أن يكون الرجل ذا همة فهذا أمر مطلوب ، وأن يبزغ نجمه في فن من العلوم فهذا أمر محمود ، ولكن ما بالك لو كان صاحب هذه الترجمة ذا همة عالية ، فبزغ نجمه في التفسير فكان مفسرًا بارعـًا ، وبزغ له نجم في التاريخ فكان مرجعـًا ، ولم يلبث أن بزغ له نجم ثالث في الفقه فكان إمامـًا يقتدى به ، فهو إمام من الأئمة ومجتهد من أهل الاجتهاد وصاحب مذهب مطلق ، وإن كان لم يكتب لمذهبه البقاء ، كل من كتب
في التفسير يعولون عليه ، وكل من كتب في التاريخ يرجعون إليه ، فهو بحق يعد أبـًا للتاريخ ، كما أنه أب للتفسير ، إنه الإمام المفسر الفقيه المؤرخ ابن جرير الطبري .
التعريف بابن جرير الطبري :
هو أبو جعفر ، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري ، الإمام الجليل ، المجتهد المطلق، صاحب التصانيف المشهورة ، وهو من أهل آمل طبرستان، ولد بها سنة 224هـ أربع وعشرين ومائتين من الهجرة ، ورحل من بلده في طلب العلم وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، سنة ست وثلاثين ومائتين ، وطوّف في الأقاليم ، فسمع بمصر والشام والعراق ، ثم ألقى عصاه واستقر ببغداد ، وبقى بها إلى أن مات سنة عشر وثلاثمائة .
مبلغه من العلم والعدالة :
كان ابن جرير أحد الأئمة الأعلام ، يُحكم بقوله ، ويُرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله ، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره ، فكان حافظـًا لكتاب الله ، بصيرًا بالقرآن ، عارفـًا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن ، عالمـًا بالسنن وطرقها ، وصحيحها وسقيمها ، وناسخها ومنسوخها ، عارفـًا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام ، ومسائل الحلال والحرام ، عارفـًا بأيام الناس وأخبارهم .. هذا هو ابن جرير في نظر الخطيب البغدادي، وهي شهادة عالم خبير بأحوال الرجال ، وذكر أن أبا العباس بن سريج كان يقول : محمد بن جرير فقيه عالم ، وهذه الشهادة جد صادقة ؛ فإن الرجل برع في علوم كثيرة ، منها : علم القراءات ، والتفسير ، والحديث ، والفقه ، والتاريخ ، وقد صنف في علوم كثيرة وأبدع التأليف وأجاد فيما صنف .
مصنفاته :
كتاب التفسير، وكتاب التاريخ المعروف بتاريخ الأمم والملوك، وكتاب القراءات، والعدد والتنزيل ، وكتاب اختلاف العلماء ، وتاريخ الرجال من الصحابة والتابعين ، وكتاب أحكام شرائع الإسلام ، وكتاب التبصر في أصول الدين … وغير هذا كثير .
ولكن هذه الكتب قد اختفى معظمها من زمن بعيد ، ولم يحظ منها بالبقاء إلى يومنا هذا وبالشهرة الواسعة ، سوى كتاب التفسير ، وكتاب التاريخ .
وقد اعتبر الطبري أبا للتفسير ، كما اعتبر أبا للتاريخ الإسلامي ، وذلك بالنظر لما في هذين الكتابين من الناحية العلمية العالية ، ويقول ابن خلكان : إنه كان من الأئمة المجتهدين ، لم يقلد أحدًا ، ونقل : أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي ذكره في طبقات الفقهاء في جملة المجتهدين ، قالوا : وله مذهب معروف ، وأصحاب ينتحلون مذهبه ، يقال لهم الجريرية ، ولكن هذا المذهب الذي أسسه ـ على ما يظهر ـ بعد بحث طويل ، ووجد له أتباعـًا من الناس ، لم يستطع البقاء إلى يومنا هذا كغيره من مذاهب المسلمين ؛ ويظهر أن ابن جرير كان قبل أن يبلغ هذه الدرجة من الاجتهاد متمذهبـًا بمذهب الشافعي ، يدلنا على ذلك ما جاء في الطبقات الكبرى لابن السبكي ، من أن ابن جرير قال : أظهرت فقه الشافعي ، وأفتيت به ببغداد عشر سنين .
علو همتـه :
كان رحمه الله عالي الهمة متوقد العزم ـ قال : عند تفسيره للقرآن : أتنشطون لتفسير القرآن ؟ قالوا : كم يكون قدره ؟ قال : ثلاثون ألف ورقة ، فقالوا هذا ما يفني الأعمار قبل تمامه فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة .
اتهامه بالوضع للروافض :
وقد اتُهِمَ رحمه الله بأنه كان يضع للروافض، وهذا رجم بالظن الكاذب ، ولعله أشبه على صاحب هذا القول ابن جرير آخر ، وهو محمد بن جرير بن رستم الطبري الرافضي .
وفاته :
مرض أبو جعفر بذات الجنب فجاءه الطبيب فسأل أبا جعفر عن حاله ، فعرّفه حاله وما استعمل وما أخذ لعلته ، وما انتهى إليه في يومه ، فقال له الطبيب : ما عندي فوق ما وصفته لنفسك شيء ، فلما كان يوم السبت لأربع بقين من شوال سنة عشر وثلاثمائة كانت منيته ودفن يوم الأحد ، ولم يؤذن به أحد ، فاجتمع على جنازته ما لا يحصى عددهم إلا الله ، وصلى على قبره شهورًا ليلاً ونهارًا .
هذا هو ابن جرير ؛ وهذه هي نظرات العلماء إليه ، وذلك هو حكمهم عليه ، ومن كل ذلك تبين لنا قيمته ومكانته .
التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه :
يعتبر تفسير بن جرير من أقوم التفاسير وأشهرها ، كما يعتبر المرجع الأول عند المفسرين الذين عنوا بالتفسير النقلي ؛ وإن كان في الوقت نفسه يعتبر مرجعـًا غير قليل الأهمية من مراجع التفسير العقلي ؛ نظرًا لما فيه من الاستنباط ، وتوجيه الأقوال ، وترجيح بعضها على بعض ، ترجيحـًا يعتمد على النظر العقلي ، والبحث الحر الدقيق .
ويقع تفسير ابن جرير في ثلاثين جزءًا من الحجم الكبير ، وقد كان هذا الكتاب من عهد قريب يكاد يعتبر مفقودًا لا وجود له ، ثم قدّر الله له الظهور والتداول ، فكانت مفاجأة سارة للأوساط العلمية في الشرق والغرب أن وجدت في حيازة أمير ( حائل ) الأمير حمود ابن الأمير عبد الرشيد من أمر اء نجد نسخة مخطوطة كاملة من هذا الكتاب ، طبع عليها الكتاب من زمن قريب ، فأصبحت في يدنا دائرة معارف غنية في التفسير المأثور .
ما قيل في تفسيره :
ولو أننا تتبعنا ما قاله العلماء في تفسير ابن جرير ، لوجدنا أن الباحثين في الشرق والغرب قد أجمعوا الحكم على عظيم قيمته ، واتفقوا على أنه مرجع لا غنى عنه لطالب التفسير ، فقد قال السيوطي رضي الله عنه " وكتابه ـ يعني تفسير محمد بن جرير ـ أجل التفاسير وأعظمها ، فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال ، وترجيح بعضها على بعض ، والإعراب ، والاستنباط ، فهو يفوق بذلك على تفسير الأقدمين " .
وقال النووي : " أجمعت الامة على أنه لم يصنف مثل تفسير الطبري " .
وقال ابو حامد الإسفرايني : " لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل على كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيرًا " .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وأما التفاسير التي في أيدي الناس ، فأصحها تفسير ابن جرير الطبري ، فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة ، وليس فيه بدعة ، ولا ينقل عن المتهمين ، كمقاتل بن بكير والكلبي " .
ويذكر صاحب لسان الميزان : أن ابن خزيمة استعار تفسير ابن جرير من ابن خالوية فرده بعد سنين ، ثم قال : " نظرت فيه من أوله إلى آخره فما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير " .
هذا وقد كتب ( نولدكه ) سنة 1860م بعد اطلاعه على بعض فقرات من هذا الكتاب " لو كان بيدنا هذا الكتاب لاستغنينا به عن كل التفاسير المتأخرة ، ومع الأسف فقد كان يظهر أنه مفقود تمامـًا ، وكان مثل تاريخه الكبير مرجعـًا لا يغيض معينه أخذ عنه المتأخرون معارفهم " .
اختصار الطبري لتفسيره :
ويظهر مما بأيدينا من المراجع ، أن هذا التفسير كان أوسع مما هو عليه اليوم ، ثم اختصره مؤلفه إلى هذا القدر الذي هو عليه الآن ، فابن السبكي يذكر في طبقاته الكبرى " أن أبا جعفر قال لأصحابه : أتنشطون لتفسير القرآن ؟ قالوا : كم يكون قدره ؟ فقال : ثلاثون ألف ورقة ، فقالوا : هذا ربما تفنى الأعمار قبل تمامه ، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة ، ثم قال : هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا ؟ ، قالوا : كم قدره ؟ فذكر نحوًا مما ذكره في التفسير ، فأجابوه بمثل ذلك ، فقال : إنا لله ، ماتت الهمم ، فاختصره في نحو ما اختصر التفسير " أ.هـ .
أولية تفسيره :
هذا ونسطيع أن نقول إن تفسير ابن جرير هو التفسير الذي له الأولية بين كتب التفسير ، أولية زمنية ، وأولية من ناحية الفن والصناعة .
أما أوليته الزمنية ، فلأنه أقدم كتاب في التفسير وصل إلينا ، وما سبقه من المحاولات التفسيرية ذهبت بمرور الزمن ، ولم يصل إلينا شيء منها ، اللهم إلا ما وصل إلينا منها في ثنايا ذلك الكتاب الخالد الذي نحن بصدده .
وأما أوليته من ناحية الفن والصناعة ؛ فذلك أمر يرجع إلى ما يمتاز به الكتاب من الطريقة البديعة التي سلكها في مؤلفه ، حتى أخرجه للناس كتابـًا له قيمته ومكانته
ونريد أن نعرض هنا لطريقة ابن جرير في تفسيره ، بعد أن أخذنا فكرة عامة عن الكتاب، حتى يتبين للقارئ أن الكتاب واحد في بابه ، سبق به مؤلفه غيره من المفسرين ، فكان عمدة المتأخرين ، ومرجعـًا مهمـًا من مراجع المفسرين ، على اختلاف مذاهبهم ، وتعدد طرائقهم ، فنقول :
طريقة ابن جرير في تفسيره :
تتجلى طريقة ابن جرير في تفسيره بكل وضوح إذا نحن قرأنا فيه وقطعنا في القراءة شوطـًا بعيدًا ، فأول ما نشاهده ، أنه إذا أراد أن يفسر الآية من القرآن يقول " القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا ، ثم يفسر الآية ويستشهد على ما قاله بما يرويه بسنده إلى الصحابة أو التابعين من التفسير المأثور عنهم في هذه الآية ، وإذا كان في الآية قولان أو أكثر ، فإنه يعرض لكل ما قيل فيها ، ويستشهد على كل قول بما يرويه في ذلك عن الصحابة أو التابعين .
ثم هو لا يقتصر على مجرد الرواية ، بل نجده يتعرض لتوجيه الأقوال ، ويرجح بعضها على بعض ، كما نجده يتعرض لناحية الإعراب إن دعت الحال إلى ذلك ، كما أنه يستنبط الأحكام التي يمكن أن تؤخذ من الآية من توجيه الأدلة وترجيح ما يختار .
إنكاره على من يفسر بمجرد الرأي :
ثم هو يخاصم بقوة أصحاب الرأي المستقلين في التفكير ، ولا يزال يشدد في ضرورة الرجوع إلى العلم الراجع إلى الصحابة أو التابعين ، والمنقول عنهم نقلاً صحيحـًا مستفيضـًا ، ويرى أن ذلك وحده هو علامة التفسير الصحيح ، فمثلاً عند ما تكلم عن قوله تعالى في الآية (49) من سورة يوسف ( ثم يأتي من بعد ذلك عامٌ فيه يغاث الناسُ وفيه يعصِرون ) نجده يذكر ما ورد في تفسيرها عن السلف مع توجيهه للأقوال وتعرضه للقراءات بقدر ما يحتاج إليه تفسير الآية ، ثم يعرج بعد ذلك على من يفسر القرآن برأيه ، وبدون اعتماد منه على شيء إلا على مجرد اللغة ، فيفند قوله ، ويبطل رأيه ، فيقول ما نصه " .. وكان بعض من لا علم له بأقوال السلف من أهل التأويل ، ممن يفسر القرآن برأيه على مذهب كلام العرب ، يوجه معنى قوله ( وفيه يعصرون ) إلى وفيه ينجون من الجدب والقحط بالغيث ، ويزعم أنه من العصر ، والعصر التي بمعنى المنجاة، من قول أبي زبيد الطائي :
صاديـا يستغيث غير مغاث ولقد كان عصرة المنجود
أي المقهور ـ ومن قول لبيد :
فبات وأسرى القوم آخر ليلهم وما كان وقافـًا بغير معصر
وذلك تأويل يكفي من الشهادة على خطئه خلافه قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين .
موقفه من الأسانيد :
ثم إن ابن جرير وإن التزم في تفسيره ذكر الروايات بأسانيدها ، إلا أنه في الأعم الأغلب لا يتعقب الأسانيد بتصحيح ولا تضعيف ، لأنه كان يرى ـ كما هو مقرر في أصول الحديث ـ أن من أسند لك فقد حملك البحث عن رجال السند ومعرفة مبلغهم من العدالة أو الجرح ، فهو بعمله هذا قد خرج من العهدة ومع ذلك فابن جرير يقف من السند أحيانـًا موقف الناقد البصير، فيعدل من يعدل من رجال الإسناد ، ويجرح من يجرح منهم ، ويرد الرواية التي لا يثق بصحتها ، ويصرح برأيه فيها بما يناسبها ، فمثلاً نجده عند تفسيره لقوله تعالى في الآية ( 94) من سورة الكهف : ( .. فهل نجعل لك خرجـًا على أن تجعل بيننا وبينهم سدًا )يقول ما نصه : " روى عن عكرمة في ذلك ـ يعني في ضم سين سدًا وفتحها ـ ما حدثنا به أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن هرون ، عن أيوب ، عن عكرمة قال : ما كان من صنعة بني آدم فهو السَّد يعني بفتح السين ، وما كان من صنع الله فهو السُّد ،ثم يعقب على هذا السند فيقول : وأما ما ذكر عن عكرمة في ذلك ، فإن الذي نقل ذلك عن أيوب هرون ، وفي نقله نظر ، ولا نعرف ذلك عن أيوب من رواية ثقاة أصحابه " أ.هـ .
تقديره للإجماع :
كذلك نجد ابن جرير في تفسيره يقدر إجماع الأمة ، ويعطيه سلطانـًا كبيرًا في اختيار ما يذهب إليه من التفسير ، فمثلاً عند قوله تعالى في الآية ( 230) من سورة البقرة ( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجـًا غيره ) يقول ما نصه : " فإن قال قائل : فأي النكاحين عنى الله بقوله : فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجـًا غيره ؟ النكاح الذي هو جماع ؟ أم النكاح الذي هو عقد تزويج ؟ قيل كلاهما ؛ وذلك أن المرأة إذا نكحت زوجـًا نكاح تزويج ثم لم يطأها في ذلك النكاح ناكحها ولم يجامعها حتى يطلقها لم تحل للأول ، وكذلك إن وطئها واطئ بغير نكاح لم تحل للأول ؛ لإجماع الأمة جميعـًا ، فإذا كان ذلك كذلك " فمعلوم أن تأويل قوله : فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجـًا غيره ، نكاحـًا صحيحـًا ، ثم يجامعها فيه : ثم يطلقها ، فإن قال : فإن ذكر الجماع غير موجود في كتاب الله تعالى ذكره ، فما الدلالة على أن معناه ما قلت ؟ قيل : الدلالة على ذلك إجماع الأمة جميعـًا على أن ذلك معناه " .
موقفه من القراءات :
كذلك نجد أن ابن جرير يعنى بذكر القراءات وينزلها على المعاني المختلفة ، وكثيرًا ما يرد القراءات التي لا تعتمد على الأئمة الذين يعتبرون عنده وعند علماء القراءات حجة ، والتي تقوم على أصول مضطربة مما يكون فيه تغير وتبديل لكتاب الله ، ثم يتبع ذلك برأيه في آخر الأمر مع توجيه رأيه بالأسباب ، فمثلاً عند قوله تعالى في الآية (81) من سورة الأنبياء ( ولسليمان الريح عاصفة ) يذكر أن عامة قراء الأمصار قرءوا ( الريح ) بالنصب على أنها مفعول لـ "سخرنا" المحذوف ، وأن عبد الرحمن الأعرج قرأ ( الريح ) بالرفع على أنها مبتدأ ثم يقول : والقراءة التي لا استجيز القراءة بغيرها في ذلك ما عليه قراء الأمصار لإجماع الحجة من القراء عليه .
سبب عناية ابن جرير بالقراءات :
ولقد يرجع السبب في عناية ابن جرير بالقراءات وتوجيهها إلى أنه كان من علماء القراءات المشهورين ، حتى أنهم ليقولون عنه : إنه ألف فيها مؤلفـًا خاصـًا في ثمانية عشر مجلدًا ، ذكر فيه جميع القراءات من المشهور والشواذ وعلل ذلك وشرحه ، واختار منها قراءة لم يخرج بها من المشهور، وإن كان هذا الكتاب قد ضاع بمرور الزمن ولم يصل إلى أيدينا ، شأن الكثير من مؤلفاته .
موقفه من الإسرائيليات :
ثم إننا نجد ابن جرير يأتي في تفسيره بأخبار مأخوذة من القصص الإسرائيلي ، يرويها بإسناده إلى كعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وابن جريج والسدي ، وغيرهم ، ونراه ينقل عن محمد بن إسحاق كثيرًا مما رواه عن مسلمة النصارى ، ومن الأسانيد التي تسترعي النظر ، هذا الإسناد : حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن أبي عتاب .. رجل من تغلب كان نصرانيـًا عمرًا من دهره ثم أسلم بعد فقرأ القرآن وفقه في الدين ، وكان فيما ذكر ، أنه كان نصرانيـًا أربعين سنة ثم عمر في الإسلام أربعين سنة .
يذكر ابن جرير هذا الإسناد ويروي لهذا الرجل النصراني الأصل خبرًا عن آخر أنبياء بني إسرائيل عند تفسيره لقوله تعالى : ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ، فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا )(الإسراء/7) .
" .. وهكذا يكثر ابن جرير من رواية الإسرائيليات ، ولعل هذا راجع إلى ما تأثر به من الروايات التاريخية التي عالجها في بحوثه التاريخية الواسعة .
وإذا كان ابن جرير يتعقب كثيرًا من هذه الروايات بالنقد ، فتفسيره لا يزال يحتاج إلى النقد الفاحص الشامل ، احتياج كثير من كتب التفسير التي اشتملت على الموضوع والقصص الإسرائيلي ، على أن ابن جرير ـ كما قدمنا ـ قد ذكر لنا السند بتمامه في كل رواية يرويها ، وبذلك يكون قد خرج من العهدة ، وعلينا نحن أن ننظر في السند ونتفقد الروايات .
احتكامه إلى المعروف من كلام العرب :
وثمة أمر آخر سلكه ابن جرير في كتابه ، ذلك أنه اعتبر الاستعمالات اللغوية بجانب النقول المأثورة وجعلها مرجعـًا موثوقـًا به عند تفسيره للعبارات المشكوك فيها ، وترجيح بعض الأقوال على بعض .
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى : (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كلٍ زوجين اثنين .. )(هود/40) نراه يعرض لذكر الروايات عن السلف في معنى لفظ التنور ، فيروى لنا قول من قال : إن التنور عبارة عن وجه الأرض ، وقول من قال : إنه عبارة عن تنوير الصبح ، وقول من قال إنه عبارة عن أعلى الأرض وأشرفها ، وقول من قال : إنه عبارة عما يختبز فيه .. ثم قال بعد أن يفرغ من هذا كله : " وأولى هذه الأقوال عندنا بتأويل قوله ( التنور ) قول من قال : التنور : الذي يختبز فيه ، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب ، وكلام الله لا يوجه إلا إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب .
رجوعه إلى الشعر القديم :
كذلك نجد ابن جرير يرجع إلى شواهد من الشعر القديم بشكل واسع ، متبعـًا في هذا ما أثاره ابن عباس في ذلك ، فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى : ( فلا تجعلوا لله أندادًا .. )(البقرة/22) يقول ما نصه : " قال أبو جعفر : والأنداد جمع ند ، والند : العدل والمثل ، كما قال حسان ابن ثابت :
أتهجوه ولست له بندٍ فشركما لخيركما الفداء
اهتمامه بالمذاهب النحوية :
كذلك نجد ابن جرير يتعرض كثيرًا لمذاهب النحويين من البصريين والكوفيين في النحو والصرف ، ويوجه الأقوال ، تارة على المذهب البصري ، وأخرى على المذهب الكوفي ، فمثلاً عند قوله تعالى : ( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرمادٍ اشتدت به الريح في يوم عاصف )(إبراهيم/18) يقول ما نصه : " اختلف أهل العربية في رافع ( مثل ) فقال بعض نحويي البصرة : إنما هو كأنه قال : ومما نقص عليكم مثل الذين كفروا ، ثم أقبل يفسره كما قال : مثل الجنة .. وهذا كثير .
وقال بعض نحويي الكوفيين : إنما المثل للأعمال ، ولكن العرب تقدم الأسماء لأنها أعرف ، ثم تأتي بالخبر الذي تخبر عنه مع صاحبه ، ومعنى الكلام : مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد .. إلخ .
والحق أن ما قدمه لنا ابن جرير في تفسيره من البحوث اللغوية المتعددة والتي تعتبر كنزًا ثمينـًا ومرجعـًا في بابها ، أمر يرجع إلى ما كان عليه صاحبنا من المعرفة الواسعة بعلوم اللغة وأشعار العرب ، معرفة لا تقل عن معرفته بالدين والتاريخ ، ونرى أن ننبه هنا إلى أن هذه البحوث اللغوية التي عالجها ابن جرير في تفسيره لم تكن أمرًا مقصودًا لذاته ، وإنما كانت وسيلة للتفسير ، على معنى أنه يتوصل بذلك إلى ترجيح بعض الأقوال على بعض ، كما يحاول بذلك ـ أحيانـًا ـ أن يوفق بين ما صح عن السلف وبين المعارف اللغوية بحيث يزيل ما يتوهم من التناقض بينهما .
معالجـته للأحكام الفقهية :
كذلك نجد في هذا التفسير آثارًا للأحكام الفقهية ، يعالج فيه ابن جرير أقوال العلماء ومذاهبهم ، ويخلص من ذلك كله برأي يختاره لنفسه ، ويرجحه بالأدلة العلمية القيمة ، فمثلاً نجده عند تفسيره لقوله تعالى : ( والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون) (النحل /8) نجده يعرض لأقوال العلماء في حكم أكل لحوم الخيل والبغال والحمير ، ويذكر قول كل قائل بسنده .. وأخيرًا يختار قول من قال : إن الآية لا تدل على حرمة شيء من ذلك ، ووجه اختياره هذا فقال : ما نصه : " والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله أهل القول الثاني ـ وهو أن الآية لا تدل على الحرمة ـ وذلك أنه لو كان في قوله تعالى ذكره ـ ( لتركبوها ) دلالة على أنها لا تصلح إذ كانت للركوب لا للأكل ، لكان في قوله ( فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون) (النحل/5) دلالة على أنها لا تصلح إذ كانت للأكل والدفء وللركوب ، وفي إجماع الجميع على أن ركوب ما قال تعالى ذكره ( ومنها تأكلون ) جائز حلال غير حرام ، دليل واضح على أن أكل ما قال ( لتركبوها ) جائز حلال غير حرام ، إلا بما نص على تحريمه ، أو وضع على تحريمه دلالة من كتاب أو وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما بهذه الآية فلا يحرم أكل شيء .
وقد وضع الدلالة على تحريم لحوم الحمر الأهلية بوحيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى البغال بما قد بينا في كتابنا كتاب الأطعمة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ؛ إذ لم يكن هذا الموضع من مواضع البيان عن تحريم ذلك ، وإنما ذكرنا ما ذكرنا ليدل على أن لا وجه لقول من استدل بهذه الآية على تحريم الفرس " أ.هـ .
خوضه في مسائل الكلام :
ولا يفوتنا أن ننبه على ما نلحظه في هذا التفسير الكبير ، من تعرض صاحبه لبعض النواحي الكلامية عند كثير من آيات القرآن ، مما يشهد له بأنه كان عالمـًا ممتازًا في أمور العقيدة ، فهو إذا ما طبق أصول العقائد على ما يتفق مع الآية أفاد في تطبيقه ، وإذا ناقش بعض الآراء الكلامية أجاد في مناقشته ، وهو في جدله الكلامي وتطبيقه ومناقشته ، موافق لأهل السنة في آرائهم ، ويظهر ذلك جليـًا في رده على القدرية في مسألة الاختيار .
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى : ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين )(الفاتحة/7) نراه يقول ما نصه : " وقد ظن بعض أهل الغباء من القدرية أن في وصف الله جل ثناؤه النصارى بالضلال بقوله ( ولا الضالين ) وإضافة الضلال إليهم دون إضافة إضلالهم إلى نفسه ، وتركه وصفهم بأنهم المضللون كالذي وصف به اليهود أنه مغضوب عليهم ، دلالة على صحة ما قاله إخوانه من جهلة القدرية ، جهلاً منه بسعة كلام العرب وتصاريف وجوهه ، ولو كان الأمر على ما ظنه الغبي الذي وصفنا شأنه ،لوجب أن يكون كل موصوف بصفة أو مضاف إليه فعل لا يجوز أن يكون فيه سبب لغيره ،وأن يكون كل ما كان فيه من ذلك من فعله ، ولوجب أن يكون خطأ قول القائل : تحركت الشجرة إذا حركتها الرياح ، واضطربت الأرض إذا حركتها الزلزلة ،وما أشبه ذلك من الكلام الذي يطول بإحصائه الكتاب ، وفي قوله جل ثناؤه ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم ) (يونس/22) وإن كان جريها بإجراء غيرها إياها ، ما يدل على خطأ التأويل الذي تأوله مَن وصفنا قوله، في قوله ( ولا الضالين ) ، وادعائه أن في نسبة الله جل ثناؤه الضلالة إلى من نسبها إليه من النصارى، تصحيحـًا لما ادعى المنكرون أن يكون لله جل ثناؤه في أفعال خلقه سبب من أجله وجدت أفعالهم ، مع إبانة الله عز ذكره نصـًا في آيٍ كثيرة من تنزيله : أنه المضل الهادي ، فمن ذلك قوله جل ثناؤه : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علمٍ وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوةً فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون )(الجاثية/23) فأنبأ جل ذكره أنه المضل الهادي دون غيره ، ولكن القرآن نزل بلسان العرب على ما قدمنا البيان عنه في أول الكتاب ، ومن شأن العرب إضافة الفعل إلى من وجد منه وإن كان مشيئة غير الذي وجد منه الفعل غيره ، فكيف بالفعل الذي يكتسبه العبد كسبـًا ،ويوجده الله جل ثناؤه عينـًا منشأة ، بل ذلك أحرى أن يضاف إلى مكتسبه كسبـًا له بالقوة منه عليه ، والاختيار منه له ، وإلى الله جل ثناؤه بإيجاد عينه وإنشائها تدبيرًا .أ.هـ .
وعلى الإجمال فخير ما وصف به هذا الكتاب ما نقله الداودي عن أبي محمد عبد الله بن أحمد الفرغاني في تاريخه حيث قال : فثم من كتبه ـ يعني محمد بن جرير ـ كتاب تفسير القرآن ، وجوده ، وبين فيه أحكامه ، وناسخه ومنسوخه ، ومشكله وغريبه ، ومعانيه ، واختلاف أهل التأويل والعلماء في أحكامه وتأويله ، والصحيح لديه من ذلك ، وإعراب حروفه ، والكلام على الملحدين فيه ، والقصص ، وأخبار الأمة والقيامة ، وغير ذلك مما حواه من الحكم والعجائب كلمة كلمة ، وآية آية ، من الاستعاذة ، وإلى أبي جاد ، فلو ادعى عالم أن يصنف منه عشرة كتب كل كتاب منها يحتوي على علم مفرد وعجيب مستفيض لفعل " أ.هـ .
هذا وقد جاء في معجم الأدباء ج18 ص64ـ65 وصف مسهب لتفسير ابن جرير ، جاء في آخره ما نصه " وذكر فيه من كتب التفاسير المصنفة عن ابن عباس خمسة طرق ،وعن سعيد بن جبير طريقين ، وعن مجاهد بن جبر ثلاث طرق ، وعن الحسن البصري ثلاث طرق ، وعن عكرمة ثلاثة طرق وعن الضحاك بن مزاحم طريقين ،وعن عبد الله بن مسعود طريقـًا ،وتفسير عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ،وتفسير ابن جريج ، وتفسير مقاتل بن حبان ، سوى ما فيه من مشهور الحديث عن المفسرين وغيرهم ، وفيه من المسند حسب حاجته إليه ، ولم يتعرض لتفسير غير موثوق به ، فإنه لم يدخل في كتابه شيئـًا عن كتاب محمد بن السائب الكلبي ، ولا مقاتل بن سليمان ، ولا محمد بن عمر الواقدي؛ لأنهم عنده أظناء والله أعلم ، وكان إذا رجع إلى التاريخ والسير وأخبار العرب حكى عن محمد بن السائب الكلبي ، وعن ابنه هشام ، وعن محمد بن عمر الواقدي ، وغيرهم فيما يفتقر إليه ولا يؤخذ إلا عنهم .