[ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند النعماء، والرضا بمر القضاء] .
(الشرح)* قوله: (ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند النعماء، والرضا بمر القضاء): هذه الأمور ليست من العقائد، ولكنها من مكارم الأخلاق، ومن محاسن الدين الإسلامي، وإذا تأملها المسلم عرف أن دين الإسلام جاء بكل خلق جميل، ونهى عن كل خلق رذيل؛ لأن هذه الأمور يستحسنها العقل، وتألفها الفطر السليمة، وإنما يخالف فيها من انتكست فطرته، أو من انحرف عن جادة السبيل، وإلا فأهل الجاهلية كانوا يفتخرون بتحقيق هذه الأمور. وهكذا الكفرة في كل مكان، يفتخرون أيضا بالاتصاف بها، ويعدون من اتصف بها من أشرفهم وأرفعهم مقامًا، وليس الذي يدعوهم إليها هو طلب الجزاء في الآخرة، فإنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولا يعترفون بالجزاء فيها، وإنما يتحلون بها؛ لأنها شيم ومكارم يمدح بها ويرضى عن أربابها. وهذه الأمور تسمى الآداب الدينية والخلقية التي جاء بها الإسلام موافقا لما في العقول الذكية من الميل إليها والاستحسان لها. والتوسع في شرح هذه الأمور طويل، وقد ألفت المؤلفات في مكارم الأخلاق ونحوها، فكتاب رياض الصالحين مثلا وضع لبيان جملة من هذه الأخلاق والآداب، وجعل مؤلفه لكل مسألة من هذه المسائل بابًا، وأورد فيه أحاديث، ومثله كتاب: الترغيب والترهيب ، فإنه استوفى الأدلة في هذه الأشياء. كذلك هناك كتب مقصورة على الآداب ككتاب: الآداب للبيهقي وكتاب: الآداب الشرعية لابن مفلح في ثلاثة مجلدات ضخمة تكلم فيه عن كل مكارم الأخلاق. وهناك أيضا كتاب: أدب الدنيا والدين للماوردي فيه ذكر لبعض الآداب، وكذلك تناولها أبو حامد الغزالي في كثير من كتبه أشهرها إحياء علوم الدين حيث بسط المقال فيها بكلام مرتب إلا أنه يستدل كثيرا بالأحاديث الضعيفة والموضوعة ولا ينبه عليها. فالحاصل أن هذه الأخلاق الشرعية لا خصوصية لها بالعقيدة من حيث البحث، إلا أنه- كما هو معلوم- يزيد الإيمان بالتخلق بها وينقص بالتخلي عنها. ولذلك كان أهل السنة يتخلقون بها. أولا: الصبر عند البلاء والصبر في اللغة: هو الحبس والكف، وفي الاصطلاح: هو حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش، ذكر ذلك ابن القيم والصبر واجب وأدلته كثيرة من القرآن والسنة وقد ذكرها غير واحد من العلماء، منهم النووي رحمه الله في كتابه: رياض الصالحين ، وابن القيم رحمه الله في: مدارج السالكين وفي: عدة الصابرين وغيرهما. قال الإمام أحمد رحمه الله: الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعا. قال ابن القيم وهو واجب بإجماع الأمة، وهو نصف الإيمان؛ فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر. ومعنى الصبر على البلاء هو ألا يجزع الإنسان ولا يتسخط على أقدار الله إذا حلت به البلوى، بل يقابل ذلك بالتسليم والانقياد كما قال تعالى:
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 155- 157] فهذا جزاء صبرهم أن جعل الله عليهم صلوات ورحمة ووفقهم للهداية. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد يسلط البلاء على الإنسان ليختبره، فمنهم من يصبر ومنهم من يجزع، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر بنفس الإسناد:
. فهذه أدلة على أن الابتلاء يكون لاختبار الإنسان أيصبر أم يجزع، فقد يبتلى بها الإنسان ويكون ضعيف الإيمان، فلا يتحمل فيجزع ويسخط وربما ارتد وخرج عن الإسلام. فإذا ابتلي بحبس، أو بضرب، أو بمرض، أو بموت أحد من أقاربه، جعل ذلك سببًا للاعتراض على أقدار الله، والتسخط عليها، فينطبق عليه قوله تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت: 10] ؛ إذا أوذي أو حبس أو ضرب سَوَّىَ فتنة الناس بعذاب الله، وخاف من الناس كما يخاف من الله. فمثل هذا ليس من المؤمنين حقا، وليس من الذين يعبدون الله حق عبادته؛ ولذلك فإنه ينطبق عليه قول الله تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ يعني على طرف
فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ [الحج: 11] فالله تعالى يبتلي العباد بالمصائب وبالعاهات ونحوها ليتبين الصادق في دعوى الإيمان من الكاذب، لأنه كما قيل:
فكل الناس يدعي الإيمان والتقوى والعبودية، فتأتي هذه الابتلاءات لتكشف زيف أولئك المدعين. أما أقسام الصبر فهي ثلاثة: الأول: صبر على طاعة الله. والثاني: صبر عن معاصي الله. والثالث: صبر على أقدار الله المؤلمة. ثانيا: الشكر عند النعماء أي عند النعمة، وحقيقته هو الاعتراف بالنعمة لمُسديها ومُوليها والاستعانة بها على مراضيه، واستعمال كل نعمة فيما يقرب إلى الله. وقد يكون الاعتراف هو الأساس والأصل، روي أن موسى صلى الله عليه وسلم قال لربه: يا رب كيف أطيق شكرك وما بي من نعمة فمنك؟ قال: الآن قد شكرتني ؛ وذلك لأنه اعترف بعجزه عن الشكر؛ وذلك لأن كل طاعة تستحق شكرا، ثم الطاعة الثانية التي هي شكر تستحق شكرا، وهكذا. يقول بعضهم:
إذا أعطيت نعمة فقلت: الحمد لله، فتوفيقك لقول: الحمد لله، نعمة يستحق الشكر عليها، فإذا شكرته على ذلك فإن هذا أيضًا يحتاج إلى شكر، وهكذا فإن العبد لا يستطيع أن يقوم بحق الشكر حق القيام، إلا أن المطلوب منه هو الاعتراف بنعم الله تعالى عليه، وأن يحمده على تلك النعم، وأن يستعملها في طاعته ومراضيه، فيستعمل السمع والبصر والعقل واللسان واليدين والرجلين والمال والولد، وكل ما أعطي من جوارح في كل ما هو محبوب لله. وقد تكلم ابن القيم رحمه الله على هذين الأمرين: الصبر والشكر، في كتابه المشهور: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين وبين حقيقة الشكر والصبر وصفة الشاكرين وصفة الصابرين والفرق بينهما، وأيهما أفضل. والحمد أيضا شكر؛ لأنهم يعرفونه بأنه: ذكر محاسن المحمود، مع حبه وتعظيمه وإجلاله هذا تعريف لبعضهم، ويعرفه آخرون بأنه: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم، بسبب كونه منعمًا على الحامد وغيره . ولكن يقولون: إن الرب تعالى يحمد على صفاته، ويحمد على شرعه، ويحمد على قضائه وقدره، ويحمد على النعم والخيرات، ويحمد أيضا على البلاء والامتحان، فلا يحمد على الضراء غيره. هذا هو الحمد، ويكون الحمد باللسان هذا هو الأصل فيه، فيحمد الإنسان ربه بلسانه ويعمل بمقتضى ذلك الحمد. أما الشكر فإنه أعم متعلقا وأخص سببا، فالشكر خاص بالشكر على النعم، فسبب الشكر هو النعم، فتشكر الله على عطائه وعلى هدايته، وعلى إغنائك وعلى إعزازك، وعلى الخير الذي أسداه إليك، فالشكر إنما يكون بسبب واحد وهو الخير الذي وصل إليك. أما الحمد فإن أسبابه كثيرة، فتحمد الله على الخير وتحمده على البلاء، وتحمده على صفاته، وعلى أوامره وآياته. فيحمد الله على أسباب كثيرة. هذا من حيث السبب، أما من حيث المتعلق، فإن الشكر يكون باللسان، ويكون بالجنان، ويكون بالأركان، فالشاكر يشكرالله بلسانه، ويشكره بجوارحه، ويشكره بقلبه. لقول الشاعر:
يعني أن نعماءكم التي وصلت إليَّ أوجبت عليَّ أن أعترف وأشكركم بيدي وبلساني وبقلبي، فالضمير المحجب هو القلب، فصار الشكر أخص سببًا وأعم متعلقا، والحمد بعكسه؛ أعم سببا وأخص متعلقا. والكلام على الحمد والشكر كثير لا يتسع له هذا المقام، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتاب: عدة الصابرين لابن القيم فإن فيه فوائد قد لا يجدها في غيره. ثالثا: الرضا بمر القضاء فالقضاء هو ما يقدره الله على الإنسان من المصائب والعاهات ونحو ذلك، وقد اختلفوا هل يجب علينا الرضا بالمصائب والفقر وما أشبه ذلك، أو لا يجب؟ ومن المعلوم أن الإنسان يحزن ويكره هذه المصيبة إذا أصابته، ويكره المرض والفقر ويكره فقد الأقارب، لكن عليه أن يرضى بذلك، حيث إنه من الله فيقول: رضينا بما أتى من الله، واستسلمنا لأمره ولتصرفه، فالرضا من صفات أهل الإيمان. والرضا إنما يكون بالقضاء لا بالمقضي، والمقضي هو نفس المكروه، كالمرض والفقر والموت وما أشبه ذلك، فنحن نرضى بهذه الأمور من جهة أنها من قضاء الله وقدره، ولكن لا يلزم من ذلك محبتها والتسليم لها من جهة عدم دفعها أو تخفيفها، فلا يجب علينا مثلا أن نكون مسرورين بموت قريب لنا، أو بفقر أصابنا، أو بمرض ألم بنا. فإن هذه الأمور اتفقت الطبائع على كراهتها والنفور منها، بل علينا أن نسعى في تخفيف تلك المصائب إذا نزلت بأحد من إخواننا فنصبره، ونحثه على الاحتساب والرضا بقضاء الله، ونحاول أن ندفع عنه ما ألم به، فإذا أصابه الفقر تصدقنا عليه وأعطيناه حتى ندفع عنه ما أصابه أو نكون سببا في تخفيفه. فالإنسان يفر من قدر الله إلى قدر الله، ويواجه أقدار الله بأقدار الله، ويفر من الشر إلى الخير، فيكون هاربا من قدر الله إلى قدر الله، فيعد لكل ضرر ومكروه ما يدفعه به. فإذا أصابه الجوع سعى في إزالة هذا الجوع ولو كان من الله، وإذا أصابه البرد سعى فيما يزيل عنه هذا البرد باستخدام الأغطية ونحوها، فإنه ولو كانت هذه مصيبة قدرها الله تعالى، ولكنه يسعى في تخفيفها، وكذلك المرض فمع أنه يعرف أن هذا المرض مكتوب عليه، إلا أنه يسعى في إزالته أو تخفيفه حسبما يستطيع، وذلك بالذهاب إلى الأطباء، واستخدام الأدوية المشروعة غير الممنوعة. أما ما قد وقع وانقطع فهذا سبيله الرضا والتسليم، فمثلا إذا حصلت الوفاة، فليس لك إلا أن ترضى وتقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا تقول: يا ليتني فعلت وفعلت، يا ليتني ذهبت بولدي إلى فلان، أو يا ليتني استخدمت هذا الدواء، فلا يجوز هذا الكلام؛ لأنه من السخط على أقدار الله؛ ولأنه أيضا لا يغير من الأمر شيئا كما قال تعالى:
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد: 22، 23] فالشيء الذي فاتكم لا تتأسوا عليه؛ لأنه ليس لكم فيه نصيب، لو كان لكم فيه نصيب لأدركتموه. وعلى ذلك يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم :
أي هذا قدر الله لنا، وما شاء الله فعله، ولا تقل: لو، لو؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان. فالحاصل أنه إذا وقع القضاء وحصل ومضى فلا يتأسف عليه ولا يعترض، بل يرضى ويستسلم، أما قبل وقوعه فإنه يجب عليه أن يعد له عدته ويدفع الشر والمكروه بالأسباب الشرعية التي تدفعه.