لقد كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على فطرة سليمة وعقيدة صافية؛ لأنهم اقتصروا في تلقيها على الأصلين: الكتاب والسنة. فلم يظهر هناك أي مخالفات أو محدثات إلا ما كان من أحد الأعراب اسمه ذو الخويصرة عندما اعترض على النبي -صلى الله عليه وسلم- في تقسيمه بعض الغنائم على أصحابه . وفي عهد علي -رضي الله عنه- خرجت طائفة من الناس وهم الخوارج وابتدعوا في الدين عدة بدع، منها وهي أهمها: التكفير بالكبائر، واستحلال الدماء والأموال بغير حق. ومن بدعهم: الاقتصار على ما جاء في القرآن، وردّ ما جاء في السنة، كالمسح على الخفين، وما أشبه ذلك. وقد وردت أحاديث في التحذير منهم ومن مسلكهم كما جاء في الحديث: يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية وفي رواية: يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية إلى آخر أوصافهم مما يدل على سوء معتقدهم، وانحراف مسلكهم . * ثم ظهرت بدعة القدرية في آخر عهد الصحابة- يعني: فيما بعد السبعين من الهجرة- فنفوا علم الله السابق الأزلي، وقالوا: إن الأمر أُنُف؛ يعني: مستأنف، فزعموا أن الله لا يعلم الأشياء قبل وقوعها، وقد ظهروا في العراق، وكان رئيسهم معبد الجهني وغيلان القدري. وقد أنكر عليهم بعض الصحابة هذه البدعة، كما رُوي عن عبد الله بن عمر وعبادة بن الصامت- رضي الله عنهم- وغيرهم . * ثم ظهرت بدعة الإرجاء وكان ذلك في أواخر القرن الأول؛ حيث قالوا: لا تضر مع الإيمان معصية، فما دمت مؤمنا فلا يضرك ارتكاب أي معصية، وأنت كامل الإيمان. وسُمُّوا بالمرجئة؛ لأنهم أرجؤوا- أي: أخَّرُوا- الأعمال عن الإيمان، حتى قال قائلهم:
وقد أنكر عليهم كثير من التابعين. * ثم ظهرت بدعة الاعتزال - في أوائل القرن الثاني- فزعموا أن الذي يرتكب المعاصي ليس بمؤمن ولا كافر؛ بل هو في منزلة بين المنزلتين، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فهو خالد مخلد في النار، والذي تولى ذلك رجل يقال له واصل بن عطاء ؛ حيث اعتزل مجلس الحسن البصري فسموا بالمعتزلة، وقد سلك طريقته رجل يقال له عمرو بن عبيد . * ثم ظهرت بدعة نفي الصفات -في وسط القرن الثاني- فأنكروا صفات الله التي أثبتها لنفسه، فقالوا: إن الله لا يحب ولا يرحم، وليس على العرش استوى... إلخ. وكان أول من نُقل عنه ذلك من العرب رجل يُقال له الجعد بن درهم . وقد ذكره ابن القيم في النونية في قوله
لقد أنكر أن الله يحب، وأنه اتخذ إبراهيم خليلا؛ وأنكر أن الله يتكلم، وأنه كلم موسى تكليما، ولأجل ذلك قتله خالد بن عبد الله القسري في عيد الأضحى عندما خطب بالناس، قال في آخر الخطبة: ضحُّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم. قال ابن القيم
ثم تقلّد تلك البدعة رجل يقال له الجهم بن صفوان السمرقندي ، ثم نشرها ودعا إليها فنسبت إليه، فيقال: الجهمية نسبة إليه، وقد حفظ عنه أقوال بشعة، فقد أنكر علو الله على خلقه واستواءه على عرشه؛ حتى إنه تمنى أن يُحكَّ قول الله تعالى:
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]. من مصاحف المسلمين. وكان السلف يسمُّون كل من بالغ في نفي الصفات أو نفي التشبيه جهميا؛ لأن عمدة الجهمية أنهم ينكرون إثبات كل صفة في المخلوق لله تعالى، ويقولون: إن إثباتها تثسبيه، ثم قتل الجهم بن صفوان وجاءت من بعده المعتزلة فانتحلت بدعته. ولكن الجهم ابتدع ثلاث بدع، وهي: الأولى: بدعة إنكار الصفات: وقد كفرهم طوائف من المسلمين بإنكار الصفات، يقول ابن القيم
الثانية: بدعة الجبر: وهو زعمه أن العبد مجبور على المعاصي ومقسور، ليس له اختيار، وأنه بمنزلة من يُقذف به في الماء وهو موثق، حتى يقول قائلهم:
ويقولون: إن حركته كشجرة تحركها الرياح ليس له اختيار يقول ابن القيم في النونية (ص 34): <شطر> والعبـد عنـدهم فليس بفاعل [close] <شطر> بل فعله كتحرك الرَّجَفَان [close] <شطر> وهبـوب ريـح أو تحـرك نائم [close] <شطر> وتحــرك الأشـجار للمـيلان [close]
. فالعصاة عندهم معذورون، لأنهم مجبورون، وهذه بدعة شنيعة تبطل الشرع، ومعناها أن ليس لله حجة على العباد، وأنه لو عذب العصاة لكان ظالما لهم. الثالثة: بدعة الإرجاء: وهي توسعته في الذنوب وقوله: إنه لا يضر مع التوحيد ذنب، وهذه البدع الثلاث التي ابتدعها الجهم تفرقت: * فبدعة الإرجاء تقلَّدها طائفة المرجئة. * وبدعة الجبر تقلدها طائفة الجبرية * وبدعة نفي الصفات تقلدها المعتزلة. وهذه الأخيرة -أي: بدعة الاعتزال- هي التي تمكنت وانتشرت. * ولما كان القرن الثالث أو أواخر القرن الثاني الهجري اهتم السلف -رحمهم الله- بالرد على جميع الفرق المبتدعة. وقد ظهرت كتب ومقالات في الرد على هؤلاء المبتدعة: * وأقدم من ذكر أنه كتب في الرد على نفاة الصفات ابن الماجشون أحد علماء المدينة في آخر القرن الثاني؛ فقد كتب ورقتين أو ثلاثا في الرد عليهم، وقد نقلها برمتها شيخ الإسلام ابن تيمية في الحموية، ونقلها الإمام ابن القيم في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية ونقلها أيضا الذهبي في العلو. ثم كتبت رسائل كثيرة في العقائد لبعض الأئمة منها رسالتان للإمام عثمان بن سعيد الدارمي الأولى: كتاب الرد على الجهمية يذكر فيه صفات الله تعالى مع سرد الأدلة من الكتاب والسنة على كل صفة. الثانية: رسالة بعنوان: رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد. وبشر بن غياث المريسي ؛ كان خلفا للجهم بن صفوان فتبنى بدعته ودعا إليها، وكان ذلك في آخر القرن الثاني. وكان قد اعتضد ببعض الولاة الذين ساعدوه على نشر بدعته، وقد تتلمذ له- أي: بشر المريسي - فقيه من فقهاء الحنفية يقال له محمد بن شجاع الثلجي حيث كان يدرس عليه بالخفاء، فصار تلميذا خاصا للمريسي وتبنى عقيدته وكتبها في رسالة سماها: هذه عقيدة بشر المريسي ، ولم يصرح باسمه، ولكنه عرف وكشف بعد ذلك. والحاصل أن الإمام الدارمي قد رد على بشر المريسي وعلى تلميذه ابن الثلجي وبالغ في إبطال ما جاء به ذلك الخبيث من الشبه، وذكر الأدلة على ذلك، ومذهب أهل السنة في كل مسألة. وممن ألف في ذلك الإمام أحمد فإن له عدة رسائل في العقيدة، منها رسالة عنوانها: الرد على الجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن ، وقد طبعت مرارا، وقد حققها عبد الرحمن عميرة وقد ذكر فيها شيئا من عقائد الجهمية وأقوالهم، وسبب تشكك الجهم وانحرافه، وسبب انتحاله لهذه العقيدة. كذلك له أيضا كتابات كثيرة في العقائد تجدها في تراجم تلاميذه في المجلد الأول من طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى والذي خصه بتراجم لتلاميذ الإمام أحمد وكان ابن أبي يعلى -رحمه الله- إذا ترجم لأحد تلاميذ الإمام أحمد قال: روى عنه مسائل أو رسالة عنوانها كذا في العقيدة أو غيرها، ثم يرويها بالإسناد إليه ثم يسردها أحيانا. وهذا يدل على أن الإمام أحمد -رحمه الله- كانت له رسائل يكتبها لبعض الناس الذين يطلبونها منه، حيث يأتيه أحدهم -وقد يكون من تلاميذه- فيقول له: إن بلادنا قد كثرت فيها البدع والمبتدعة وأظهروا معتقداتهم، فاكتب لي عقيدة أتشبث بها، فيمليها عليه وهو يكتب، فيأخذها ويحتفظ بها، ثم يرويها، ويقول في مقدمتها: هذه عقيدة أملاها علي الإمام أحمد أو كتبها لي. وقد تتبعها الإمام ابن أبي يعلى بالرغم من بعد المسافة التي بينهم، ولكنه رواها بأسانيد وأثبتها في تراجمهم، فالحاصل أن فيها ما يدل على ثبوت ما يعتقده، وأنه أوصى تلاميذه بما يعتقده مما يتعلق بالصفات، ومما يتعلق بالقرآن وأدلة ذلك. * وممن ألف في ذلك أيضا عبد الله ابن الإمام أحمد فقد ألف كتابا سماه السنة ذكر فيه الأحاديث المرفوعة والآثار المروية عن الصحابة وعن السلف فيما يتعلق بالصفات والرد على المبتدعة في ذلك؛ كالجهمية ونحوهم. * وممن ألف في ذلك الإمام البخاري -رحمه الله- في كتابه: خلق أفعال العباد. وهكذا ردوا عليهم في مؤلفاتهم العلمية كصحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود وغيرها؛ فقد ذكروا فيها كتبا في ذلك ككتاب التوحيد أو الإيمان أو السنة ونحو ذلك. وبعد ظهور هذه المؤلفات والردود في العقيدة في أواخر القرن الثاني، وفي القرن الثالث ثارت ثائرة المبتدعة، ومنهم المعتزلة، وحاولوا نشر بدعهم، فتغلغلوا في الدولة العباسية بسبب قربهم من بعض الخلفاء وولايتهم الوزارة والتربية لبعض أبناء الملوك مثل الخليفة المأمون حتى قرّب بعض أكابرهم وهو أحمد بن أبي دؤاد فأقنع المأمون بعقيدة المعتزلة، فزين له القول بأن القرآن مخلوق وإنكار الصفات وإنكار العلو وما أشبه ذلك. فلما تابعهم المأمون على عقيدتهم، قالوا له: لا بد وأن تبث هذه العقيدة في الناس، وأن تلزم الناس بها، وأن تفتن من قال بخلافها، فوافق على ذلك، ومن هنا بدأت الفتنة وعظمت المصيبة، حيث امتُحن الأئمة في آخر حياة المأمون وفي خلافة المعتصم وخلافة الواثق ففي زمن هؤلاء الخلفاء الثلاثة قويت بدعة إنكار الصفات وتمكنت، وصار أهل السنة مستضعفين، بل صاروا في غاية من الاحتقار والإهانة، وعزّ المتمسك بتلك العقيدة، حيث نُفِّر من عقيدتهم حتى إنهم يستخفون بقولهم لكثرة من هو ضدهم، وحصل لهم من البلاء ما الله به عليم، وحصلت في ذلك الوقت محنة الإمام أحمد وهي معروفة ومشهورة. وكان هناك من المعتزلة من لهم مكانة مرموقة ومنزلة عالية ومذهب قوي في الاعتزال، وكان لهم مؤلفات وكتابات كلها على طريقتهم ونحلتهم، ومن أبرز من ألف في ذلك القاضي عبد الجبار الهمداني المعتزلي، فقد ألف عدة كتب في عقيدتهم، منها -وهو أشهرها- كتاب: المغني، ومع الأسف فإنه لقي رواجا في هذه الأزمنة، قد وُجدت منه نسخ متفرقة أكثرها في البلاد اليمنية، ثم ظهر من اعتنى به وحققه وطبعه طباعة جيدة في بلاد سوريا وله كتاب آخر اسمه: متشابه القرآن، وقد حمل في هذين الكتابين وغيرهما على أهل السنة وهاجم فيهما المعتقد الصحيح، وهذا الكتاب وهو: متشابه القرآن قد حققه رجل من أهل سوريا اسمه: الدكتور عدنان محمد زرزور وقد طبع في مجلدين. والظاهر أن زرزور هذا على عقيدة القاضي عبد الجبار وذلك يظهر من خلال تحقيقه للكتاب وتعليقاته عليه وتأييده لتأويلاته، ثم إنه اختصره في مؤلف سماه أيضا متشابه القرآن، وطبعه في مجلد صغير، وذكر فيه تأويل آيات الصفات وسماها متشابها وخاصة الآيات التي فيها إثبات الصفات. وحمل على أهل السنة، وحمل على ابن تيمية وذكر من كتبه نقولات شنع بها عليه، وذكر أنه مشبه، وأنه مجسم وأنه كذا وكذا إلخ، مما يدل على أن لكل قوم وارثا. وحمل هذا الرجل أيضا على كتاب السنة لعبد الله ابن الإمام أحمد وكذلك على كتاب التوحيد لابن خزيمة -رحمه الله- وابن خزيمة من أجلاء العلماء، صاحب كتاب الصحيح، ومن أهل القرن الثالث والرابع. وقد شنع زرزور على هذا الكتاب- أي: كتاب التوحيد لابن خزيمة - حتى قال: إن بعضهم سماه: كتاب الشرك أو كتاب التشكيك، وتمنى أن يحرق، وماذا يحتوي عليه كتاب التوحيد لابن خزيمة ؟!! إن هذا الكتاب يقتصر على الأحاديث يرويها بالأسانيد وعهدتها على نقّالها، ويحتوي على آيات قرآنية وأحاديث نبوية، فهؤلاء المبتدعة يلومون ابن خزيمة على تصنيفه هذا الكتاب، ويقولون: لماذا يكثر من الأدلة في إثبات الصفات؟! فإذا ذكر صفة اليد مثلا أتى بعشرة أدلة أو عشرين دليلا لإثبات صفة اليد. فلو لم يذكر إلا دليلا واحدا لأمكننا التأويل، ولكن يصعب تأويل عشرين دليلا. لذا شنعوا على هذا الكتاب وسموه: كتاب الشرك أو التشكيك. والحاصل أنه استمر الأمر على هذه الحال إلى آخر خلافة الواثق فلما كان الخليفة الرابع وهو المتوكل فهداه الله وفرج به عن أهل السنة، وأظهرهم به على مخالفيهم، فنصر السنة وقرب أهلها، وأذن لهم بإظهار عقيدتهم في دروسهم وفي كتبهم. فعند ذلك قمع الله المبتدعة وأذلّهم، وفرق كلمتهم، ومن ثم بادر أهل السنة بالكتابة في العقائد، فألفوا المؤلفات الكثيرة في ذلك، منها المختصرة والمطولة، وقد ذكر جانبا منها شيخ الإسلام ابن تيمية في الحموية، وقد أشرنا إلى بعضها فيما تقدم، ومن ذلك: كتاب السنة للخلال والسنة لابن أبي عاصم واعتقاد أهل السنة للالكائي والشريعة للآجري والتوحيد لابن خزيمة والتوحيد لابن منده والإيمان له، ولأبي بكر بن أبي شيبة ولأبي عبيد القاسم بن سلام وهي مطبوعة. ومن ذلك كتاب الأسماء والصفات للبيهقي وهو مطبوع أيضا، ولكن حققه الكوثري وأفسده؛ حيث تأول كل ما فيه وسلط عليه التأويلات التي أبطلته، كما أن المبتدعة لما فسروا القرآن سلطوا عليه أنواع التأويلات. وكتب أيضا في ذلك الطحاوي عقيدته المشهورة ولم يصرح فيها بالمذهب الصحيح في إثبات صفة الاستواء والعلو الحقيقي والصفات الفعلية على قول سلف الأمة الذي تؤيده الأدلة الصريحة؛ لأنه كان في زمن قد كثر فيه المنكرون للصفات. وإن كان صرح ببقية الصفات، وعلى كل فهو قد دخل عليه شيء من شبهات أهل الكلام، فلأجل ذلك تعاطى شيئا من بدعهم واستعمل شيئا من عباراتهم، والله يعفو عنه، وعقيدته صالحة لكن لما لم تكن صريحة شرحها أتباع المعتقد الأشعري على طريقتهم، وشرحها أهل السنة على عقيدتهم، وشرحها المعتزلة على عقيدتهم، وكل منهم يقول إنه على عقيدتنا. ومن المبتدعة الذين أنكروا بعض الصفات وتأولوها الأشاعرة فقد كتبوا في العقائد ولهم مؤلفات كثيرة نظما ونثرا، ومن ذلك عقيدة اسمها العقيدة السنوسية والعقائد النسفية، والجوهرة، وهي مطبوعة في مجموع المتون ولها عدة شروح نثرا على طريقة الأشاعرة. وأيضا هناك منظومة اسمها: الخريدة على عقيدتهم، ومنظومة أخرى اسمها الشيبانية، وهي أقرب إلى السنة وإن كان فيها بعض التأويلات: وأولها:
إلى أن يقول مما هو مستنكر عليه، وإن كان له احتمال صحيح:
فالأشاعرة كتبوا عقائد كثيرة منها ست أو سبع عقائد مطبوعة في أول مجموع الفتاوى، وبه نحو من اثنين وستين متنا وشروحها مشهورة عندهم. فعليك -أيها المسلم الموحد- بمؤلفات أهل السنة وكتبهم وخاصة كتب السلف المتقدمين، وبعض كتب المتأخرين مثل: لمعة الاعتقاد لأبي محمد بن قدامة المقدسي صاحب المغني، وله كتب في إثبات العلو وغيره، وقبله القاضي أبو يعلى كتب في الصفات وإبطال التأويلات. ثم جاء شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- والذي ظهر -رحمه الله- في وقت قل فيه واستُغرب من هو على منهج أهل السنة والجماعة، فضلا عن وجود من يجهر بذلك، فألهمه الله الحق وصدع به، وتصدى لمن خالف ذلك، وأظهر الأدلة الواضحة التي تدل على ما ذهب إليه، وكتب في ذلك مؤلفات كثيرة مختصرة ومبسوطة. فلما كتب هذه العقيدة نوظر فيها من قبل الأشاعرة، وأحضروا هذه النسخة، وطلبوا منه الحضور، ثم قُرئت عليه في عدة مجالس، ثم حاسبوه عن كل كلمة قالها وناظروه: فبين لهم أنه الصواب بالأدلة الشرعية فحجَّهم وبين لهم البيان الواضح. وكتب مناظرته أيضا -وهي مطبوعة- وكان ابن تيمية -رحمه الله- قد أمهلهم ثلاث سنوات على أن يأتوا بكلمة واحدة في هذه العقيدة تخالف ما كان عليه اعتقاد السلف الصالح فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا. ثم كتب عقيدته التي هي أوسع منها، وهي العقيدة الحموية لأهل حماة وقد كتبها في أواخر القرن السادس الهجري في حدود سنة ستمائة وثمان وتسعين، ولما كتبها أيضا حصل له بسببها أذى وفتن -رحمه الله- فحبس لأجلها ونوظر، ولكن لم يقدروا أن يردوا عليه، ثم اشتهرت وانتشرت فكفره أهل مصر، وقالوا: إنه كافر مشبه... وأنه... وأنه، إلخ، ووشى به علماء السوء والسلطة إلى السلطان آنذاك، فاستدعاه السلطان لمناظرة علمائه. فلما وصل إلى مصر حضر عند قاض كبير يقال له ابن مخلوف حنفي المذهب، وتصدى لمناظرته رجل من علماء الشافعية يقال له ابن عدوان فلما مثلا بين يدي ابن مخلوف قال ابن عدوان أنا أدعي على ابن تيمية هذا أنه يقول: إن الله على العرش بذاته، وأنه يقول: إن الله ينزل نزولا حقيقيا إلى السماء الدنيا، وأنه يقول: إن الله يتكلم بحرف وصوت. عند ذلك قال له ابن مخلوف ما تقول يا فقيه؟- يخاطب ابن تيمية - فابتدأ ابن تيمية بالحمد لله والثناء على الله فقطعوا عليه حمده، وقالوا له: ما أتينا بك لتخطب. عند ذلك قال: فمن يكون الحكم؟!، فقال: ابن مخلوف أنا؟ فقال شيخ الإسلام: كيف تقضي عليَّ؟ وأنت من جملة الخصوم، فغضب وكتب للسلطان بسجنه، فأدخل السجن، ومكث فيه عدة سنين، وكان هؤلاء يترددون عليه بين الآونة والأخرى فيناظرونه، ولكن تكون له الغلبة عليهم في كل المرات. والحاصل أنه بعد ذلك اشتهرت كتبه وخاصة هذا الكتاب المسمى: بـ العقيدة الواسطية ورفع الله ذكره، وكثر أتباعه على الحق.