[فصل: ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا واتباع سبيل السابقين الأوليين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة . ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد] .
*قوله: (فصل: ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا...): هذا الفصل في الاتباع وإدخاله في العقيدة بمناسبة أن الذي يصدق إنسانا يتبعه؛ فالذين يصدقون الرسول صلى الله عليه وسلم يتبعونه، ومن اتبعه في شيء دون شيء دل على ضعف تصديقه، ومن قبل بعضا دون بعض دل على عدم تطبيقه، وعلى كذبه في شهادته له بالرسالة. فلما كان أهل السنة صدقوا بأن الله هو ربهم وإلههم ومعبودهم ، وصدقوا بأنه الذي كلفهم وأمرهم ونهاهم، وصدقوا بأنه الذي تعبدهم بهذه الشريعة التي فيها هذه الواجبات وهذه المحرمات، وصدقوا أيضا محمدًا صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وبرسالته، واعتقدوا صحة ما جاء به، وبأنه مرسل من ربه، واعتقدوا أن شريعته هي شرع الله ، وأنه ما جاء بشيء من نفسه إنما هو مبلغ ومبين. فلما اعتقدوا ذلك كله، عملوا به وقبلوه واتبعوه، فاتباعهم للقرآن يعتبر اتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم ، واتباعا لله تعالى. وقد أمرهم الله باتباع القرآن في آيات كثيرة، قال الله تعالى:
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر: 55 ]. وكذلك أمرهم باتباع النبي صلى الله عليه وسلم ورتَّب على اتباعه الأجر، ومن ذلك قوله تعالى:
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف: 158] فجعل اتباعه سببا للاهتداء. قال تعالى:
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران: 31] فجعل في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فائدتين. حصولك على محبة الله، وحصولك على مغفرة الذنوب
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ فمن طريقة أهل السنة ومن عقيدتهم: اتباع ما جاء عن الله تعالى في كتابه الذي أنزله وحيا على محمد صلى الله عليه وسلم، فبعد أن اعتقدوا أنه وحي من الله، وأنه كلام الله الذي وجهه إلى عباده وضمَّنه شريعته، اعتقدوا بعد ذلك أنه يلزمهم السير على نهجه، وأنه يلزمهم اتباعه وتطبيق ما فيه. كذلك حقيقة الاتباع ليست مجود انتساب، فكثير من الناس يقال له: ألا تتبع ما جاءك من الله فيقول: بلى أنا أتبعه هل رأيتني قد خالفته؟ فيقال له ألا تتبع النبي صلى الله عليه وسلم وتطبق ما جاء به؟ فيقول: بلى، أليس قد اتبعته، هل رأيتني خالفته؟ نقول: حقيقة الاتباع هي تطبيق كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم تطبيقا دقيقا، بحيث إن المتبع لا يترك سنة إلا ويعمل بها، ولا يترك أمرا إلا ويمتثله، ولا نهيا إلا ويبتعد عنه وينزجر. وقدم أمر الله تعالى بتقبل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، والانقياد له، فهو المبلغ عن الله تعالى، ولا بأس أن نذكر أنواعا من الأدلة التي وردت بذلك: فمنها: الأمر بالتأسي به؛ قال تعالى:
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] وحقيقة التأسي هو تقليده، وفعل ما يفعله، فإذا عرفنا أن هذا الفعل فعله فإننا نفعله تأسيا به واستنانا واتباعا له واعتقادا أنه طاعة لله. ومنها: الأمر بالطاعة، وقد ورد هذا كثيرا في القرآن في نحو أربعين آية فيها الأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، فتارة يعطفها على طاعة الله كقوله تعالى:
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة: 92] وتارة تكون مستقلة كقوله:
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور: 56] ويرتب عليها الفوائد كما في هذه الآية حيث رتب على طاعة النبي الرحمةَ. وأنت تعرف أن الطاعة تتمثل في امتثال الأوامر وترك الزواجر، فالذي تأتيه الإرشادات من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن يأخذ منها ما يناسب زمانه ويترك منها ما لا يناسب، فإنه ما أطاعه حق الطاعة. وإذا سئل هذا المفرط عن سبب تفريطه احتج بأن أهل هذا الزمان لا يناسبهم كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الزمان قد تغير والناس قد تطوروا وما أشبه ذلك، ونحن نعيش مع الناس، فينبغي لنا أن نسايرهم حتى لا ينفروا منا على حد زعمه- فإذا تمسكنا بكل ما جاء به الكتاب والسنة، هجرنا الناس وقلونا وتنقصونا. فالواجب على هذا وأمثاله أن يطيع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما أمرا به ، وأن ينتهي عن كل ما نهياه عنه، وإن حصل له ما حصل من الإبعاد والهجران، وله في نبي الله صلى الله عليه وسلم وصحابته أسوة حسنة، فقد فارقوا الأهل والأوطان، وتركوا أموالهم وديارهم، وجادوا بأنفسهم طاعة لله عز وجل وابتغاء مرضاته. ومن الأدلة أيضا: التحذير الشديد من المخالفة له وذلك في مثل قوله:
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63] قال الإمام أحمد رحمه الله: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. يعني إذا رد بعض قول النبي صلى الله عليه وسلم ، وقدم عليه عادات الناس وسيرتهم ومألوفاتهم، وقع في قلبه شيء من الزيغ، وهو بغض شيء من السنة، وتمنى أنها لم ترد، فيكون بذلك ماقتا للنبي صلى الله عليه وسلم منتقدا له، كأنه يتمنى أنه لم يأمر بهذا الأمر، أو لم يحرم هذا المنهي عنه، فيكون هذا سببا لزيغ قلبه، مما يوجب له الهلاك أو مقاربة الهلاك. ومنها أيضا: قوله تعالى:
وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] وهذا يوجب للإنسان أن يمتثل الإرشادات ويمتنع عن المنهيات، وقد رتب النبي صلى الله عليه وسلم الثواب والعقاب على هذه المتابعة؛ فقال عليه الصلاة والسلام:
؛ فجعل طاعته وعصيانه سببا إما للثواب وإما للعقاب. فهذه أنواع من الأدلة التي يتبين بها وجوب التحاكم إلى شرع الله سبحانه وتعالى واتباع ما جاء به نبيه صلى الله عليه وسلم والرضى بذلك والتسليم، وعدم وجود شيء من الحرج في النفس لشيء من الأحكام كما جاء ذلك في قوله تعالى:
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65] فنفى عنهم الإيمان إلا بهذه الخصال: وهي أن يُحَكِّموه؛ أي يجعلوه حكما بينهم، وإذا جاءهم حكمه رضوا به في كل ما شجر بينهم، وكل ما تنازعوا واختلفوا فيه، يرجعون به إلى حكم النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إذا كان في ذلك الحكم شيء من مخالفة النفس أو الهوى، أو فيه شيء من مخالفة العادات المألوفة بين الناس فإنهم لا يبغضون ذلك الحكم ولا يردونه، فيقولون مثلا: يا ليته ما أمرنا بإعفاء اللحى، أو يا ليته ما أمرنا بترك الفواحش والزنى، أو يا ليته ما أمرنا بترك الربا، أو يا ليته تركنا أحرارا في أموالنا نتصرف فيها ونتعامل بها كيف نشاء، بل إنهم يتقبلون كل ما جاء به ولا يبغضون شيئا من سنته. فإذا قبلوا بعضا دون بعض، أو قبلوا ما يناسبهم دون ما لا يناسبهم، أو فعلوا شيئا من المخالفات ولو مع اعتقاد التحريم، كأن يشربوا الخمر تهاونًا بعقوبة الله المترتبة عليها مع اعتقادهم أنها محرمة، فإن هذا من التهاون بعقوبة الله والاستهانة بحُرُماته، فيكون ذلك تنقصا لدين الله. فالحاصل أن من عقيدة أهل السنة: اتباع النبي صلى الله عليه وسلم واتباع كتاب الله، واتباع طريقته التي سار عليها أقوالا وأفعالا. ومن عقيدة أهل السنة أيضا اتباع سيرة الخلفاء الراشدين عملا بوصية النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح حيث قال:
ولا شك أن الخلفاء الراشدين الذين هم الخلفاء الأربعة ما قالوا شيئًا من قِبَل أنفسهم، إلا ما للاجتهاد فيه مجال، فإنهم يجتهدون إذا لم يعلموا الحكم فيما وقع لهم. ولما كانوا قد صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم الصحبة التامة ، وعرفوا نهجه وسيرته، وحفظوا عنه سنته، وعرفوا أهداف شريعته ومراميها، وصَّى النبي صلى الله عليه وسلم باتباعهم؛ لأنه عرف أنهم لا يميلون، ولا يؤثرون عليها باطلا، فهذا هو السبب في كونه وصَّى باتباعهم، وبالسير على سنتهم، وسماهم خلفاء؛ لأنهم خلفوه أي جاءوا بعده، وقد خلف بعضهم بعضا أيضا. فأبو بكر رضي الله عنه خلف النبي صلى الله عليه وسلم في الولاية وإقامة الحدود وجمع الكلمة، وفي تدبير الشئون وفي تقرير العقوبات على مستحقيها وفي إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد وما أشبهها. ثم جاء عمر رضي الله عنه خليفة لأبي بكر فسار بسيرته ونهج نهجه، وجهَّز الجيوش، وفتحت بتدبيره البلاد، وانتشر الإسلام، وكذلك أيضا بلغ ما علَّمه، وحكم بين الناس، وأفتى وعلم وفهم، وأوقف الناس على الأحكام، وعلى الحكم والمصالح. وهكذا بقية الخلفاء، فلما كانوا كذلك كانت سنتهم وسيرتهم أولى بأن تتبع؛ ذلك لأنهم كانوا على نهج النبي صلى الله عليه وسلم ، سماهم راشدين اشتقاقًا من الرشد، والرشد ضد الغي، قال تعالى:
قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة: 256] فالرشد هو طريق الفلاح والخير والصلاح، وهم راشدون؛ أرشد الله بهم الأمة، وسماهم مهديين؛ لأن الله قذف في قلوبهم الهدى، هداهم وهدى بهم وسددهم، فهذه شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالخير، فلأجل ذلك قال:
. والسنة: الطريقة التي يسار عليها بالأعمال لا بالأقدام، فسنتهم نهجهم وأعمالهم التي عملوها وأقوالهم التي قالوها، فأمر باتباعهم في ذلك؛ لأنهم كانوا على النهج القويم. وأمر بالتمسك بالسنة فقال: تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ والعض معناه قوة الإمساك، وليس هو العض الحقيقي بالأسنان، إنما المراد: قوة العمل بها، كأنه يقول: لا بد وأن تنالكم فتن، ولا بد وأن تحبسوا، وتضربوا إذا تمسكتم وصبرتم واتبعتم السنة، فقد يستهزأ بكم، وقد يأتيكم من يتنقصكم، وقد يمقتكم كثير من الناس، ويرميكم برجعية أو بجمود أو بتزمت وتشدد وتعصب. فلا يزيدكم ذلك إلا تمسكا، ولا يزيدكم ذلك إلا اتباعا لهذه السنة وتمسكا بها، تمثلوا بمن يعض على الشيء بأضراسه؛ فالنواجذ هي أقاصي الأسنان، فقد مثل شدة التمسك بالسنة كالذي يعض على الشيء بأسنانه كلها، فإن ذلك أعلى قوته، أي تمسكوا بها ولو حُبستم، ولو ضُربتم وأوذيتم، ولو نالكم ما نالكم، فلا يصدكم ذلك عن السنة وهذه السيرة، واحذروا من المحدثات أو البدع. فالحاصل أنه عليه الصلاة والسلام أمرنا باتباعه صلى الله عليه وسلم واتباع أصحابه والتمسك بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين من بعده، وحذَّرنا من البدع والمخالفات، وأهل السنة يعرفون أن البدعة هي المحدثة في الدين فيبتعدون عنها، ويعرفون أن السنة هي طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته فيتمسكون بها ويؤثرونها، ويعرفون هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيسيرون على نهجه، ويتبعون وصيته في خطبته، فقد كان يخطب في كل جمعة بقوله:
هكذا كان عليه الصلاة والسلام يقول. فالهدي معناه: السمت والدل والعمل، فأحسن وأفضل الهدي والأعمال ما عمله النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصدق الحديث وخير الكلام هو كلام الله الذي بلغه رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فأهل السنة لما أنهم قدموا هديه عليه الصلاة والسلام على كل هدي، وقدموا سيرته ونهجه، وتمسكوا بكتاب ربهم، سموا أهل السنة، أي إنهم أهل سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي أوصاهم بها، وسموا كذلك أهل الجماعة؛ لأنهم المجتمعون على الحق، ولو قلوا في بعض الأزمان فلا يضرهم، ولو كثر أعداؤهم ومخالفوهم فلا يضرهم. فالحق حق ولو قل أهله، والباطل باطل ولو كثر أهله، فليس العبرة بكثرة الأتباع ولا بكثرة الناس الذين على طريقه، بل العبرة بنفس تلك الطريقة؛ صحتها أم عدم صحتها. فأنت إذا أردت أن تسبر أحوال الناس، اسبر قبل ذلك أعمالهم، وطبقها على شرع الله المنزل ووحيه المحفوظ، فما وافق هذا الوحي فإنه هو الحق، فاقبله وتقبله ولو قل أهله ، وما خالفه فرده على من قاله.