قام أحدهم بكتابة كتابٍ سماه (خلف خطى محمّد، بحث تاريخيّ)، الكتاب يتهجم على تاريخنا الإسلامي و يتهمه بتزييف الحقائق، وأشكلت علي شبهتان أرجو أن أجد لهما جواباً عند شيوخنا الأفاضل.
الشبهة الأولى: يقول فيها إن المسلمين لم يغيروا قبلتهم إلا في عهد عبد الملك بن مروان واستدل بقول يعقوب الرهوي سنة 660 ميلادي. قال الكاتب :
(يقول يعقوب الرهوي سنة 660 ميلادي، أي بعد أكثر من ثلاثين سنة على تاريخ تحويل القبلة:
اليهود لا يصلّون ناحية الجنوب، و لا المهاجرايا (المهاجيريا لفظ قديم أطلق على المسلمين)، فاليهود الذين في مصر مثلهم مثل المهاجرايا يصلّون باتّجاه الشرق، و قد رأيتهم بأمّ عينيّ كما سأخبركم الآن، هذان الشعبان يواصلان الصلاة إلى اليوم هكذا: اليهود يصلّون نحو القدس، و المهاجرايا نحو الكعبة، فاليهود الذين في جنوب القدس يصلون نحو الشمال، و الذين في بابل يصلون نحو الغرب، و كذلك المهاجرايا في الغرب نحو الكعبة، والذين في جنوب الكعبة يصلون نحو الشمال باتّجاه هذا المكان.
يعارض بعض الباحثين المسلمين هذا الكلام على أساس أنّ يعقوب الرهوي ليس جغرافيّا و تنقصه الدقّة، و أنّه كان يريد أن يقول انطلاقا من الإسكندريّة شرق-جنوب لكنّنا نتساءل هل أخطأ أيضا في وصف القبلة انطلاقا من العراق؟ كما أنّه أشار في البداية إلى أنّهم يصلّون نحو المكان نفسه، و لو سلّمنا بذلك فإنّه لم يرهم بأمّ عينه كما قال خاصّة أنّه تحدّث عن الذين في جنوب الكعبة، ولو كان يقصد بكلامه جنوب كعبة مكّة لقلنا يقصد اليمن، لكن يعقوب الرهوي لم يذهب أبدا إلى هناك، بينما لو كان يقصد بكلامه كعبة القدس فهو عبر فعلا من هناك في رحلته من النجف نحو الإسكندريّة.
الشبهة الثانية قال فيها الكاتب يتكلم عن المسلمين:
(ولا ندري إلى اليوم أسباب اختلاقهم لقبائل بني النضير والقينقاع وقريظة ففي أقدم مخطوط عربيّ، وهو معاهدة المدينة، لم يوجد ذكر لهؤلاء القبائل، كما أنّ اليهود في فلسطين و المدن المجاورة لم يذكروهم أبدا رغم اعتناء اليهود بالتوثيق لفروعهم، وهو ما يجعلنا نرى هناك سرّا في الأمر.)
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
ففساد هاتين الشبهتين مغن عن إفسادهما والتعرض لهما بالنقض، فإن القرآن قد جاء بالأمر بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة شرفها الله، ومن المحال أن يتصور - من يدري ما يقول - أن المسلمين عطلوا العمل بهذه الآيات طيلة تلك المدة من غير مسوغ، حتى كان زمن عبد الملك فأحيوا العمل بها، إلا أن يتجارى به الهوى ويتمادى في الكذب والبهت على عادته، فيزعم أن هذه الآيات دست في القرآن زمن عبدالملك، فيكون قد نادى على نفسه بالجهل بحقائق التاريخ، فقد شهد العدو قبل الصديق والمخالف قبل الموافق أن القرآن لم يطرأ عليه تبديل ولا تحريف، بل هو الكتاب المحفوظ بحفظ الله تعالى له.
أفيليق بك أيها السائل الكريم أن تجعل كلام هذا الرهوي حجة يقابل بها كلام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة ثبوتا لا مطعن فيه البتة، ونحن لم نطلع على كلام الرهوي هذا، ولكن المنقول عنه إن سلم أن المهاجرية اسم يطلق على المسلمين قديما يدل على أن قبلتهم كانت غير قبلة اليهود وأنهم كانوا يستقبلون الكعبة، فهذا الكاتب فهم من كلام هذا المؤرخ ما لم يصرح به بل صرح بخلافه، ولو فرض أن المؤرخ الكافر قد أخبر أن المسلمين كانوا يستقبلون القبلة ذاتها التي يستقبلها اليهود، أفيقبل كلامه في رد كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والمتواتر من وقائع التاريخ ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم .
وأما عدم وجود ذكر ليهود بني قريظة وبني قينقاع وبني النضير في مراجع اليهود فأمره هين. فحسبنا أن الله ذكر ذلك في كتابه وذكرته السنة الصحيحة المتواترة التي لا سبيل للطعن فيها، وأثبته المؤرخون العدول من جهابذة حفاظ أهل الإسلام. وقد أرجع بعض الباحثين عدم ذكرهم في مراجع اليهود إلى ضعف الاتصال بينهم وبين يهود الشام آنذاك.
وأيا ما كان الأمر فإن تحويل القبلة ووجود اليهود في جزيرة العرب أمور قطعية الثبوت قد جاوزت حد التواتر، وإنكارها إنكار للمحسوس فهو مكابرة مفضوحة وتلبيس لا خفاء به.
والذي ننصحك به أيها الأخ الكريم أن تعرض عن قراءة مثل هذه الترهات، وأن تتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتعض عليهما بالنواجذ، ولا تلتفت إلى شبهات المبطلين وأقول المشككين، فإنهم لا يزالون يسعون في هدم الإسلام، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
والله أعلم.