بتـــــاريخ : 10/8/2008 4:55:58 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 686 0


    مبعث النبي صلى الله عليه وسلم

    الناقل : heba | العمر :43 | الكاتب الأصلى : محمد راتب النابلسى | المصدر : www.quran-radio.com

    كلمات مفتاحية  :
    فقه السيرة النبوية

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

    أيها الإخوة الكرام ، مع درس جديد من دروس فقه السيرة ، والحديث اليوم عن مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فأول بند في هذا الموضوع نسبه صلى الله عليه وسلم ، وقد حدثتكم في درس سابق أن النسب تاجٌ يتوج به أهل الحق ، أما إذا أضيف النسب إلى أهل الباطل فلا قيمة له إطلاقاً ، والدليل قوله تعالى :

     

    ( سورة المسد ) .

     

    فالذي يتعرف إلى الله ، ويستقيم على أمره ، ويحرص على مرضاته إذا كان نسبه من النوع العالي فهذا تاجٌ يتوج به ، فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو محمد بن عبد بن عبد المطلب ، بن هاشم ، بن عبد منافٍ ، بن قصي ، بن كلاب ، وينتهي نسبه إلى عدنان ، وأمه آمنة بنت وهب ، من بني زُهرة ، ويلتقي نسب أمه بنسب أبيه في كلاب بن مرة ، وقد قال الله عز وجل :

     

    ( سورة الأنعام الآية : 124 ) .

     

    هذا ينقلنا إلى موضوع دقيق ، وهو أن النبوة هبة من الله ، وفيها جانب كسبي ، بمعنى :

     

    ( سورة آل عمران ) .

     

    ويؤكد ذلك قول الله عز وجل : ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ .

    حينما يجتهد الإنسان في طلب مرضاة الله عز وجل من كرمه ، ومن كماله ، يهيئ له عملاً يتناسب مع طموحه ، والعبرة أن تطمح لعمل جليل ، فالأعمال بيده الله ، إذا أراد ربك إظهار فضله عليك خلق الفضل ، ونسبه إليك ، الله عز وجل  يوفق ، ويحفظ ، ويلهم ، ويجري الخير على يديك  بشرط أن تطلب الخير .

    " بن آدم اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء " .

    فأنت حينما تسعى في مرضاة الله ، وحينما تخطب ود الله عز وجل ، فالله يهيئ لك عملاً صالحاً ترقى به عنده ، وتسعد به إلى أبد الآبدين .

    " بن آدم كل لي كما أريد أكن لك كما تريد ، كن لي كما أريد ، ولا تعلمني بما يفرحك ، أنت تريد وأنا أريد ، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد " .

    لو أردنا أن نضع مثالاً يوضح هذه الحقيقة : لو أرادت دولة أن تعين سفيراً في بلد مهم جداً ، طبعاً تختاره من حملة الشهادات العليا ، وفي بعض الدول تشترط دراسة أدبية وعلمية وحقوقية ، وهذا من كسب الطالب ، بعد أن تختاره تمنحه صلاحيات ، وحقيبة دبلوماسية ، وتعطيه كتاباً تقدمه للدولة التي سيقوم بها ، ففي هذه الوظيفة جانب كسبي ، وجانب وهبي ، الجانب الكسبي يؤكده الله عز وجل حينما يقول : ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ ، ويؤكد الجانب الكسبي قول الله عز وجل : ِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ .

    وقد ورد في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم )) .

    وفي حديث يقول عليه الصلاة والسلام : (( بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا ، حتى كنت من القرن الذي كنت فيه )) .

    [ أخرجه البخاري عن أبي هريرة ] . 

    لذلك أكد النبي صلى الله عليه وسلم خيرية القرون الأولى ، فقال : ((خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم )) .

    [ أخرجه الشيخان ] .

     قد تقول أنت : نحن في عصور التقدم ، وفي عصور المخترعات ، وفي عصور ترويض الطبيعة لصالح الإنسان ، النبي عليه الصلاة والسلام حينما وصف قرنه بأنه خير قرن ، هذا متعلق بسعادة الإنسان الأبدية ، وقد ذكرت في درس سابق أن الدنيا إذا كانت مريحة جداً ، وكانت الدنيا عريضة ، وفيها كل ما تشتهيه الأنفس ربما كانت حجاباً بين العبد وربه ، وأن بعض الشدائد التي في ظاهرها شدائد ربما كانت معواناً للإنسان على طاعة الله       ، لذلك الآية التي ينبغي ألا تنسى ، وأن تكون ماثلة أمام أعيننا جميعاً :

     

    ( سورة البقرة ) .

     

    فخيرية قرن النبي ، والقرن الذي أتى بعده ، والذي أتى بعده خيرية متعلقة بسعادة الإنسان الأبدية ، لكن الإنسان اليوم غارق في منع حسية ، ووقته مليء بملهيات لا تنتهي ، لكن إذا جاءه ملك الموت يشعر بالخسارة التي لا تعوض :

     

    ( سورة الزمر الآية : 15 ) .

     

    النبي صلى الله عليه وسلم صفته : كان متوسط القامة ، ليس بالنحيف ، ولا بالجسيم ، عريض الصدر ، ضخم اليدين والقدمين ، مبسوط الكفين ، قليل لحم العقبين ، يحمل في أعلى كتفه اليسرى خاتم النبوة ، وهو أحسن الناس وجهاً ، وهو أبيض اللون بياضاً مزهراً   ، مستدير الوجه ، مليحه ، واسع الفم ، وطويل شق العينين ، رَجِل الشعر ، ولم يشب من شعره الأسود إلا اليسير .

    وإضافة إلى حسن خلقه ، وسلامة حواسه وأعضائه فقد كان صلى الله عليه وسلم يعتني بمظهره من النظافة وحسن الهيئة .

    أيها الإخوة ، أنت حينما تلتقي بإنسان لأول مرة ما الانطباع الذي يأخذ عنك ؟ أناقتك ، ونظافتك واعتناؤك بهندامك ، والمؤمن لا ينبغي أن يهمل مظهره ، ولا ملبسه ، فقد ورد في بعض الأحاديث : (( أن أصلحوا رحالكم ، وحسنوا لباسكم ، حتى تكونوا شامة بين الناس )) .

    [ورد في الأثر]

    لأن الإنسان في أول لقاء الانطباع يؤخذ من هندامك ، ومن مظهرك ، ومن نظافتك ، ومن رائحتك العطرة ، أما إذا تكلمت ينسى الذي يلقاك مظهرك ، وينتبه إلى كلامك ، أما إذا عاملته ينسى مظهرك وكلامك ، وينتبه إلى عملك ، فلذلك حقيقة الإنسان لا تعرف إلا إذا سافرت معه ، أو جاورته ، أو حاككته بالدرهم والدينار .

    ولكن من أجل أن تكون ممثلاً لهذا الدين العظيم سفيراً لهذا الدين الرباني ينبغي أن تعتني بمظهرك ، (( أن أصلحوا رحالكم ، وحسنوا لباسكم ، حتى تكونوا شامة بين الناس )) ، الاعتناء بالنظافة ، والاعتناء بالمظهر ، جزء من الدين .

    أما صفاته الخلقية صلى الله عليه وسلم فحدثوا ولا حرج ، الله عز وجل وصفه   بأنه :

     

    ( سورة القلم ) .

     

    والخُلق أيها الإخوة جانب كسبي في الإنسان ، الله عز وجل أعطى النبي صلى الله عليه وسلم وسائل الدعوة ، أعطاه ذاكرة ينفرد بها :

     

    ( سورة الأعلى ) .

     

    أعطاه شكلاً جميلاً ، أعطاه وجهاً مليحاً ، أعطاه فصاحة ما بعدها فصاحة ، قال : (( أنا أفصح العرب بَيد أني من قريش )) .

    [ورد في الأثر]

    أعطاه نسباً رفيعاً ، ولكن حينما أثنى عليه ، أثنى على خلقه ، تماماً كما لو أنك منحت ابنك بيتاً ، لا يعقل أن تقيم حفل تكريم لهذا البيت ، لكن تقيم له حفل تكريم إذا نال الدرجة الأولى ، فالأصل أن يثنى على الإنسان بما في كسبه ، ويقابل ذلك أنت حينما تزدري إنساناً لأن شكله لم يعجبك ، هذا اعتراض على الله عز وجل ، وزوجته عائشة رضي الله عنها قالت عن أختها صفية قصيرة ، فقال عليه الصلاة والسلام : (( لقد قلت كلمة لو مزجت بمياه البحر لأفسدته )) .

    [الترمذي]

    خطأ كبير أن تعير إنساناً يشكله ، أو بلونه ، أو بطوله ، هذا ليس من كسبه ، هذا من خلق الله عز وجل ، فكأنك تعترض على الله ، وكأنك تزدري صنعة الله عز وجل فهذا فظاظة وللجاجة لا تليق بالمؤمن .

    لذلك النبي عليه الصلاة والسلام أوتي الكمال في أفعاله ، وفي أقواله ، وفي شكله   ، وأوتي الفصاحة ، وأوتي البيان ، وهو سيد ولد آدم ، وأوتي المعجزات ، وأوتي القرآن والوحي ، وأيده الله بنصره ، ومع كل هذه الخصائص يقول الله له أنت بالذات :

     

    ( سورة آل عمران الآية : 159 ) .

     

    بربكم هذا الذي لم يؤتَ فصاحة ، ولا شكلاً جميلاًَ ، ولا وجهاً منيراً ، ولا نسباً أصيلاً ، ولم يؤتَ معجزة ، ولا وحياً ، ولا قرآناً ، وهو فظ غليظ القلب في دعوته ، لمَ ؟ سيد الخلق وحبيب الحق ، يقول الله له : ﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ ، هذا درس بليغ للدعاة من الله عز وجل .

    لكن هنا سؤال ، نحن كما تعلمون مخيرون ، الدليل :

     

    ( سورة الإنسان ) .

     

     

     

     

    ( سورة الكهف الآية : 29 ) .

     

    ( سورة الأنعام ) .

     

    الآيات تؤكد أن الإنسان مخير ، بربكم هل أنتم مخيرون في آبائكم وأمهاتك ؟ لا  أنت لست مخيراً فيما كنت ذكراً أو أنثى ، هذه واحدة ، ولست مخيراً في أمك وأبيك ، ولست مخيراً في مكان ولادتك ، ولست مخيراً في زمن ولادتك ، كونك ذكراً أو أنثى ، أو كونك ولدت في دمشق ، أو في بلد آخر ، من أب فلاني وأم فلانية ، وفي زمن معين ، هذا ليس من اختيارك ، هذا أنت فيه مسير ، ولكن حقيقة أنقلها لكم تفلج الصدر :

    الذي لم يكن في اختيارك هو أكمل شيء إليك ، لخص هذا الإمام الغزالي رحمه الله تعالى فقال : " ليس في الإمكان أبدع مما كان " ، وفسر هذا القول فقال : " ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني " .

    فاعتقد يقيناً أن الذي لست مخيراً فيه أن الذي كنت فيه مسيراً هو لصالحك مئة في المئة ، وحينما يكشف الله لك يوم القيامة عن سر هذه الأشياء التي لم تكن مخيراً بها ، ينبغي أن تذوب كالشمعة محبة لله عز وجل وامتناناً منه ، فالذي كنت به مسيراً هو لصالحك ، وليس في الإمكان أبدع مما كان .

    السيدة عائشة أم المؤمنين كانت تؤكد حينما تُسأل عن خلقه تقول : (( كان خلقه القرآن )) .

    [مسلم]

    بل إن بعضهم يقول : القرآن كون ناطق ، والكون قرآن صامت ، والنبي صلى الله عليه وسلم قرآن يمشي ، ونستنبط من هذه الأوصاف أن المؤمن لا يتأثر الناس بكلامه بل بمعاملته ، وأن دلالة الحال أبلغ من دلالة المقال ، وهذا درس للآباء والمعلمين والدعاة إلى الله عز وجل ، دلالة الحال أبلغ من دلالة المقال ، وحال واحد في ألف خير من مقالة ألف في واحد ، إذاً قوة التأثير لا تتأتى من الفصاحة ، بل تتأتى من أن هذا المتكلم صادق فيما يقول ،  ومطبق لما يقول .

    ومن أدق الآراء التي قرأتها عن أحد العلماء أن الذي يدعى إلى الله بمضمون غير متماسك ، هزيل سطحي ، أو يدعى إلى الله بأسلوب غير علمي وغير تربوي ، أو يدعى إلى الله ولا يجد مصداقية في الداعية ، هذا الإنسان الذي دعي بمضمون هش ، وبأسلوب غير علمي ولا تربوي ، ودعوى فرأى المدعو عدم المصداقية في الداعي ، هذا المدعو إلى الله في هذه الطريقة لا يعد عند الله مبلغاً ، ويقع إثم تفلته من منهج الله على من دعاه بهذه الطريقة .

    فلذلك رتبت المعاصي والآثام ترتيباً تصاعدياً ، فكان في أعلاها :

     

    ( سورة البقرة الآية : 169 ) .

     

    (( إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم )) .

    [ أخرجه الحاكم في المستدرك عن أنس ، السجزي عن أبي هريرة ] .

    (( يا ابن عمر ، دينك ، دينك ، إنما هو لحمك ودمك ، فانظر عمن تأخذ ، خذ الدين عن الذين استقاموا ، ولا تأخذ عن الذين قالوا )) .

    [مسند الفردوس]

    من خلال سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نجد تواضعاً مقترناً بالمهابة ، والقاعدة أيها الإخوة أن الفضيلة وسط بين رذيلتين ، التهور رذيلة ، والجبن رذيلة ، والشجاعة بين التهور والجبن ، البخل رذيلة ، وتبذير المال رذيلة ، والكرم بين التبذير والبخل ، فالفضيلة وسط بين طرفين .

    فيا أيها الإخوة ، سهل جداً أن تأخذ الحد الأقصى ، سهل جداً وأنت تربي أولادك أن تكون قاسياً إلى أبعد الحدود ، تضربهم ضرباً مبرحاً ، وسهل جداً أن تسيبهم ، ولكن البطولة أن يحبك أولادك إلى درجة عالية جداً ، وأن يهابوك أيضاً لدرجة عالية جداً ، هذا هو المنهج الوسطي والإسلام وسطي .

    فلذلك كان عليه الصلاة والسلام متواضعاً مع المهابة ، إنسان يتواضع مع الذل ، ارفع رأسك ، متى أمّتَّ علينا ديننا .

     

    ( سورة الشورى ) .

     

    أحياناً يتطرف المؤمن متهماً أنه متواضع ، فإذا هو ذليل ، فالمتكبر على المتكبر صدقة ، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه قبيل المعركة يتبختر أمام الأعداء فقال عليه الصلاة والسلام : (( إن الله يكره هذه المشية إلا في هذا الموطن )) .

    أي الطرف الآخر قوة لا تره ضعفاً ، فقد قرن تواضعه بالمهابة ، وقرن حياءه بالشجاعة ، في شجاعة ، وفي وقاحة ، وفي خجل ، والخجل مرض نفسي ، والوقاحة غلظة خلقية ، وبينهما الحياء والشجاعة ، والحياء من علامة الإيمان ، الإيمان والحياء قرنا جميعاً ، فإذا نزع أحدهما نزع الآخر ، فكان عليه الصلاة والسلام أشد حياء من العذراء في خدرها  ، وقد رأى رجلاً استأجره يغتسل أمام الناس عرياناً ، فقال له : خذ أجارتك لا حاجة لنا بك ، إنك لا تستحي من الله .

    لذلك علامة الإيمان الحياء ، الإيمان : (( الإيمان بضع وسبعون شعبة : فأفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان )) .

    [ أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة ] .

    لكن هناك فرق بين الحياء والخجل ، الخجل أن تستحي أن تطلب حقك ، الخجل أن تستحي أن تنصح أحداً ، الخجل أن تستحي أن تقول لا ، حينما تؤمر بمعصية ، ففي حياة المؤمن كلمة لا ، لا ورب الكعبة ، فالذي يؤكد شخصيتك أحياناً كلمة لا ، لا كلمة نعم .

    فكان عليه الصلاة والسلام متواضعاً مع المهابة ، ومن أدق صفاته أنه من رأى بديهة هابه ، ومن عامله أحبه ، له هيبة .

    دخل عليه رجل فأصابته رعدة ، قال : (( هَوِّنْ عَلَيْك ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ )) .

    [ رواه ابن ماجة عن أبي مسعود ] .

    لذلك المؤمن له هيبة أما إذا عاملته أحببته ، وكان كريماً وصادقاً في كرمه ، بعيداً عن حب الظهور ، الإنسان أحياناً تذل قدمه من الكرم إلى حب الظهور ، بقدم لك مالاً ليسهم ببناء مسجد ، ولكنه يشترط لوحة رخامية يكتب فيها أنشأ هذه المئذنة المحسن الكبير ، وقد علمت أن محسناً كبيراً في بعض البلاد الإسلامية قدم رقمًا فلكيًّا للدعوة ، ولتعليم طلاب العلم ، الرقم فلكي ، فسمع أحد الزائرين عن هذا المحسن ، وعن هذا الرقم ، فتمنى أن يراه ، فدعي هذا المحسن إلى الطعام ، ودعي الضيف معه ليلتقيا ، فجاء الضيف ، ولم يأتٍ المحسن ، قال : أين ضيفنا ؟ قال : هو إلى جانبك ، من شدة تواضعه ما عرفه ، الإنسان أحيانا يدفع مبلغاً محدوداً جداً يجب أن يملئ الدنيا ضجيجاً بهذا المبلغ .

    إذاً كان كريماً عليه الصلاة والسلام ، ولكنه كان بعيداً عن حب الظهور .

    إخوتنا الكرام ، علامة إخلاصك أن عملك لا يزداد بالثناء ، ولا يضعف بالذم ، إلهي أنت مقصودي ، ورضاك مطلوبي ، والإنسان حينما تذل قدمه إلى استجداء المديح تضعف مكانته ، الإنسان إذا ضعف إخلاصه علق الأمل على المديح ، فإن شح المديح استشار من حوله ، كيف وجدت الطعام ، أعجبك الطعام ، هو يستثيره كي يمدح هذه الوليمة ، كيف وجدت هذا البيت ؟ كيف وجدت هذا الأثاث ؟ كيف وجدت هذا الدرس ؟ يستثيرك كي تمدحه ، هذه حالة مرضية اسمها استجداء المديح ، لذلك الإخلاص من لوازمه أنك لا تعلق أهمية لا على المادحين ، ولا على القادحين ، لأنك تبتغي وجه الله عز وجل ، هذه علامة من علامات الإخلاص .

    وعلامة ثانية : أن المخلص لا يزداد عمله أمام الناس ، ولا يقل في خلوته ، خلوته كجلوته ، وظاهره كباطنه ، وعلانيته كسريته ، ومع الناس كخلوته أيضاً ، وكان أميناً بأوسع معاني هذه الكلمة .

    لذلك أيها الإخوة قريش تهاجمه ، وترد دعوته ، وتسفل دينه ، وتقدح في رسالته وأموالها عنده ، وحينما أراد النبي أن يهاجر ترك ابن عمه في مكانه ليرد الودائع إلى أصحابها ، وأصحابها مشركين ، فما بال هؤلاء المسلمين اليوم إذا ذهب إلى بلاد الغرب يشتر ببطاقة الائتمان بآلاف الدولارات ، ويظن أن هذه غنيمة من حقه أن يأكلها ، هذا سوء فهم هؤلاء الذين أودعوا عند النبي مالاً أليسوا مشركون ؟ لمَ لم يقل هؤلاء المشركون : وهذا المال لنا ؟ أبقى ابن عمه ، ووضعه تحت خطر القتل من أجل رد الودائع لأصحابها ، وما لم تكن مستقيماً مع كل الناس لا يقبلك الله عز وجل ، وقد قال الله عز وجل :

     

    ( سورة المائدة الآية : 8 ) .

     

    مع هؤلاء الذين تكرهونهم .

     

    ( سورة المائدة الآية : 8 ) .

     

    ما لم تكن محسناً مع الآخرين ، مع البعيدين ، مع الشاردين ، لن يظهر دينك على أنه دين الله عز وجل .

    وكان صادقاً في القول والعمل .

    ((وإن الصدق يهدي إلى البر ... )) .

    [ متفق عليه ] .

    هناك صدق في القول ، وصدق في العمل ، صدق القول أن يكون مطابقاً للواقع  ، أما صدق العمل فأن يأتي العمل مطابقاً لما تدعي .

    وكان زاهداً في الدنيا عند إقبالها ، لمن هذا الوادي يا رسول الله ، قال : هو لك ، قال : أشهد أنك رسول الله تعطي عطاء من لا يخشى الفقر .

    بالمناسبة أيها الإخوة ، لماذا نحن ندرس سيرة النبي عليه الصلاة والسلام ؟ لأن دراسة سيرة النبي فرض عين على كل مسلم ، دققوا فرض عين على كل مسلم ، لماذا ؟ لأن الله يقول :

     

     

    ( سورة الأحزاب ) .

     

    كيف يكون النبي أسوة لنا ؟ إن لم نعرف سيرته في بيته ، مع زوجته ، مع أولاده  مع أقربائه ، مع أصحابه ، في سلمه ، في حربه ، في غناه ، في فقره ، إذاً هو أسوة لنا ، أذاقه الله الفقر ،دخل بيته ، وسأل أهله : ((أعندكم شيء ؟ قالوا : لا ، قال : فإني صائم )) .

    أحياناً المسلم يتأخر الطعام يقيم الدنيا ويقعدها ، ويغضب ، ويزمجر ، ويكسر  ويعلو صياحه في البيت إذا تأخر الطعام ، (( أعندكم شيء ؟ قالوا لا ، قال فإني صائم )) .

    فلما أصاب الغنائم الكثيرة ، لمن هذا الوادي ؟ قال : هو لك ، قال : أتهزأ بي ؟ قال : لا والله ، قال : أشهد أنك رسول الله تعطي عطاء من لا يخشى الفقر .

    أذاقه الله النصر ، فدخل مكة مطأطأ رأسه حتى كادت عمامته تلامس عنق بعيره تواضعاً لله ، ((  ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا : خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم ، فقال: أقول كما قال أخي يوسف : {لا تثريب عليكم اليوم} : اذهبوا فأنتم الطلقاء )) .

    [السيرة النبوية]

    وذاق القهر في الطائف فدعا دعاءً يحتاجه المسلمون اليوم ، ((  اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، إلى من تكلني ؟ إلى عدو يتجهمني ، أم إلى قريب ملكته أمري ؟ إن لم تكن ساخطا علي فلا أبالي ، غير أن عافيتك أوسع لي )) .

    [ أخرجه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن جعفر ] .                                                                                                                                        

    أذاقه الله موت الولد : (( " إن العين لتدمع ، والقلب ليخشع ، ولا نقول إلا ما يرضي الرب ، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون )) .

    [البخاري]

    أذاقه الله تطليق بنتيه ، أذاقه الله أن تتهم زوجته بأثمن ما تملك امرأة ، وتأخر الوحي أربعين يوماً ، لو أن الوحي بيد رسول الله لجاءت آية التبرئة بعد ساعة ، لكن أراد الله أن يتأخر الوحي بتبرئة السيدة عائشة أربعين يوماً ، إذاً الوحي لا يملكه النبي لا رداً ولا استدعاء .

    شيء آخر ، لما جاءت آية تبرئة السيدة عائشة فقال أبو بكر لابنته : قومي فاشكري رسول الله ، قالت : والله لا أقوم إلا لله ، فتبسم النبي عليه الصلاة والسلام وقال : عرفت الفضل لأهله .

    علمنا التوحيد أيضاً عليه الصلاة والسلام ، وكان عليه الصلاة والسلام قد زهد في الدنيا عند إقبالها ، ولم يتضعضع عند إدبارها ، الآن معظم المؤمنين هداهم الله إلى ما هو أفضل ما داموا في بحبوحة ، وفي نعيم ، وفي صحة جيدة ، وفي دخل وفير شاكرون حامدون ، فإذا امتحنهم الله بشيء تضعضعوا ، وضعفت ثقتهم بالله عز وجل ، والبطولة أن تنجح بالامتحان .

    سئل الإمام الشافعي رضي الله عنه : أندعو الله بالتمكين أم بالابتلاء ؟ فقال : لن تمكن قبل أن تبتلى .

    وأنا أؤكد لكم أنه يستحيل أن تصل إلى الجنة من دون ابتلاء ، لقوله تعالى :

     

    ( سورة المؤمنون ) .

     

     

    ( سورة العنكبوت ) .

     

    أيها الإخوة ، نحن ممتحنون بمادتين بالذي أعطانا ، وبالذي زوي عنا ، ممتحن بالصحة ، ممتحن بالمرض ، ممتحن بالغنى ، ممتحن بالفقر ، ممتحن بالقوة ، ممتحن بالضعف ، ممتحن بالوسامة ، ممتحن بالدمامة ، ممتحن بطلاقة اللسان ، ممتحن بعي اللسان ، من هنا يأتي الدعاء الرائع : ((اللهم وما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب ، اللهم وما زويت عني مما أحب فاجعله فراغا لي فيما تحب )) .

    [ أخرجه الترمذي عن عبد الله بن يزيد الخطمي ] .

    وكان عليه الصلاة والسلام في أعلى درجات الإخلاص ، والإخلاص أيها الإخوة ينفع مع قليل العمل ، وعدم الإخلاص لا ينفع لا مع قليل العمل ولا مع كثيره .

    ((يا رب تعلمت العلم ، يقال له يوم القيامة كذبت ، تعلمت العلم ليقال عالم وقد قيل خذوه إلى النار ، يا رب قاتلت في سبيلك ، يقال له كذبت ، قاتلت ليقال عنك شجاع وقد قيل خذوه إلى النار )) .

    [أحمد]

     لذلك ينبغي أن نرعى قلوبنا ، وأن نهتم بنوايانا ، فالنية الطيبة ، أساس قبول العمل لقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث المتواتر : ((إنما الأعمال بالنيات )) .

    [ متفق عليه عن عمر ]

    وكان فوق كل هذا فصيح اللسان ، وقد يقال جمال الرجل فصاحته ، والفصاحة أيها الإخوة ككأس من الماء ، المعاني مضمون هذا الكأس ، والفصاحة شكل هذا الكأس ، فأنت لا تقبل على شراب نفيس بكأس لا يليق ، كما أنك لا ترضى أن تشرب شراباً خسيساً بكأس نفيس ، فلا بد من أن يجتمع المضمون مع الشكل ، والمؤمن له شكل مقبول ، فصيح اللسان وقد قال سيدنا عمر : تعلموا العربية فإنها من الدين ، الإنسان الضعيف في اللغة مشكلته كبيرة جداً .

    أراد أحدهم أن يتغنى بقول أحد الصحابة فقال :

    ولست أبالي حين أَقتل مسلماً       على أي جنب ألقى في الله مصرعي

    إلى النار ، حركة واحد نقلته من الجنة إلى النار ، أصل البيت :

    ولست أبالي حين أُقتل مسلما       على أي جنب ألقى في الله مصرعي

    فقال : ولست أبالي حين أَقتل مسلماً ، الذي يقتل مسلماً خالد مخلد في النار إلى أبد الآبدين ، إذاً تعلموا العربية فإنها من الدين ، ولغتنا دقيقة جداً أيها الإخوة ، عندنا في اللغة نظر لها معنى ، لاح لها معنى ، لاح شيء ظهر واختفى ، أما لمح نظرت وأعرضت فرق كبير بين لاح ولمح ، نظر شجراً ؛ نظر مع الاحتقار ، شخص ؛ مع الخوف ، رمى ؛ مع المحبة ، حدج ؛ مع السعادة ، حدث القوم ؛ ما حدجوك بأبصارهم ، استشرف ؛ مع التمطي استشف ؛ مع حركة اليدين ، بحلق وحملق ؛ ظهر حملاق عينه ، وحدق ؛ اتسعت حدقة عينه نظر شذراً ، ولاح ، ولمح ، واستشف ، واستشف ، وتمطى ، وشخص ، ورمى ، وحدج ونظر ، ورأى هذه اللغة اختارها الله لتكون لغة كلامه .

     

    ( سورة الشعراء ) .

     

    وتعلموا العربية فإنها من الدين ، أنا لست متشائماً لكن لا أصدق طالباً جامعياً يحمل لسانسا نكلفه أن يقرأ صفحة من كتاب الله دون أن يخطئ عشرات الأخطاء ، أخطاء كثيرة جداً ، يخطئ ، هذه وصمة عار في حق المسلم ، تعلموا العربية فإنها من الدين ، كان عليه الصلاة والسلام فصيحاً ويقول ((أنا أفصح العرب بَيد أني من قريش )) ، وقريش أفصح قبيلة في العرب ، هذا أسلوب اسمه تأكيد المدح بما يشبه الذم .

    ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم        بهن فلول من قراع الكتائب

    فكان صلى الله عليه وسلم فصيح اللسان ، ثابت الجنان ، في حنين قال : (( أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب )) .

    [ متفق عليه ] .

    وكانت معركة حنين فاصلة ، فأسك تراباً وذره في عيون القوم وقال : (( أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب )) ، وقد قال سيدنا علي رضي الله عنه : كنا إذا حمي الوطيس لذنا برسول الله ، فلم يكن أحد أقرب إلى العدو منه .

    وكان عليه الصلاة والسلام قوياً في عقله وحسن فهمه .

    وكان عليه الصلاة والسلام رحمةً للكبير والصغير ، لين الجانب ، رقيق المشاعر  يحب الصفح والعفو عن المسيء .

    معقول حاطب بن بلتعة ارتكب خيانة عظمى ، كتب كتاباً إلى قريش إن محمداً سيغزوكم فخذوا حذركم ، في كل نظام العالم جزاء الخيانة العظمى الإعدام ، فجاء عمر ، وقال : يا رسول الله ، دعني أضرب عنق هذا المنافق ، قال : لا يا عمر ، إنه شهد بدراً ، لم يهدر عمله السابق ، تعال إلي يا حاطب ، ما حملك على ما قلت ؟ قال : والله يا رسول الله ، ما كفرت ولا ارتدت ، لكن كنت لصيقاً في قريش ، فأردت في هذا الكتاب أن أحفظ مالي وأولادي ، وأن واثق أن الله سينصرك ، فاغفر لي ذلك ، فقال عليه الصلاة والسلام : إني صدقته فصدقوه ، ولا تقولوا في إلا خيراً ، فكان يحب العفو والصفح عن المسيء .

    جاء عكرمة مسلماً ، من عكرمة ؟ ابن أبي جهل ، ألد أعداء رسول الله ، تفنن عشرين عاماً للنيل من رسول الله قال عليه الصلاة والسلام : ((يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا فلا تسبوا أباه ، فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت )) .

    [ رواه الواقدي وابن سعد وابن عساكر - عن عبد الله بن الزبير)

    وكان عليه الصلاة والسلام صابراً في مواطن الشدة ، وكان جريئاً في قول الحق .

    وفي درس آخر إن شاء الله نتابع فقه سيرته صلى الله عليه وسلم ، ونحاول أن نستنبط منها الدروس والعبر التي تنفعنا في حياتنا ، لأن هذا النبي الكريم جعله الله أسوة لنا ، ومن لوازم أن يكون أسوة لنا أن نتعرف إلى سيرته ليكون الشخصية التي نمشي على طريقها .

    والحمد لله رب العالمين

    كلمات مفتاحية  :
    فقه السيرة النبوية

    تعليقات الزوار ()