وقوله : ( ومن صفات الله - تعالى - أنه الفعّال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره ، ولا محيد لأحد عن القدر المقدور، ولا يُتجاوز ما خط في اللوح المسطور، أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يُطيعوه جميعا لأطاعوه ، خلق الخلق وأفعالهم، وقدَّر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويُضل من يشاء بحكمته. )
شرح: ( أراد ما العالم فاعلوه ) يعني: جميع ما في الكون وما يحصل من الكائنات، فإنه مراد لله تعالى، ولكن هذه الإرادة تسمى إرادة كونية قدرية؛ لأنها يدخل فيها جميع الكائنات - فهي مرادة لله، فجميع الأفعال التي تحصل والتي تحدث كلها مرادة لله؛ الطاعات، والمعاصي، والمصائب، والحوادث، والأرزاق، والآجال كلها مرادة لله تعالى ، داخلة في إرادته ، ولا تخرج عن كونها مرادة لله، فطاعات العباد مرادة، ومعاصيهم مرادة ، ولكن إرادة المعاصي الموجودة إرادة كونية قدرية. وبهذا نعرف أن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية، وإرادة شرعية , فالإرادة الكونية يلزم وقوع مرادها، فكل ما أراده الله كونًا وقدرًا فإنه لا بد حاصل وواقع ، فالمعاصي الموجودة قد أرادها الله كونًا وقدرًا، والمصائب الحاصلة قد أرادها الله كونًا وقدرًا، والأرزاق الموجودة - ولو كانت حرامًا - قد أرادها الله كونًا وقدرًا، وكذلك الأولاد ذكورًا وإناثًا، والأرزاق والمكاسب والحرف، والصناعات، والدراسات والعلوم، وكل ما يجري في هذا الكون كله قد أراده الله كونًا وقدرًا؛ لأنه فعال لما يريد، فلا يكون في الوجود إلا ما يريد. ولو عصمهم لما عصوه ولما خالفوه، فهو الذي يهدي من يشاء فضلا منه ورحمة، ويضل من يشاء عدلا منه وحكمة، فمن علم الله فيه خيرًا وعلم من قلبه إقبالاً وتقبلا للخير هداه الله وأنار قلبه ، ومن علم الله أنه شريرٌ وعلم أنه من أهل الشر، وأنه لا خير فيه حَرمَه الهداية، وحال بينه وبين الإيمان وقسّى قلبه وصده عن الخير
وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ( الكهف:49 ) . فمن هداه الله فهو فضل منه ، ومن أضله فهو عدل منه، ولا أحد يقدر أن يغير ما وقع؛ لقوله تعالى:
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ ( الزمر:36-37 ) وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث خطبة الحاجة:
فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء. ولكنه - سبحانه - خلق الخلق ، وقسمهم إلى أهل طاعة ، وأهل معصية ، وعلم أهل الخير من أهل الشر، وعلم من يكون قابلا للخير أهلا له ، ومن يكون قابلا للشر أهلا له، فجعل هؤلاء أشقياء وهؤلاء سعداء، ولله الحجة البالغة يقول الله تعالى:
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ( الأنعام:149 )
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ( الشعراء:4 ) ؛ يعني: لو شاء الله لأنزل عليهم آية فاهتدوا بها كلهم، ولكن علم الله من هو أهل للهداية ومن هو أهل للشقاوة يقول الله تعالى
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا ( الأنعام:125 ) . فإذا هدى الله - تعالى - هؤلاء، فلا بد أن نعتقد أن ذلك فضل منه ، وإذا أضل هؤلاء فذلك عدل منه ، وأنه لو شاء لهدى الناس كلهم، فلا محيد لأحد عن القضاء الذي قضاه، ولا مخرج له عما حتمه عليه. وفي حديث القدر يقول صلى الله عليه وسلم:
أي أن ما تكره من الأمور المقدرة فإنها عن حكمة حصلت، وأن الذي قدرها حكيم يفعل ما يشاء قضاءً وقدرًا، وحكمة وشرعًا، لا محيد لأحد عن القضاء المحتوم الذي قدره. وهذا كله لا ينافي العمل ولا ينافي فعل الأسباب، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أخبر صحابته بأنه:
فأمر بأن يعمل ، وأخبر بأن الإنسان يصير إلى ما قدره الله، فلا بد وأن يسير إليه فمن كتبه الله سعيدًا فلا بد أن يعمل بعمل أهل السعادة ولو في آخر لحظة في حياته، وكذلك من كتبه شقيًّا. ففي حديث القدر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
. فالأعمال بالخواتيم ، والله - تعالى - يوفق كل إنسان بأن يختم له من العمل بما هو أهله وما كتبه له ؛ ولهذا كان كثير من السلف ومن العلماء يكثرون من الدعاء بحسن الخاتمة ؛ لأن الأعمال بخواتيمها.