[ويدعون إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا . ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك. ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك. وينهون عن الفخر، والخيلاء، والبغي، والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق. ويأمرون بمعالي الأخلاق، وينهون عن سفسافها] .
(الشرح)* قوله: (ويدعون إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم:
): مكارم الأخلاق: هي الخصال التي تحبها النفوس ويُمْتَدَحُ بفعلها، وتسمى معالي الأمور؛ لأنه لا يفعلها إلا أهل الكرم وأصحاب الهمم العالية. وضدها: مساوئ الأخلاق. وقد عقد ابن حجر في آخر بلوغ المرام بعض الأبواب التي فيها ذكر الأخلاق مثل: باب البر والصلة و باب الزهد والورع وباب الترهيب من مساوئ الأخلاق و باب الترغيب في مكارم الأخلاق . وذكر في تلك الأبواب الأحاديث الدالة على محاسن الأخلاق مثل صدق الحديث، والوفاء بالوعد، والكرم، والشجاعة، وحسن المعاملة، والنصح للمسلمين وكذلك محبة الخير لكل مسلم، وذكر أضدادها من مساوئ الأخلاف، كالكذب، والغش، والمخادعة، والخيانة، وخُلف الوعد، وما أشبه ذلك، كخصال المنافق التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
. ومن محاسن الأخلاق: طلاقة الوجه والتبسم عند اللقاء كما قال أحدهم:
وكذلك نفع المسلمين والسعي في حاجات الإخوان، وتفريج الكروب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
. وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:
. وذكر أيضا من الصدقات: أن تعين أخاك على متاعه، فترفع متاعه على راحلته، أو أن تفرغ من دلوك في دلو أخيك. ومن مكارم الأخلاق: الإيثار الذي ذكره الله عن الصحابة في قوله:
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: 9] فهم يؤثرون غيرهم على أنفسهم، فإذا نزل بهم ضيف قروه وأكرموه، حتى إن بعضهم نزل به ضيف مرة وليس عنده إلا عشاءه وعشاء أهله وأطفاله، فقدم هذا العشاء للضيف، وبات هو وأهله طاويين؛ إيثارا للضيف على أنفسهم، فهذا أيضا أشرف مكارم الأخلاق. فالحاصل أن محاسن الأخلاق هي الأخلاق الرفيعة النفيسة التي يمدح المتخلق بها. مسألة: يدعي كثير من السفهاء أن محاسن الأخلاق توجد في الكفار أكثر منها في المسلمين، لكن هذا ليس بصحيح، وما يفعله الكفار من تلك الأخلاق إنما هو لأهداف أخرى وللحصول على مكاسب مادية ومعنوية، ولذلك فإنهم يتخلون عن تلك الصفات إذا لم تكن هناك مكاسب لهم، فمذهبهم هو المذهب النفعي، حتى الأخلاق عندهم يجب أن تؤدي إلى منافع مادية. فإذا كانوا يتقنون بعض الصناعات؟ فإن ذلك بهدف الترويج لهذه الصناعات، وإذا كانوا يصدقون في التعامل وفي البيع والشراء؛ فإن ذلك بهدف جذب الناس إليهم. أما المؤمن فإنه يفعل ذلك طاعة لله أولا ومراقبة له وخوفا من عذابه، فالذي يحمله على ذلك هو مراقبة ربه تعالى وإيثار الآخرة على الدنيا. أما غير المؤمن فإن الذي يحمله على مكارم الأخلاق والآداب أشياء كثيرة، منها: حب المدح والثناء من الناس فهذا يجعله يتقن عمله ويصدق أحيانا في بيعه وشرائه؛ لأنه يعرف أن ذلك دعاية له وشهرة، فإذا بنى بناء مثلا ورآه الناس قالوا: هذا بناء مخلص، هذا بناء عارف، أو هذا مهندس عارف، فيحصل بذلك أن يتسابق الناس إليه فتحصل له مصلحة. إذًا الإسلام حثَّ على هذه الأعمال؛ لأن المؤمن يعرف أن الذي يراقبه فيها هو الله تعالى، فيقوم بواجبه فيها، والعقل حث عليها أيضا؛ لأن فيها مصلحة دنيوية. ومن محاسن الأخلاق: الصلة والعطاء والعفو أما قول المؤلف: ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك هذه أيضا من محاسن الإسلام، وقد ورد حديث بهذا المعنى . ومعنى تصل من قطعك : القطع هو الهجران والحرمان، فإذا قطعك أي هجرك وحرمك زيارته، أو حرمك بره وعطاءه ونفعه، أو أساء إليك، فتسبب في حرمانك من هذه المصلحة أو هذا العمل؛ بغضا لك وانتقاما منك وما أشبه ذلك، فإن من محاسن الإسلام ألا تقابل إساءته بإساءة، بل من الإسلام أن تعفو عنه حتى تجتلب مودته. وقد ذكر الله ذلك في القرآن قال تعالى:
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [المؤمنون: 96] يعني ادفع السيئة بالتي هي أحسن
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت : 34 ، 35]. فإنك متى أحسنت إليه رجع يلوم نفسه ويقول: يفعل معي هذا ويعاملني بالإحسان في مقابل أذيتي له!! فقد كنت أوذيه وهو يحسن إليَّ، كنت أحرمه وهو يطعمني ويعطيني، أنا الذي قد أخطأت، فيرجع ويلوم نفسه، وتعود إليك مودته وإخاؤه،
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . فقد أحسنت إليه بدلا من الإساءة إليه فأنت تمدحه وقد هجاك، وتدعو له بدلا من أن تدعو عليه، وتثني عليه في غيبته بدلا من أن تغتابه وتذمه، فهذا بلا شك سيكون سببا في عودة محبته وإخائه لك، وسيعود على نفسه بالملامة وسيندم على ما كان منه تجاهك. فهذا يبين فضيلة العفو عمن ظلمك، وكذلك تعطي من حرمك وتصل من قطعك، هذه الخصال كلها من مكارم الأخلاق فهي تبين منهج الإسلام في التعامل مع الناس، ولكن مع ذلك يجوز للإنسان أن ينتقم ويقتص من ظالمه بقدر حقه بدون زيادة، ودليل ذلك قوله تعالى:
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [ النحل: 126] وكذلك قوله تعالى:
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] وهذا إنما هو لمن يريد العدل، فإذا ضربك بعصا مرة فلا تضربه مرتين، ولا تضربه بحديدة، ولا تضربه بعصا أغلظ من عصاه، ولكن لك أن تقتص منه بقدر مظلمتك. وإذا شتمك مرة فلا تشتمه مرتين، إنما تقتص منه وتأخذ منه الحق، ولكن العفو خير، كما قال تعالى:
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى: 40]. وقال سبحانه:
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 43]. وذكر الله أن من خصال المؤمنين العفو. كما في قوله تعالى:
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران: 134] ؛ فالكاظم هو الذي لم يظهر غيظه، ويقابل السيئة بالعفو ويقول: قد عفوت عنك، فهذه من خصال أهل الإيمان؛ أنهم يعطون من حرمهم، ويصلون من قطعهم، ويعفون عمن ظلمهم. أما الكافر فإنه لا يستحق أن يعفى عنه، إلا إذا كان ذلك العفو سببا لاهتدائه وإيمانه وترغيبه في الإسلام ودعوته إليه، أما إذا عرف منه الإصرار على الكفر والمعصية، فلا يعفى عنه؛ لأن العفو عنه يكون من باب التعاون على الإثم والعدوان، فهذا ينبغي أن يؤخذ بذنبه وأن يعاقب على جرمه، ولا يعامل معاملة المسلمين؛ لأنه لا يستحق العفو والرحمة. وكذلك المسلم إذا كان شرِّيرًا فاسقا مؤذيا لعباد الله منتهكا لمحارم الله، فإن الأخذ على يديه وإيقاع العقوبة به أولى من العفو عنه، ليكون عبرة لغيره ولينكف شره عن عباد الله، وقد تكون العقوبة زاجرًا له عن طريق الشر الذي يسير فيه، فيعتبر ويعود إلى رشده وصوابه. أما إذا كان العفو عن الكافر سببا لتأمله، وتعقله محاسن الشريعة الإسلامية، فيمكن العفو عنه لهذا الغرض، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعفو عن كثير من المشركين الذين يؤذونه، ولكن عفوه كان سببا لاهتدائهم وإسلامهم. والحاصل أنه قد يكون قوله: تصل من قطعك في غير الرحم؛ لأنه معلوم أن على الإنسان أن يصل رحمه، يعني أقاربه الذين له بهم صلة قرابة من جهة الأبوين، أو الأجداد ونحوهم، فإن هؤلاء لهم حق الرحم، فقد يكون بعضهم قاطعًا فمن حقه أن تصله، فإذا قطعك فصله، لتكون صلتك له سببا في رجوعه عن تلك القطيعة، وقد أمر الله بصلة الأرحام ولو كانوا كفارا، ولكن لا يجوز للمسلم محبة الكفار ولا موالاتهم أيًّا كانوا، فالصلة شيء، والمحبة والموالاة شيء آخر. ومن مكارم الأخلاق: حسن الجوار وقد كثرت الأحاديث في الحث على حق الجار، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم:
. أي يجعله وارثا. وقد ثبت قوله صلى الله عليه وسلم:
؛ بوائقه يعني غوائله وشروره، يعني لا ينفعه الإيمان إذا خاف جاره أن يغتاله أو يسرقه أو يخونه في أهله وولده ونحو ذلك، فليس هذا بمؤمن. ولما كان الجار هو الإنسان الذي يلاصق الإنسان في السكن أو يقرب منه، فإن عليك له حقا بمصافاته ومصادقته، والإحسان إليه وإطعامه مما تطعم إذا كان محتاجا، وعدم إيصال أي ضرر إليه، فلا تؤذه بدخان قدرك، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم:
. وهذا دليل على عظم حق الجار، وقد ذكره الله من جملة أهل الحقوق وجعل الجار قسمين بقوله تعالى:
وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ [النساء: 36] الجار ذو القربى الذي له حقان: حق الجوار وحق القرابة، والجار الجنب هو الأجنبي، وله حق الجوار، ولهما أيضا حق آخر وهو حق الإسلام. ومن مكارم الأخلاق: الإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل والرفق بالمملوك هذه أيضا من خصال الإسلام؟ ؛ وذلك لأن هؤلاء من ضعاف خلق الله، والمسلم يكون إلى جانب الضعيف، فاليتيم: هو الذي فقد أباه في الصغر، وحقه كبير. وقد نهى الله تعالى عن الاعتداء على حقوقهم، وجعل أكل مالهم بالباطل ذنبا كبيرا، قال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: 10]. وقال:
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام: 152]. وأما المساكين فالمراد بهم: ضعاف خلق الله؛ فهو المسلم الضعيف المسكين الذي لا يستطع أن يخلص حقه، ويدخل في هذا أيضا الفقراء والمعوزون فهؤلاء حقهم على المسلمين أن يحسنوا إليهم وأن يتصدقوا عليهم، وأن يساعدوهم على أمورهم التي قد يعجزون عنها، وأن يواسوهم بقدر ما يستطيعون، ولهم حق في أموال المسلمين، وهو الحق المعلوم، كالزكاة والكفارات ونحوها. وابن السبيل: هو المسافر المنقطع به، الذي جاء من بلاد بعيدة ليقصد بلدا، ولكنه نفد زاده وانقطع، وإن كان في بلده ذا ثروة ومال، ولكنه لا يستطيع الوصول إليه، فقد أصبح غريبا في هذه البلدة وأصبح ابن سبيل، سُمِّيَ ابن سبيل؛ لأنه على طريق، والسبيل هي الطريق، وابنها أي ملازم لها، وقد جعل الله له حقا على المسلمين. وكذلك قوله: الرفق بالمملوك ويدخل أيضا فيه الرفق بالمستخدم ونحوه؛ وذلك لأن المملوك والمستخدم ذليل بين يدي المخدوم، فمن حقه أن يرفق به ولا يكلف بما فيه مشقة عليه. ومن مكارم الأخلاق: بعدهم عن الفخر والخيلاء والبغي وغير ذلك. وأما قوله: وينهون عن الفخر والخيلاء والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق فهذه داخلة في مساوئ الأخلاق. والفخر معناه الاعتزاز بفعل الآباء والأجداد والافتخار بالأسلاف ونحوهم، وهذه من خصال الجاهلية التي حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:
. فالفخر بالأحساب هو تعداد مآثر ومحاسن الآباء والأسلاف، كقول بعضهم: أنا ابن الذين فعلوا كذا وكذا، آبائي خير من آبائك، آبائي هم الذين فتحوا، وهم الذين انتصروا، وهم الشجعان، وهم الكرماء، وهم وهم. فأنت ماذا ينفعك من فعل هؤلاء؟ لا ينفعك إلا عملك.
فأنت لست مثلهم، وما نفعك شرفهم ولا فضلهم، وما قلدتهم في أفعالهم، بل إنك تقلد المتخنثين من الكفار والمشركين حتى أصبحت خلفًا سيئا. ومن المعروف أن شرف الآباء يستدعي من الأبناء أن يحرصوا عليه، والشرف الذي يستحق أن يفتخر به ويمدح عليه هو الشرف بالعلم والدين، فإذا كان آباؤك أهل علم وديانة، فإن لهم شرفًا، ولكن ينبغي أن يحملك هذا على أن تسير على ضوئهم، وأن تفعل مثل أفعالهم، وتكون ممتثلا طريقتهم في الدين والأخلاق، ولا تتبدل بذلك أفعالا سيئة. فالحاصل: أن الفخر بالأحساب والأنساب والقبائل وغير ذلك من الأمور التي تزرع البغضاء في القلوب والقبائل، وقد نهى الإسلام عن ذلك أشد النهي فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
وأما الخيلاء: فهو الإعجاب بالنفس، من التخايل الذي هو الترائي أمام الناس بصفة جاذبة للأعين، كتمايلٍ في مشية على وجه التكبر، ولبس يلفت الأنظار، أو المغالاة في اللباس والافتخار به على وجه الكبر، أو جر الثياب على وجه الخيلاء، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
فهو بتخايله أمام الناس كأنه يظهر نفسه أعلى من غيره وأعظم شأنًا من الآخرين حتى يعظموه ويمدحوه ويعجبوا به، ولا شك أن الإنسان عليه أن يتواضع وأن يحتقر أعماله، ولا يفتخر، ولا يتخايل، ولا يتكبر، فالخيلاء من الكبر الذي قد ذمَّه النبي صلي الله عليه وسلم في قوله:
ثم فسر الكبر بأنه:
يعني احتقار الناس وصدّ الحق ورده وعدم تقبله. والاستطالة: معناها الجرأة على الناس والتسلط عليهم، كتسلط القوي على المستضعفين، والتجبر وإظهار الجبروت، فإذا كنت ذا منصب ومركز، أو لك رئاسة أو إمارة أو ولاية عامة أو خاصة، فلا تسلط قوتك على المستضعفين، تذلهم وتؤخرهم وتقدم غيرهم مثلا. وكذلك أيضا لا تسلط قوتك على الذين تبغضهم بغضا دنيويا.؛ فلا تقل: هذا الشخص كنت أكرهه سابقا، والآن صار في ولايتي وتحت تصرفي، فتسلبه ماله دون حق، وتأمر بجلده على أتفه الأسباب، أو تودعه السجون وتتناساه، فتأخذ بالشبهات وتتهم بالباطل، وتحبس بالظن، فتكون بذلك قد استعملت سلطتك في غير موضعها، وظلمت الناس وأخذتهم بغير حق. فالاستطالة منهي عنها حتى ولو كانت بحق؛ لأن الاستطالة تعني التعدي والعسف في معاملة الخلق والتكبر عليهم، فلو كانت لك ولاية وسلطة وسيطرة فلا تجعلها على شخص دون شخص وتنتصر لنفسك، بل اجعل الناس عندك سواسية في الحق، وكن لهم كالأب الرحيم والأخ الشفوق، لا فرق بين كبير وصغير وقريب وبعيد. فالذي له ولاية، عليه أن يسوي بين ولده الذي من صلبه وبين أبعد الناس عنه، فإذا كان هناك حق على ولده أخذه منه بالقوة والقهر، فلو استحق ولده قتلا قُتِلَ، وإذا استحق حبسا حُبس، هذا هو الوالي العامل الذي يخشى الله ويتقيه ويخاف مقامه، فأما إذا جعل ولايته وسيلة إلى الظلم، وإلى الانتصار للنفس، فإنه - والحالة هذه - لا يكون عادلا بل يكون جائرًا وظالمًا. والحاصل: أن من خصال أهل السنة: التواضع وترك التكبر، ومن خصالهم: البعد عن الخيلاء والافتخار والاعتزاز بالنفس، والبعد عن الاستطالة على الناس وظلمهم وتسليط القوة عليهم بحق وبغير حق. ومن خصال أهل السنة: أنهم يأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفسافها: معالي الأخلاق: هي الشِّيَم الرفيعة؟ وذلك أن الإسلام جاء بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وجاء بما فيه رفع للنفس، ونهي عن إذلالها، ففي الحديث:
وذلك بأن يدخل مداخل السوء، ومداخل الظن السيئ، بل يعمل بكل ما أمر الله به وأمر به الشرع، ويبتعد عن كل ما نهى الله عنه. ومعلوم أن هناك أخلاقا شريفة يعرف الإنسان شرفها بعقله، وأخلاقا دنيئة يعرف دناءتها بعقله، تسقط الهيبة وتسلط على الإنسان سفهاء الخلق وأراذلهم، فالمسلم يبتعد عن السفه، وعن مجالسة السفهاء، وعن كل ما يجر إلى السفه. فمن ذلك كثرة المزاح وكثرة القهقهة والضحك في الأسواق ونحو ذلك، فإنها مما يُجَرِّئ السفهاء على الإنسان، وهكذا ظهور الإنسان بالمظاهر المزرية؛ كأن يمشي في الأسواق حاسر الرأس ولم يكن هذا من عادة أهل البلد، أو كأن يمشي وهو مكشوف العورة أو بعضها، أو يمشي وهو يقلب نظره في متابعة النساء، أو يتكلم بكلام قبيح أو ما أشبه ذلك. فكل هذا من صفات الدناءة التي يقبح بالإنسان أن يكون متصفًا بها، وذلك لأنها تسقط هيبته. وقد ذكر العلماء خصالا أسقطوا شهادة من اتصف بها، ومن ذلك : الأكل في الأسواق؛ فالإنسان الذي له هيبة وله منزلة وشرف، يترفع أن يأكل في السوق والناس ينظرون إليه إلا شيئًا يسيرًا لا يظهر، ولا يكون ذلك عادة له، فإذا اتخذ ذلك عادة له، بحيث يأكل في السوق أو الطريق دائما، أو يتكلم بالفسق والفواحش فلا تقبل شهادة من هذا حاله. فالحاصل أن مساوئ الأخلاق وسفسافها وأراذلها إنما يفعلها ضعاف العقول وسفهاء الناس، أما أهل العقول الزكية فإنهم يبتعدون عنها، فلا يكثرون من المزاح والضحك، ولا يظهرون بأي مظهر يجلب عليهم السخرية والازدراء، ولا يتعاملون مع الخلق بالعنف والشدة، بل يتعاملون معهم بالرفق واللين والبر ومكارم الأخلاق. فكل هذا مما حث عليه الإسلام، ودعا إليه، فالإسلام جاء بمعالي الأخلاق وترك سفسافها، وأمر بالصفات الشريفة التي يحبذها العقل ويحث على التخلق بها، ونهى عن أضدادها مما لا يفعله إلا السفهاء وأراذل الخلق.