التواتر لغة: التتابع، وهو مجيء الواحد بعد الآخر، ومنه قوله تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى وهو مأخوذ من الوتر، وهو الفرد حيث أن كل واحد يجيء بعد الآخر منفردا . وفي الاصطلاح: المتواتر : ما رواه عدد كثير تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، عن مثلهم إلى منتهاه وكان مستند انتهائهم الحس وهذا القسم من الحديث يفيد العلم الضروري عند جمهور الأمة، وإنما خالف في ذلك قوم من عباد الأصنام بالهند يقال لهم السمنية، وهم الذين ينكرون من العلوم ما سوى الحسيات ولما كان خلافهم تشكيكا في ضروري لم تلزم مناقشتهم. وشروط المتواتر المتفق عليها أربعة تستخرج من التعريف: 1- كثرةالعدد، بحيث تحيل العادة والعقل تواطؤهم على الكذب. 2- استمرار تلك الكثرة في جميع طبقات السند. 3- إخبارهم عن علم لا عن ظن. 4- كون مستندهم الحس لا العقل. وقد احترزوا بالشرطين الآخرين عما إذا كان إخبارهم عن ظن وتخمين، أو مستند انتهائهم العقل فإن ذلك لا يولد العلم بصحة ما أخبروا به، فلا يصدق عليه حد التواتر، فإن الخلق الكثير لو أخبرونا عن حدوث العالم أو قدمه لم يحصل لنا العلم بذلك، حيث إنهم لم يستندوا في ذلك إلى مشاهدته أو الإحساس به، وإنما اعتمدوا على ما أدَّى إليه تفكيرهم، أو استحسنوه بعقولهم، ولذلك لم يحصل لنا العلم بما تقوله الفلاسفة مع كثرتهم من قدم العالم، حيث إن مستندهم في ذلك النظر والاستدلال ، أو الشُّبَه والتوهمات. وهم كذلك لم يقع لهم العلم بما يخبرهم به المسلمون مع كثرتهم من حدوث العالم، وإذا فلا بد أن يكون المنقول بالتواتر عند انتهائه مما يدرك بالحواس الخمس كالمشاهدة والسماع، واللمس، ونحوها . وهكذا لا بد أن يخبروا عن علم ويقين، فإن أهل العراق مثلا لو أخبرونا أنهم رأوا رجلا ظنوه خالدا أو رأوا طائرا حسبوه صقرا لم يحصل لنا العلم بأنه كما ظنوه. ثم إنه لا يلزم من ذلك تصديق النصارى في أن اليهود قتلوا المسيح وصلبوه، لأن مرجع النصارى إلى خبر اليهود الذين دخلوا عليه البيت، وهم عدد قليل لا يبعد تواطؤهم على الكذب، ولأنهم لم يكونوا على علم بمن قتلوه، ولذلك كذبهم الله بقوله تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ولأن المسيح عليه السلام يجري على يديه من الآيات وخوارق العادات التي هي من معجزاته ما لا يُستبعد معه قلب الحقائق في ما يبدو للناظر، وإن كان محسوسا . ثم مما يلزم أيضا في رواة المتواتر أن يخبروا طائعين عن جد وقصد، فلا يوثق بخبر عدد كثير أخبروا على طريق المزح أو الإكراه ونحوه. تحديد العدد في الرواة للمتواتر تقدم أن من شروط المتواتر أن ينقله عدد كثير، وقد اضطربت الأقوال في تقدير العدد الذي يحصل معه العلم اليقيني بالخبر، والأرجح عدم اعتبار عدد معين، لما يشاهد من اختلاف الأحوال والأشخاص الذي يؤثر في حصول العلم أو عدمه، فإن الرواة قد يكونون من أجلاء الأئمة الثقات، وعدول نقلة الأخبار المشهورين، فيحصل اليقين بما أخبروا به وإن قل عددهم، وقد تحتف بخبرهم قرائن ظاهرة فتزداد الثقة بصدقهم أو ضد ذلك، وأنت خبير بتفاوت الناس في الفهم والإدراك، فكم من عدد قليل يحصل العلم بخبرهم، لما اقترن به من عدالتهم ودينهم، واطمئنان النفس إلى ما نقلوه، ولما اشتهر من علمهم وتثبتهم، مع أن مثلهم أو أكثر منهم لا يحصل العلم بخبرهم، لفقد تلك الصفات التي اقترنت بخبر الأولين، وهكذا يتفاوت السامعون في الفهم والإدراك، ومعرفة القرائن وصفات الناقلين، فيسبب ذلك حصول العلم لبعض السامعين دون بعض. وبهذا ونحوه يرد على من جعل العدد المفيد للعلم في واقعة مطرد الإفادة في كل واقعة، وقد يسلم هذا أحيانا إذا انتفت القرائن، واتفقت صفات الناقلين والسامعين، ولكن ذلك غير مطرد. ثم مع انتفاء القرائن لا يتقدر الرواة الذين يحصل العلم بخبرهم بقدر مخصوص، وقد اشترط القاضي أبو يعلى تبعا لأبي الطيب الطبري أن يزيدوا على الأربعة ؛ لأن الأربعة بينة شرعية لا يحصل العلم بخبرهم للحاكم، حيث يتوقف الحكم على تزكيتهم. وهذا غير صحيح، لأن البينة الشرعية فيها نوع تعبد، ولهذا لو شهد عند الحاكم عشرة أو أكثر لم يكن له الحكم إلا بعد تعديل العدد المشترط منهم، ولو علم الحاكم أن هذا الشخص قد زنى أو سرق لم يكن له أن يقيم عليه الحد إلا بشهادة الثقات، ذلك أن الحاكم إنما يقضي بأمر منضبط لا يختلف. ثم إن من الأصوليين من قدر عدد الرواة للمتواتر فقيل: خمسة وقيل: عشرة، وقيل: إثنا عشر، وقيل: عشرون، وقيل أربعون، وقيل: سبعون، وقيل: عدد أهل بدر وقيل: كأهل بيعة الرضوان، إلى غير ذلك من الأقوال التي ليس لها مستند صحيح، وقد استدل كل لقوله بذكر ذلك العدد في نص آية أو حديث حصل العلم بهم في ذلك الأمر ولكن تلك النصوص لم تتعرض لحصر حصول العلم بذلك العدد، ونفيه عن ما دونه مما هو محل النزاع.