بعد ذلك كيفية التعلم والآداب التي يحصل بها على العلم قد يقول قائل إن التعلم خاص بالصغار وأن الإنسان إذا أسنَّ فاته سِنُّ التعلم، وأنا قد كبرت، وقد طعنت في السن، فكيف أحصل على العلم؟.
فنقول: إن الإنسان يتعلم ولو بلغ الستين أو السبعين؛ فإن باب العلم مفتوح، ووسائله مهيأة، وليس هناك عوائق، ونعرف أن كثيرا من الصحابة أسلموا وهم كبار السن، منهم ابن الستين وابن السبعين سنة، ومع ذلك تعلموا، وكذلك التابعون الذين دخلوا في الإسلام وقد أسنّوا، تعلموا وأصبحوا حفظة وعلماء ورواة، لا شك أن هذا ليس عذرا أن يكون الإنسان قد تجاوز السن الذي يتعلم فيه فيترك التعلم.
فللعلم آداب، نذكر بعض تلك الآداب التي تكون وسيلة لذلك:
أولا: إحضار القلب عند التعلم، فإن الكثير الذين يحضرون مجالس العلم والقلب غافل يجول في الشهوات، أو كذلك يحضرون خُطَب الجمع وأحدهم ناعس أو يوسوس في أمور بعيدة، فإنه لا يستفيد من الخُطَب، ولا يستفيد من التعلم ولا من الحلقات العلمية، فلا يكون بذلك مستفيدا، فلا بد أن تُحضر قلبَك ولُبَّك.
ثانيا: الحرص، فلا بد أن يكون طالب العلم حريصا على التعلم، فإن الذي يقول: إن وجدت وسيلة تعلمت وإلا فلست بحاجة إلى العلم، ولست مُكلفا نفسي، ليس هذا وصف طالب العلم، لا بد أن يحرص على التعلم، ويكون في قلبه همة واندفاع إلى التعلم.
ثالثا: تفريغ وقت لطلب العلم، فإن الكثير الذين جعلوا أوقاتهم في مجالس عادية، زيارات ومجالسات مع أصدقاء أو مع زملاء أو مع أهل أو نحو ذلك، يفوتهم التعلم.
كذلك أيضا إذا جعلوا أوقاتَهم كلَّها في طلب الدنيا، في حرفة في تجارة في مصنع، وكذلك إذا جعلوا أوقاتهم في أسفار لنزهة أو زيارة عادية أو أسفار لا أهمية لها، لا شك أنه يضيع عليهم الأوقات، فلا بد أن يخصص طالب العلم وقتا، كما إذا خصص كل يوم ساعة أو ساعتين، فإنه مع المواصلة يحصل على علم، بخلاف من شغل وقته بالقيل والقال، أو شغله بالزيارات، أو شغله بالخرافات، أو بالسماعات، أو بالعكوف على الملاهي، أو ما أشبه ذلك، فإنه قَلَّ أن يستفيد.
وكثيرٌ قد تعلموا علما، ثم انشغلوا عن العلم به وانشغلوا عن ترداده؛ فكان ذلك سببا لنسيانه ولغفلتهم عنه.
ومعلومٌ أن الإنسان في هذه الدنيا لا بد أن يكون له رزق يقتات به، فإذا يَسَّر الله -تعالى- له من القوت ما يكتفي به فعليه أن يجعل بقية الوقت في طلب العلم، وإذا ضاقت به الحال فإنه مُرخَّص له أن يطلب الرزق، وأن يبتغي من فضل الله، لقوله -تعالى- فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ولقوله: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يبتغون الرزق، فإذا يَسَّر الله للإنسان رزقا هنيئا حلالا يتقوت به، ويقوت به من تحت يده ومن يعول، فإن عليه أن يجعل وقته أو بقية وقته للاستفادة ولطلب العلم.
رابعا: الصبر والتحمل، فإنه قد يلقى مشقة، لكن عليه أن يتحمل، فإذا عرض له من يعوقه قطع تلك العوائق، وإذا نازعته نفسه وشعر بالملل والتعب والسآمة، عصى تلك الدوافع فإن النفس قد تميل إلى الراحة، وقد تميل إلى النوم وإلى الكسل وإلى الخمول، ولكن إذا عزم الإنسان ودفع نفسه، فإنها تطاوعه.
ومـا النفس إلا حيث يجعلـهـا الفتى
|
فــإن أُطمــعتْ تـاقت وإلا تسـلَّتِ
|
والنفس كـالطفل إن تهملـه شب على
|
حــب الرضـاع وإن تفطمه ينفطـم
|
فهكذا النفس إذا أطيعت فإنها تندفع إلى الشهوة، وإلى اللذة، وإلى النوم، وإلى الراحة، نجد أن كثيرا أضاعوا أوقاتهم، فإذا دخلت إلى الحدائق وجدتها مليئة وإذا دخلت إلى المقاهي وجدتها مليئة، وليس لهم حاجة إلا مجرد التسلي والترفيه، بزعمهم يرفهون عن أنفسهم، فإذا تركت النفس على ما هي عليه اندفعت إلى ذلك اللهو، وإذا فطمت وترك ما تميل إليه انتفع الإنسان بالوقت ولم يضع عليه وقته.
خامسا: الاستمرار وعدم الانقطاع، فهكذا طالب العلم لا ينقطع عن التعلم ولا عن العلم في وقت من الأوقات، بل يستمر عليه إلى الممات، يقول بعض السلف: اطلب العلم من المهد إلى اللحد، أي منذ أن تكون صغيرا إلى الموت، وكان كثير من السلف يطلبون العلم ويكتبونه، فيدخل أحدهم إلي الأسواق ومعه المحبرة (الدواة التي فيها الحبر)، وسِنُّهُ كبير، فيقال: لا تزال تحمل المحبرة؟ فيقول: من المحبرة إلى المقبرة، أي لا نزال نواصل العلم.
ونسمع عن كثير من طلبة العلم أنهم يواصلون طلب العلم ليلا ونهارا ولا يملون ولا يتكاسلون، ويذكر أن أحد مشايخ مشايخنا كان طوال ليله وهو يقرأ للتحفظ أو يكتب العلم، فيجيئه بعض المحسنين بعَشاء بعد صلاة العِشاء، ويوضع إلى جنبه ولا يتفرغ لأكله إلا بعد الأذان الأول في آخر الليل، ويجعله سحوره، يجعل عشاءه سحورا انشغالا بطلب العلم، انشغالا بالقراءة والكتابة وما أشبه ذلك.
ونسمع عن الأولين أن أحدهم يسافر مسيرة شهر وشهرين في طلب حديث أو أحاديث، ويغيب عن أهله سنة أو سنتين أو سنوات، كل ذلك لطلب العلم ولا يملون، ولا يقولون أضعنا أهلنا، أو هجرنا بلادنا؛ لأن الدافع قوي وهو تحصيل العلم النافع، فهكذا يكون طالب العلم.
سادسا: التكرار، أي تكرار ما علمه؛ وذلك لأنه إذا تعلَّم فائدة ثم تغافل عنها ذهبت من ذاكرته ونسيها بسرعة، وأما إذا تذكرها مرة بعد مرة، قرأ الحديث وبعد حفظه راجعه بعد شهر وبعد أشهر، حتى يرسخ ويثبت في ذاكرته؛ فإنه يكون من حملة العلم وحفظته.
لذلك كان السلف يوصون بمذاكرة العلم، ويقول بعضهم: مذاكرة ليلة أحب إلي من إحيائها. يعني كوني أجلس في هذه الليلة أتذكر العلم وأتذكر ما حفظته أحب إلي من أن أقومها قراءة وتهجدا وصلاة وركوعا وسجودا؛ وذلك لأن هذا نفعٌ متعدٍ، الذي هو مذاكرة العلم.
سابعا: كتابة ما استفاده، كلما استفاد فائدة أثبتها معه في دفتر أو ورقة وكررها إلى أن يحفظها، يقول العلماء: إن ما حُفظ فَرَّ وما كُتب قرَّ، ما كتبته تجده فيما بعد، ويشبهون العلم بالصيد، فيقول بعضهم:
العِلـم صيـدٌ والكتابــة قيــدُه
|
قيِّـد صيـودك بالحبـال الواثقة
|
فمن الحماقـة أن تصيـد غزالـة
|
وتتركها بيـن الخـلائق طالقـة
|
إذا صاد الإنسان غزالة ثم أطلقها فإنها تهرب، بخلاف ما إذا قيدها بحبل وثيق، فهكذا الكتابة تثبت هذه العلوم بحيث أن تجدها فيما بعد وتحصل عليها، ثم يَسَّر الله أيضا في هذه الأزمنة التسجيلات التي تحفظ الكلام الذي أنت تريد حفظه لتراجعه فيما بعد، وتستفيد منه بعد يوم أو بعد أيام أو ما أشبه ذلك.
ثامنا: التواضع، لا سيما في مجالس العلماء، وذلك أن العالم هو الذي يتواضع لمن يعلمه، وقد ورد في الأثر: لا يتعلم العلم مستحيٍ ولا مستكبر فالذي يتكبر ولا يتواضع لمن هو أصغر منه لا يوفق للعلم، كما إذا رأى عالما أصغر منه سنا يقول: كيف أتعلم من هذا الطفل، أو من هذا الصغير الذي أنا أكبر منه؟.
نقول: إن الله -تعالى- شرفه وفضله بالعلم؛ فعليك أن تصغر نفسك وتتواضع وتأخذ العلم ممن هو معه، ولو كنت أشرف وأغنى وأكبر وأرقى، فإن العلم يؤخذ من منابعه ومن أهله.
تاسعا: الجرأة وعدم الاستحياء، يعني أنك إذا صرت تستحي من أن تسأل بقيت على جهلك؛ ولذلك قال بعض السلف: لا يتعلم العلم مستحيٍ ولا مستكبر، يحمله تكبره على أن يعجب بنفسه ويبقى على جهله، وكذلك أيضا يحمله استحياؤه عن أن لا يطلب العلم أو يستفيد ممن معه علم فيبقى على جهله.
نقول: إن الإنسان إذا تأدب بهذه الآداب الشرعية، فإن الله -تعالى- يوفقه ويفتح عليه ويرزقه العلم النافع والعمل الصالح، ونذكر الخصال الستة التي أشرنا إليها حيث نظمها بعضهم:
أخـي لن تنال العلم إلا بستـةٍ
|
سـأنبيك عـن تفصيلهـا ببيـانِ
|
ذكـاءٍ وحرصٍ واجتهادٍ وبلغةٍ
|
وصحبــةِ أسـتاذٍ وطـولِ زمانِ
|
هذه هي الوسائل التي يمكن أن ينال طالبُ العلمِ العلمَ بها، ولا شك أن العلم موهبة وفضل من الله -تعالى- فإن الكثير من العلماء المشاهير لهم أولاد انحرفوا عن العلم وصاروا دنيويين، وكثير من الجهلة يَسَّر الله لأولادهم فتعلموا وصاروا قادة وسادة، فهو فضل من الله -تعالى- متى كان عند الإنسان نية صادقة، وأحب مواصلة التعلم يسر الله -تعالى- له العلم.
نكتفي بهذا، نسأل الله أن يرزقنا علما نافعا، وعملا صالحا متقبلا، وأن ينفعنا بما علمنا ويعلمنا ما ينفعنا، ويجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنه على كل شيء قدير وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.