بالتأكيد لم تكن تفعل شيئا. وإن كنت، فأقصى ما يمكن أن تفعله أن تقرأ وبدون تركيز، فأنت كالعادة تمر على الحروف بعينين منفتحتين غير مبصرتين، وكأنك تمر على الحصى في طريق تتهيأ للتعبيد في اتجاه اللانهائي، فيسمع احتكاكها المتقطع، تحت قدميك، كما يسمع انفصال شفتيك واتصالهما.وغير ما مرة تغلق الكتاب لتشيد لما يشغل بالك أبراجا من هواء..أو يتهيأ لي أنها من هواء...
أمور صارت في حكم المألوف، في حكم ما تهز له الأكتاف غير مبالية: «جومومفوتيسم»، كما يحلو لك أن تسمي هذا السلوك.ولعلها الكلمة الواحدة التي استطاعت ذاكرتك الموبوءة الاحتفاظ بها..لهفي عليك وعلى جيلك...
لم تكن تعلم عن أي شيء تود التحدث، إلا أنك ترغب في الكلام. أرى الكلمات منحبسة في حنجرتك متدافعة مثل طوابير المستجدين تأشيرات المرور إلى الضفاف المجهولة.قد يكون كلامك زائفا مثل الكتاب بين يديك. وأعلم أنها لن تقلقك صراحتي، فلن تسول لي نفسي خداعك.. لن أوريك صورة غير صورتك، فأنت تافه..صدقني، تافه..قل لي عن قميص خاطته يدك أو عن خطاب سليم خطته يمينك.قل حتى عن جريمة ارتكبتها ببراعة.لا شيء.. أم تريد أن ينطبق المثل القائل «الله ينجيك من الساكتة إيلى دوت...» محال..محال..
لم يجب ولم يتململ، بل ظل يرنو إلى الأسطر تتلألأ في عينيه مثل السراب الذي يجني على من اتبعه، وهو يملك جهد الحفر عند قدميه لاستجلاب الماء، ثم يفضل البحث عن السهل القاتل في صحراء الوهم الأخضر..كعادته يسلط بصره على أي شيء يصطدم به، ولا يكاد يحيد عنه إلا وهو منتفض متنصل من الجواب...
إلى متى الهروب؟؟
أشعر أني أقسو عليه.غير أنني أريده أن يفعل شيئا، وألا يركن للندبة المكتومة.أن يخرج من ذاته وأن يبتعد عنها.. أن يتأمل ظله يقصر يوما بعد يوم..
وضع الوسادة على ركبتيه، وأسند إليها مرفقيه، ثم وضع الكتاب جانبا على السرير، متأهبا للمواجهة.توقعت أن يثور في وجهي وأن يقول بحدة:
«- أرهقتني بخطبتك الجوفاء هذه.أليس لديك شأن ترعاه سواي؟ أنا مرتاح هكذا أسيدي.. هل شكوت إليك أمري يوما؟ لا أريد أن أتقن شيئا.. بل لا أريد أن أفعل شيئا.ما رأيك ؟ أم تمن علي السنتيمات التي تنفقها علي..لولا إلحاح والدي ما مكثت معك ولو لحظة..»
بعد برهة، طلب مني أن أجلس، فامتثلت آملا أن يقول شيئا..وإن يكن أجوف..
لم يثر في وجهي كما توقعت. لكن، على الأقل، فكت عقدة لسانه بشكل سيتيح لي فرصة لأتحسس طريقي في سراديب نفسه المغلقة، لعلي أصل إلى شيء، وإن يكن غامضا.أدرك أنني سأجليه مع توالي الأيام.قال وهو يحك جبهته متوجها إلي بسؤال:
-السماء زرقاء؟
- بلى..
-والبحر أزرق.. أليس كذلك؟
- بلى..
ولكن إلى أي شيء يرمي.
- السماء زرقاء والبحر أزرق وبعد..
توثب من مكانه وهو يرددها(السماء زرقاء والبحر أزرق) ثم خرج.إذن لا شيء..مرة أخرى لا شيء...
فعلا، ما تزال السماء زرقاء والبحر أزرق..وما تزال الشمس تمارس فعلها بتفان منذ الأزل...وأنت ماذا تفعل ؟ ما دورك؟ غادرت الدراسة وغادرت بعدها مؤسسة التكوين.ماذا تريد تحديدا؟لا أدرك مرادك.لا تريد أن تعمل..بل لا تريد أن تفعل شيئا..
شعرت وقتها وكأنني مذيع يعاني من عي وتعتعة مزمنين وغباء موروث..أردد خطبة تزداد بتورها وأورامها كلما اشتدت زرقة السماء وزرقة البحر، وصارت الشمس تقدم الأفق قربانا للأمل المفقود في وصال الحلم وصالا شرعيا..
الحلم الذي كان يلقاه خلسة بوجه حليق، وكان يجالسها في مقهى الأفق، وهي تؤدي عنه ثمن الوجبات، دون أن يحس بأي إحراج.ما كان يعنيه شيء سوى أن يلتقيا..
«هاجر» إذن...هي ذلك الحلم والحلقة المفقودة في حياته.هي المجهول المحير.هي من كان يغيبه في حضره..وليته صرح لي بذلك..أم هي الرجولة وتمرد المراهق..أم الاستحياء..أم ماذا؟
كلما تواعدا أخليت سبيله، ومكثت في المقهى أطلق العنان لخيالي فأتصورها، ثم أحاول، بعد طول الانتظار، أن أسقط أوصافها على الحسناوات العابرات:عينان زرقاوان واسعتان ممتدتان امتداد المحيط الأطلسي..وقد فارع مثل برج إيفل..شعر أشقر منسدل كانسدال رمال ذهبية..رهافة حس..علم..ذكاء...
أيعقل أن يكون صمته حكمة؟
خرجت منه، بعد طول إلحاح، بوعد بمرافقته آخر الأسبوع الموالي لكشف السر الخفي..والتعرف على هاجر...
- نم إذن! قلت بعد حوار تشكلت منه مضغة غير مخلقة..
- لا ليس بعد...أنت تعلم أنني أتأخر قليلا..
ولطالما عاود الفعل نفسه..يناجي السماء.وغير ما مرة أستيقظ فجرا لألفيه في وضعه مثل تمثال أخرس..ينام بعدها حتى الزوال...
* * ** * *
في الليلة السابقة ليوم الموعد المحدد أيقظني، من غير قصد، وهو يحاول غلق دولاب الملابس الخشبي.نهرته فاعتذر وتظاهر بالنوم، فعدت توا ونمت حتى أصبح ولله الحمد، كما نادى المؤذن المبحوح.
قمت للصلاة تتلمس طريقك على الجدران التي ترسم عليها طبقات الصباغة المتراكبة والمقشرة خرائط الخراب.تحسست بحذر زر الكهرباء في المرحاض الشبيه ب«بورديل» للصراصير وهي تمارس فيه طقوسها للتكاثر، لتشاركك المأكل والملبس، وكأنها متواطئة مع شركات مساحيق التصبين، فلا تتوانى في تعطير ملابسك.صراصير معقمة ضد مبيدات الحشرات..مثلها مثل بعض الجيران المزودين بقرون الاستشعار..غير أن أخاك كان مزودا بأجهزة التشويش عنهم..فلم يعلم أحد بسره...
لا عليك..توضأت وتسللت خارجا.صليت في مسجد الحي .وعدت وقد كان نور الصباح المحتشم قد تسلل عبر نافذة الإغاثة الوحيدة المنفتحة على زقاق ضيق..لا فائدة منها في الحقيقة..دلفت إلى المطبخ وقد نال نصيبه من الضوء بشكل يتيح لك فرصة تمييز الأشياء بعضها من بعض.التفت بتلقائية إلى الأحذية المعلقة خلف الباب حيث يفترض أن تأخذ حذاءك المعلق.. فوجئت بحذاء أخيك مفقودا من حيث يفترض أن يكون، وهي واحدة من الأمور التي لم تكن تتجاوز ها عنه، بالإضافة إلى ترتيب الملابس في الدولاب.تفقدت باقي أرجاء البيت، وانتهى بك الأمر إلى تفقد سريره.كانت الملاءة الوحيدة والوسادة النحيلة و«الكاشة» المستعملة غطاء للسرير«كوفر لي»..كانت كلها مطوية بعناية ومرتبة على الكرسي الخشبي.فتحت الصوان، وتبين أنه قد حمل بعض ملابسه في حقيبة الظهر السوداء.تمتمت :«الباندي»..تبسمت..لقد فعلها إذن ليتملص من وعده بلقاء هاجر..ومن يدري، فقد يكونان تواعدا بنزهة خارج المدينة...فأحس بحرج، أو أن الوقت مبكر أو أنها اعتذرت..كلها احتمالات واردة..ولكن أليس المساء بقريب..؟ستعود..أيها الغامض.ولن ألح عليك أكثر ولن أدعك لهواك طبعا..يجب أن أراقبك من بعيد...
* * ** * *
كانت فصول بقية اليوم، خاصة أيام السبت والأحد، روتينية كالعادة منذ ولجت أبواب الوظيفة:
أعددت طعام الفطور..تناولته..وخرجت..
* * ** * *
أعددت طعام الغذاء.. تناولته...ونمت قليلا..ثم خرجت...
* * ** * *
أعددت طعام العشاء..تناولته..وشاهدت نشرات الأخبار حتى أصبت بالتخمة... ونمت قلقا..فهو لم يفعلها من قبل..لم يسبق له أن تأخر..
* * ** * *
صباح اليوم الموالي لم يعد.
* * ** * *
في الأسبوع الموالي لم يعد.
* * ** * *
شرعت في البحث والسؤال..وفي كل مرة تعود إلى مقر عملك والأمل يحدوك أن تسمع خبرا عنه.ساورك قلق كبير، وداخلك شك، وموقفك صار عسيرا مع والديك.كيف تغفل عن أخيك....................................؟؟
سيكون اللوم قاسيا و حسابك شديدا..رغم كونك محترما في العائلة محبوبا لكن لن تكون أحب من آخر العنقود المفقود...
* * ** * *
قبل منتصف النهار بقليل، وأنت واجم مهموم، وقد تبعثرت أفكارك، وتشتت تركيزك، رن هاتفك المحمول..التفتت إليه متثاقلا..فقد صار أثقل عليك من سياطات الزمن..امتدت يد زميلك إليه واستأذنك في الإجابة عنك..فأذنت له..تفقد الرقم وصاح: أبشر إنه رقم أطول من المعتاد، يبدو أنه "براني"..
انتفضت من مكانك وانتزعت الهاتف من يده وأجبت..
- آلو..من؟
- لن أطيل عيك أخوك بخير.. وقد وصل إلى اسبانيا..هو ما يزال في الغابة، ولن يستطيع الدخول بعد...
- من من يتحدث..؟
- لا يهم.. صديق له..انتظر رسالة منه..مع السلامة..وانقطع الخط، ومعه أنفاسك، وخررت على الكرسي، وتسارع الجميع وأحضروا لك كوب ماء..ولما هدأ روعك قلت:
- فعلها...الله ينجيك من الساكتة إيلى تكلمت..فعلها..والله لقد فعلها..
بعد يومين تحديدا أدخل عليك الشاوش ظرفا أبيض. تسلمته ملهوفا.تأكدت من المرسل إليه: أنت طبعا، وأما المرسل فقد يكون اسمه داخل الظرف، فضضته بسرعة وطالعك خط أخيك رديئا فتذكرت رغم اللهفة أنك كنت تنصحه بأن يحسن خطه.وكان يجيب:الأهم ما تخطه اليد وليس كيف:
* * ** * *
أخي العزيز ومنك إلى الوالدين الغاليين:
لا أريدك أن تفاجأ ولا أن تنزعج ولا أن تسأل كيف حدث ولا متى حدث الذي حدث. المهم في هذا الخطاب أن تطمئن وتطمئن العائلة الكريمة وأن تكف عن الاتصال ببرامج المتغيبين.حالتي الصحية بعد أن زال تعب السفر ودوخة البحر بخير.
وبعد أن صار البحر بساطا أخضر..والسماء فضية.وبعد أن حاولت وصال هاجر وصالا شرعيا بشتى الوسائل المتاحة وبعد أن تمنعت اغتصبتها وهي الآن حامل غير أنني لا أعلم متى ستنجب عملة صعبة؟!
«والله ينجيك من الساكتة إيلى دوت»
والتفاصيل في خطاب قادم
أخوك
تفاصيل الخطاب المنتظر...
من يستطيع أن يقرأ تفاصيل خطاب جاء موصدا، مختوما بالشمع الأحمر..؟ من يقرأ تفاصيله..؟من يسأل من..كيف..؟ وإلى من المشتكى..؟
عثر عليه مطعونا في ظهره في غابة ما هناك...
الخلاصة..والحلم ببساطة...
تعرفوا عليه بواسطة نسخة من بطاقة تعريفه الوطنية كانت مطوية في الجيب الصغير لسرواله الدجين.........