال والملائكة والأرواح ونحو ذلك
وَهُوَ مَعَكُمْ يعني: وهو عالم بكم، ومطلع عليكم، ورقيب عليكم، فكأنه معكم بقربه وكمال تصرفه
أَيْنَ مَا كُنْتُمْ فوجب عليكم أن تخافوه وتراقبوه. *الآية الثانية: من سورة قد سمع الله بدأها بالعلم، وختمها بالعلم، روي أن ابن عباس لما أنكر إنسان العلو، واحتج على ابن عباس بهذه الآية
مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ [المجادلة: 7]. قال له ابن عباس اقرأ ما قبلها، أي: اقرأ أولها:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ بدأها بالعلم
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ كل ما في السماوات وما في الأرض:
مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ النجوى: هي المناجاة بين اثنين أو بين ثلاثة، فالكلام الخفي الذي يتناجى به ثلاثة، الله تعالى يسمعه ويكون رابعهم، فهو عالم بما يقول كل منهم، ولا خمسة يتناجون سرا بكلام خفي إلا ويسمعهم الله تعالى، ويكون سادسهم، فهو عالم بهم، وكأنه بينهم، وهو -سبحانه وتعالى- على عرشه وفوق سماواته، ومع ذلك مطلع على أعمال عباده، ورقيب عليهم، ولا يخفى عليه منهم خافية، كذلك قوله في آخر الآية:
إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي: أن الله محيط بكل شيء علما، فقد بدأها بقوله:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وختمها بقوله:
إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فدل على أن المراد كمال العلم. فهاتان الآيتان تدلان على المعية العامة. * الآية الثالثة: في سورة التوبة، قول الله تعالى عن نبيه -عليه الصلاة والسلام-
لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة: 40]. لما كان هو وأبو بكر في الغار، وخافا من المشركين؛ طمأن النبي -صلى الله عليه وسلم- صاحبه وهو أبو بكر وقال:
لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا وليس في ذلك دليل على أنه حزن، إنما فيه تثبيته وطمأنته، وبيان أنهما في محل أمن، وأن الله يحفظهما
إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا وفي بعض الأحاديث
يعني: يحفظهما ويكلؤهما؛ معنا بنصره، معنا بحفظه، معنا بتأييده وتقويته، معنا بكلاءته ورعايته، فليس علينا حزن ولا خوف ولا تلف. فهم آمنون، وإن كان المشركون قريبا منهم، قال أبو بكر يا رسول الله:
. * أما الآية الرابعة: فإنها في المعية الخاصة، فقوله تعالى لموسى وهارون كما في سورة طه:
لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46]. عندما قال موسى وهارون:
إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه: 45]. يعني: فرعون، قال:
لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا ثم فسر المعية بقوله:
أَسْمَعُ وَأَرَى أسمع ما يقال لكما وأراكما لا يخفى علي منكما خافية، ومعنى هذا أنني ناصركما ومؤيدكما، فهذه معية النصرة والتأييد، إنني معكما أنصركما، وأقويكما، وأثبتكما، وأحفظكما حتى لا يصل إليكما مكروه. كذلك بقية الآيات فيها بيان فضل بعض الأعمال، وأن الله يحفظ أهلها. * فقوله:
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128]. يدل على فضل التقوى والإحسان، وأن أهلها يحظون بمعية الله، والتقوى: اسم جامع للأعمال الصالحة التي فيها اتقاء الله واتقاء عذابه. والإحسان يراد به إتقان الأعمال وإخلاصها وإتمامها، حتى تكون حسنة مقبولة. * كذلك قوله:
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46]. كذلك قوله:
اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 153]. فالصابرون هم الذين يثبتون عندما يلم بهم أمر، أو يقعون في مصيبة، فالله تعالى معهم بنصره وتأييده، وتقويته لهم وتثبيته. * كذلك قوله تعالى:
كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 249]. الفئة: الجماعة، والمعنى يوجد كثيرا فئة قليلة وتغلب فئة كثيرة في القتال، ويكون ذلك بنصر الله وتوفيقه وتثبيته لهم حتى ينتصروا، ويكون الله معهم؛ لأن الله تعالى مع الصابرين، هذا ونحوه دليل على المعية الخاصة التي هي معية النصر والتأييد، والآيات فيها كثيرة، تدل على فضيلة هذه المعية، وبيان فضل هذه الأعمال؛ لأن الإنسان إذا عرف أن هذا العمل يحظى أهله بمعية الله حرص على أن يكون من أهله، فيحرص على أن يكون من أهل الإحسان، وأن يكون من أهل التقوى لقوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128]. وأن يكون من أهل الصبر، وهكذا بقية الأعمال التي ذكر الله أن أهلها حظوا بمعية الله. بقي الجمع بين آيات العلو وآيات المعية، نقول: لا منافاة بين آيات العلو وآيات المعية، فإن الله تعالى علي في دنوه، قريب في علوه، فما ذكر عن علوه وفوقيته لا ينافي ما ذكر من قربه ومعيته، فإنه تعالى
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]. فليست معيته كمعية المخلوق، وليس علوه كعلوهم. فهو مع كونه عليا بكل أنواع العلو لا يخفى عليه من أمور عباده شيء، فهو مطلع عليهم ومهيمن عليهم، ورقيب على أعمالهم، وذلك لأنهم خلقه وملكه، وهو المالك لهم، فهو لا يغفل ولا يغيب عن عباده، كقوله:
وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف: 7]. فليس بينهما تنافٍ، فقربه يكون بعلمه وباطلاعه، وبكون كل شيء تحت تصرفه وأمره وتقديره:
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]. وعلوه هو ارتفاعه فوق عباده بجميع أنواع العلو، وليس بينهما والحمد لله منافاة.