ورد في مذكرات أحد الدعاة، أن شابًّا مسلمًا من بلاد الجزيرة العربية سافر إلى بلاد الإنجليز، وهناك سكن في بيت إنجليزي مع امرأة عجوز، وقد اضطر إلى ذلك اضطرارًا، وكان يقوم إلى صلاة الفجر في البرد القارس المثلج إلى صنبور الماء؛ فيتوضأ، فكانت العجوز تلاحظه كل صباح، قالت له ذات مرة: أمجنون أنت؟ قال: لا، قالت: وكيف تقوم في هذه الساعة لتتوضأ؟ قال: ديني يأمرني بذلك. قالت: ألا تتأخر؟ قال: لو تأخرت لما قَبِل الله مني، فهزت رأسها وقالت: «هذه إرادة تكسر الحديد» ..
إن الذي أتى بهذه الإرادة الفولاذية إنما كانت وليدة حب هذا الشاب لله ورسوله.. ذلك الحب الذي جعله يتحمل الماء البارد ويترك فراشه الدافئ للقاء حبيبه وهو المولى عز وجل، يلقاه في الصلاة. ما أحوجنا -نحن الآباء والمربين- إلى قبسات من نور النبوة، لنهتدي بها في تربية أولادنا وبناتنا على الحب، في زمن قلَّ فيه الحب، واختلت فيه القيم، واضطربت الأخلاق، وصال الناس وجالوا في مواطن الوحل، وهم يحسبون أنهم على جادة الحضارة والتمدّن والرقي، وهم في الواقع يهبطون إلى أسفل مدارك السلوك!
نحن في حاجة إلى أن نعرف معالم هذه التربية القويمة عند رسولنا الكريم في زمن رفع فيه مدّعو الحضارة والمدنية والديمقراطية شعارات أهلكت الأفراد والأمم، وإذا ما استمرت في غيِّها ستقضي على الأخضر واليابس.
وتتبادر إلى الذهن عدة أسئلة؛ أهمها: كيف ربى النبي صلى الله عليه وسلم الأجيال على الحب؟ وما الهدف الذي رباهم على أن يسعوا إلى تحقيقه ومن أجله يعيشون أو يموتون؟ وماذا كانت ثمرات تربيته التي انعكست على شخصيات أصحابه؟..
أنا الآن لست بصدد الحديث عن سياسي عظيم، فرسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم أعظم من الساسة جميعًا، ولست أتحدث عن اقتصادي بارع، فنبينا العظيم أعظم من الاقتصاديين جميعًا، ولا أتحدث عن زعيم فهو أعظم الزعماء قاطبة، ولا عن أديب من الأدباء، فهو أعظم من هؤلاء جميعًا، ولكني أتحدث عن النبي المعلم المربي على الحب.
إنه النبي الرسول الذي بعثه ربه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.. إنه الرحمة المهداة والنعمة المسداة إلى العالمين جميعًا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء – 107]، إنه المعلم والمربي الأعظم الذي حدد له ربه مهامه، فقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}[الجمعة - 2].
فبيّن رب العزة هنا أن من المهام الرئيسة لرسول الله صلى الله عليه وسلم التعليم والتزكية؛ أي الترقية والتهذيب والتربية والإصلاح..
فالمصلحون أصابع جمعت يدًا *** هي أنت بل أنت اليد البيضــــــــــاء
فإذا سخوت بلغــــــــــــت بالجود *** المدى وفعلت ما لا تفعل الأنواء
وإذا رحمت فأنت أمٌّ أو أبٌ *** هذان في الدنيا هما الرحمــــــــــــــــــــــاء
لقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم بالنور الذي أضاء العالم، فأنقذ البشرية من ظلمات الاستعباد وأمراض الطبقية ونزعات الجاهلية ونزواتها، ليعطي بديلاً عادلاً راقياً حضارياً لحياة البشر، ليصنع حدًّا لهؤلاء الذين استعبدوا شعوبهم وحكموهم بالتخويف والترهيب، ليسوسهم محمد صلى الله عليه وسلم بمنهج الحب، على حين أتى ستالين ولينين وهتلر يسحقون البشر ويعذبونهم ويحرقونهم، ومع ذلك نجد دعاة التحضر والتمدّن من أبناء جلدتنا يسبّحون بحمدهم ومبهورين بهم، وهؤلاء المولعون بهذا الزيف قال فيهم الشاعر وفيمن انبهروا بهم:
قالوا هم البشر الأعلى وما أكلوا شيئاً كما أكلوا الإنسان أو شربوا..
لقد أتى محمد "صلى الله عليه وسلم" ليخرج من الأمة البائسة الأمية أمةً رائدةً مجيدةً خالدةً..
فماذا فعل غيره من الفلاسفة؟
ماذا فعل الشيوعيون والليبراليون والعلمانيون والقوميون والرأسماليون والاشتراكيون؟
لقد صدعوا أدمغتنا بصخبهم في الإذاعات والفضائيات، ورفضوا شرع ربهم ومنهج حبيبهم، وشخبطوا في الصحف والمجلات بكلمات جوفاء لا صدى لها ولا مغزى ولا معنى، وما غيروا شيئاً إلا إلى الأسوأ..
أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد غير العالم ونقى النفوس وطهرها وزكاها، وربى القلوب فاستحق أن ينال وسام التغيير الإيجابي.
إن البرية يوم مـــــــبعث أحـــــمد *** نظــــــــــــر الإلــــــه لهـــــــــا فبدَّل حالها
بل كرم الإنسان حــين اختار *** من خير البــــــــرية نجمها وهلالها
لبس المرقّع وهــــــــــو قـــــــــائد أمة *** جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآهـــــــــا الله تمــــــــشي نحـــــــوه *** لا تبـــــــــتغي إلا رضــــــاه سعى لها
فأمدها مدداً وأعـــــــلى شأنها *** وأزال شــــــــــائنها وأصــــــــلح بـــــــــالهــا
لقد أسند الله تبارك وتعالى مهمة تربية هذه الأمة إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فأحسن تربية أصحابه في حياته ولا يزال هديه يقود المسيرة التربوية حتى يصل بأمته إلى الجنة. فقد ربىَّ أصحابه على حب الله ورسوله حباً تُزهق من أجله الروح، ويمزق من أجله الجسد، ويضحى من أجله بالنفس والنفيس.
فحب الله ورسوله أعظم أصول الإيمان، لذلك لما أتى إليه اليهود وقالوا: نحن نحب الله ولكن لا نتبعك، فكذب الله حُبهم، وأبطل دعواهم وقال لهم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب – 21].
نماذج ممن رباهم على الحب:
1- أبوبكر الصديق:
أبوبكر الصديق شخصية عجيبة، جمعت بين الرقة والشدة، والرحمة والقوة، والآناة والسرعة والتواضع والعظمة، والبساطة والفِطنة.شخصية وهبها الله من فضائل الأخلاق والسجايا الكثير والكثير، كما وهبها حلاوة المنطق وطلاقة اللسان، وقوة الحجة، وسداد الرأي، ونفاذ البصيرة، وسعة الأفق، وبعد النظر، وصلابة العزيمة.. هذا كله وغيره وليس بنبي، إن هذا لشيء عجيب.
لقد رباه النبي صلى الله عليه وسلمعندما بادره وأعلن له حبه؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته»(رواه البخاري).
وفي الجانب الآخر نرى أن أبا بكر تميز عن غيره في شدة حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد أحبه حبًّا خالصًا خالط لحمه ودماءه وعظامه وروحه، حتى صار جزءًا لا يتجزأ من كيانه، والصحابة جميعاً أحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أحدًا منهم لم يصل حبه للنبي إلى حب أبي بكر.
وحُبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكملات الإيمان، لقد روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (رواه البخاري).
وأبو بكر رضي الله عنه أشد الناس إيماناً بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومن ثم فهو أشد الناس حبًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا الحب العظيم له دليل من مواقف السيرة، ففي الهجرة فرح أبو بكر لصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مهاجر رد عليه في لهفة قائلاً: الصحبة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصحبة»..
فهذا دليل على الحب المتبادل بينهما.وها هي السيدة عائشة رضي الله عنها تصور هذا الموقف فتقول: «فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ».
يا الله! يبكي أبو بكر من الفرح بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، برغم ما في هذه الصحبة من مخاطرة قد تزهق فيها النفس، فمكة كلها تطارده، كما أنها قد تعرّض ماله وأهله للضياع، وبها يترك بلده وبيته!وعندما وصلا إلى الغار أصر أبوبكر أن يدخل قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لحبيبه: «والله لا تدخله حتى أدخله قبلك؛ فإن كان فيه شر أصابني دونك، فدخل فكسحه ووجد في جانبه ثُقوباً فشق إزاره وسد واحداً، وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخل فدخل، ووضع رأسه في حجره ونام، فلُدغ أبوبكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت دمعة على وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما لك يا أبا بكر؟»، قال: لُدغت فداك أبي وأمي، فتفل النبي صلى الله عليه وسلم على مكان اللدغ فذهب الألم.
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش «ذات السلاسل»، يقول: فأتيته (أي أتى رسول الله)، فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة». قلت: من الرجال؟ قال: «أبوها». قلت: ثم من؟ قال: «عمر»، فعد رجالاً.ومن علامات حب أبي بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم اقتداؤه به واتباعه، وفي ذلك حبٌ لله ولرسوله {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[آل عمران - 31].
ولقد كان أبو بكر الصديق يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة، حتى لتشعر أنه لا يفرق بين فرض ونافلة، وكان ملتصقًا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبطريقته ومنهجه؛ أي إن قَدْرَ السُّنة كان عنده عظيمًا جدًّا، لأن في ذلك البرنامج العملي الدال على حب الله ورسوله. والسُّنة هي طريقته صلى الله عليه وسلم في السلم والحرب والأمن والخوف، وفي الصحة والمرض، وفي السفر والإقامة، وفي السياسة والاقتصاد، وفي الاجتماع وفي المعاملات، وفي كل وجه من أوجه الحياة أو العبادات.
2- عمر بن الخطاب:
لقد رباه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على حب الله ورسوله. وحسناً أن نتأمل هذا الحوار الواضح بين النبي صلى الله عليه وسلم وعمر إذ قال عمر: يا رسول الله، والله إنك أحب إليَّ من مالي ومن أهلي ومن ولدي إلا من نفسي، فقال: «لا يا عمر؛ حتى أكون أحب إليك من نفسك»، قال: فوالله -يا رسول الله- إنك أحب إليّ حتى من نفسي.
وفي سنن الترمذي بسند حسنه بعض أهل العلم أن عمر بن الخطاب لما أراد العمرة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تنسنا من دعائك يا أخي».
فانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القائد المربي يقول لأحد تلاميذه: «يا أخي»، ويعلق رضي الله عنه على ذلك قائلاً: «كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما عليها»، أي إنها أحب إليه من الدنيا وما فيها، وذهب عمر إلى العمرة، لكن كأنه ترك قلبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأشواقه وأحاسيسه، يصدق في وصف حاله قول الشاعر:
بِنْتُمْ وبِنّا فما ابتلت جوانــحنا *** شـــــوقًا إليكم ولا جــفَّت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا *** يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
3- أنس بن النضر:
لقد رباه النبي صلى الله عليه وسلم على حب الله ورسوله، وهذا الحب أثبت قوته ورسوخه وأصالته في أُحد، فلقد دفعه هذا الحب إلى أن ينهض من المدينة بسيفه إلى أُحد فيقول له سعد بن معاذ: عد.. عد يا أنس، فقال: «إليك عني يا سعد، والله الذي لا إله إلا هو إني لأجد ريح الجنة من دون أُحد»، ويموت ويضرب بثمانين ضربة، أليس حبًّا صادقًا؟
4- حنظلة (غِسّيل الملائكة):
لقد أثمرت تربية الرسول لأصحابه على الحب رجالاً أحبوا الله ورسوله عما سواهما، وكان من هؤلاء حنظلة الغِسّيل - وحديثه صحيح - الذي ترك زوجته في أول ليلة من عرسها، وانتفض وهو على جنابة، فاستشهد في سبيل الله، وقدم دمه برهاناً على حبه لله ورسوله، حتى قال الرسول "صلى الله عليه وسلم" وهو يلتفت إلى السماء: «والذي نفسي بيده، إني لأرى الملائكة تغسل حنظلة بين السماء والأرض».. فانظر - أخي القارئ - إلى هذا الحب الراقي العظيم.
5- عبدالله بن جحش:
هو أول من سمي بـالأمير يوم أُحد، قال يومها: «اللهم إنك تعلم أني أحبك - وهذا مهر البيعة - اللهم إن كنت تعلم ذلك فلاقِ بيني وبين عدو لك شديد حرده، قوي بأسه، فيقتلني فيك، فيبقر بطني، ويجدع أنفي، ويفقع عيني، ويقطع أذني، فإذا قلت لي: يا عبدي لِمَ فعل بك هذا؟ فأقول: فيك يا رب».