بتـــــاريخ : 10/8/2008 6:58:54 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1343 0


    بيعة العقبة الثانية ، الوضوح أساس النجاح

    الناقل : heba | العمر :43 | الكاتب الأصلى : محمد راتب النابلسى | المصدر : www.quran-radio.com

    كلمات مفتاحية  :
    فقه السيرة النبوية

    بسم الله الرحمن الرحيم

     

    الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات   القربات .
     

    بيعة العقبة الثانية : دلالاتها

    الحياة دون عمل صالح وقت ضائع وعيش تافه

     

    أيها الإخوة الكرام ، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية ، والموضوع اليوم بيعة العقبة الثانية ، ولكن قبل أن نبدأ في الحديث عن هذه البيعة يمكن أن نقول : إن الإنسان حينما يسمح الله له أن يكون علَماً من أعلام الدعوة ، أو حينما يكون جندياً من جنود الحق ، أو حينما يكون أداة للخير ، فهذا أعظم عطاء لله عز وجل .

    (( أنا خلقت الخير والشر ، فطوبى لمن قدرت على يده الخير ، وويل لمن قدرت على يده الشر )) .

    [ رواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس ] .

    إن هذا الإسلام العظيم الذي انتشر في الخافقين ، والذي يعد المسلمون اليوم مليارًا وثلاثمئة مليون ، بداية هذا الدين من بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية ، فالذين كانوا في هذه البيعة أو في تلك هم أعلام الأمة ، فما لم يكن لك دور في بناء هذا الدين ، أو في نشر هذا الحق فحياة الإنسان عندئذٍ تافهة لا معنى لها ، ولو كان غنياً ، ولو كان قوياً ، لأن الموت ينهي كل شيء ، ينهي قوة القوي ، وضعف الضعيف ، وغنى الغني ، وفقر الفقير ، وصحة الصحيح ، ومرض المريض ، ووسامة الوسيم ، ودمامة الدميم .

    إنّ الله عز وجل أعطى المال لمن لا يحب ولمن يحب ، أعطاه لقارون ، وهو لا يحبه ، أعطاه لسيدنا عثمان ، وهو يحبه ، إذاً ليس المال مقياساً ، أعطى المُلك لمن يحب ، ولمن لا يحب ، أعطاه لفرعون وهو لا يحبه ، إذاً ليس الملك مقياساً ، لكن كما قال الله عز وجل :

    ( سورة يوسف ) .

    فإذا كان نصيبك من الله علم وحكمة فهذا من نوع عطاء الله لأنبيائه ولأحبابه ولأوليائه ، فانظر ما العطاء الذي خصك الله به .

    أيها الإخوة ، حديث شريف يقصم الظهر ، يقول عليه الصلاة والسلام :

    (( بَادِرُوا بالأَعْمَالِ سَبْعاً ، هَلْ تُنْظَرُونَ إِلاّ إِلّا فَقْرًا مُنْسيًا ، أَوْ غِنًى مُطغيًا ، أَوْ مَرَضًا مُفْسِداً ، أَوْ هَرَمًا مُفْنِدًا ، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا ، أَوْ الدّجّال ، فَشَرّ غَائِبٌ يُنْتَظَرُ ، أَوْ السّاعَةِ ؟ فالسّاعةُ أَدْهَى وَأَمَرّ )) .

    [الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ] .

    هذا الكلام أيها الإخوة أسوقه لكم لنعلم علم اليقين أن حياة من دون عمل صالح حياة تافهة ، والذي يقدم على الله من دون عمل صالح لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا ، بل له عند الله صغار ، لأنه أمضى حياته في مصالحه وشهواته ونزواته ، لذلك لما قرأت عن بيعة العقبة الثانية وجدت هؤلاء الذين حضروها هم عماد هذا الدين ، كلٌّ ركنٌ ركين .
     
    حيثيات بيعة العقبة الثانية ومعانيها

    أيها الإخوة ، في العام التالي الذي تلا بيعة العقبة الأولى قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم من مسلمي الأوس والخزرج 73 رجلاً وامرأتان ، وترون أن النساء كن في البيعة الأولى وفي بيعة العقبة الثانية ، فالمرأة كما هو ثابت مساوية للرجل في التكليف والتشريف والمسؤولية  وهي شبه الرجل عند الله ، لكن للمرأة خصائص ، وللرجل خصائص ، وخصائص كل منهما كمال مطلق للمهمة التي أنيطت بهما .

    فبايعوه بيعة العقبة الثانية ، وقد بينت لكم في اللقاء السابق أن الحياة الدنيا دار تكليف ، لا دار تشريف ، ودار عمل لا دار أمل ، ودار دفع ثمن الآخرة ، فلذلك هذه البيعة التي بايع بها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نبيهم من نوع بيع النفس .

    ( سورة التوبة الآية : 111 ) .

    المؤمن باع نفسه لله ، أعطى من ماله ، أعطى من وقته ، أعطى من جهده ، أعطى من خبرته ، أعطى من صحته ، من أجل أن يسعد في الدار الآخرة إلى أبد الآبدين .

    إذاً : بايعوه أن يمنعوه إذا قدم عليهم ، الآن هناك تفاصيل ، إذا قدم عليهم ، وهاجر إليهم بايعوه ، أي منعوه مما يمنعون منه نسائهم وأبناءهم وأنفسهم .

    الجماعة المؤمنة رحمة والفرقة عذاب

    إن المؤمن يعيش في جماعة ، ومن نظلم الجماعة أن الكل للواحد ، والواحد للكل ، وأنتم قد لا تشعرون بقيمة الجماعة ، لأن انتماء الإنسان في هذا الأيام إلى نفسه ، همه بيته فقط ، همه أولاده ، همه دخله ، لا يهتم بشأن المسلمين ، وكلما نمت روح الجماعة في مجتمع ما ، كان هذا المجتمع أقوى وكان أقرب إلى الله ، لأن الله عز وجل يقول :

    (( يدُ اللهِ مع الجماعة )) .

    [ رواه الترمذي عن ابن عباس ] .

    وفي رواية :

    (( يد الله مع على الجماعة من شذ شذ في النار )) .

    [ رواه الحاكم عن ابن عمر ] .

    (( عَلَيْكُمْ بِالْجَماعَةِ ، وَإِيّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ ، فَإِنّ الشّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ    أَبْعَدُ )) .

    [رواه أحمد في مسنده والترمذي والحاكم في المستدرك عن عمر ] .

    (( فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية )) .

    [رَوَاهُ أبُو دَاوُد عن أبي الدرداء ] .

    فوعدوه على أن يمنعوه إذا قدم عليهم مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأنفسهم   ، وهذه البيعة هي نقطة التحول الكبرى في تاريخ الدعوة ، حيث أصبح للإسلام دار يمكن أن يتخذ قاعدة للانتشار ، وهو ما حصل بالفعل ، فأذن النبي صلى الله عليه وسلم  لأصحابه بالهجرة إلى المدينة .

    بيعة العقبة الثانية تحوُّلٌ كبير في الدعوة إلى الله

     

    إخوتنا الكرام ، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم في مكة المكرمة مُنعوا أن يجابهوا أحداً :

    ( سورة النساء الآية : 77 ) .

    لم يكن هناك إذن في مكة المكرمة أن يجابه المسلمون أحداً ، مع أن قريشاً بالغت في التنكيل بهم ، وفي تعذيبهم ، وفي مقاطعتهم ، وبأعمال لا تحصَى ، ومع ذلك التوجيه القرآني ، وتوجيه النبي عليه الصلاة والسلام يمنع أن تكون هناك مواجهة بين المسلمين في مكة ، وبين أعدائه ، وقد يسأل أحدكم : لماذا ؟ لأن البيت الواحد فيه مسلم ، وفيه مشرك      ، فلو سُمح بالمواجهة لكانت حرباً أهلية ، المسلمون في مكة ليس لهم كيان ، مؤمنون متفرقون يجمعهم النبي عليه الصلاة والسلام ، لكن ليس لهم كيان ، لذلك كانت بيعة العقبة تحولاً كبيراً في الدعوة إلى الله ، صار هناك مكان يضم المسلمين ، ثم صار هناك كيان ، ثم صار هناك مجتمع ، وعلى رأس هذا المجتمع رسول الله ، عندئذٍ لما كان هناك كيان مستقل له قيادة مؤمنة ، قال تعالى :

    ( سورة الحج ) .

    لذلك هذه البيعة كما قلت قبل قليل : كانت نقطة تحول كبرى في تاريخ الدعوة ، حيث أصبح للإسلام داراً يمكن أن يتخذ قاعدة للانتشار ، وهو ما حصل بالفعل ، فأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة .
    تفاصيل بيعة العقبة الثانية ومعانيها

    الآن يحدثنا الصحابي الجليل كعب بن مالك الأنصاري عن تفاصيل بيعة العقبة الثانية فيقول :

     خرجنا إلى الحج ، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يعني تواعدنا معه ـ بالعقبة من أوسط أيام التشريق .

    اليوم الأول من أيام عيد الأضحى المبارك في يوم النحر ، والأيام الثلاثة اسمها أيام التشريق ، فهذه البيعة كانت في أوسط أيام التشريق ، فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا ، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين ـ الإسلام ضعيف ، سيد الخلق لن يستطع أن يعدهم في وضح النهار ، بعد ثلث الليل ، وخرجوا متخفين ـ حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن 73 رجلاً ، ومعنا امرأتان من نسائنا ، فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    مَن لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة

    إنّ الأمر في البدايات صعب ، لكن من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة ، وقد تدخل على إنسان حصل علماً عالياً ، ودرس 44 سنة ، ولم ينم الليل ، ولم يعرف طعم الحياة ، بعد هذه الدرجة العلمية العالية جداً قد يأتيه دخل كبير ، وقد يحظى باحترام كبير ، هذه المكانة وهذا الدخل من هذه السنوات الطويلة التي أمضاها في طاعة الله ، فمن لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة ، حتى جاءنا النبي صلى الله عليه وسلم ، معه العباس بن عبد المطلب ، وهو يومئذٍ على دين قومه .

    أثر القرابة وشأنها في الدعوة

    كما ترون علاقات القرابة لها شان كبير في الدعوة ، لذلك قال تعالى :

    ( سورة الشعراء ) .

    وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب ، وهو يومئذٍ على دين قومه ، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ، وأن يتوثق له ، فلما جلس كان أول المتكلمين العباس بن عبد المطلب ، فقال : يا معشر الخزرج ـ وكانت العرب إنما يسمون الحي من الأنصار الخزرج ـ قال : يا معشر الخزرج ، إن محمداً منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ، منعنا محمداً من قومنا ، ممن هو على مثل رأينا فيه ، فهو في عز في قومه ، ومنعة في بلاده ، وإنه قد أبى إلا الانحياز لكم ، واللحاق لكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ، ممن خالفه فأنتم ، وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه ، وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه .

    الوضوح والبيان في بداية الدعوة والعمل

    هذا يعلمنا أنك أيها الأخ في كل أعمالك كن واضحاً ، كن واضحاً في البداية   ، وضح كل شيء ، وبيّن كل شيء ، واستفهم عن كل شيء ، كلما كان الأمر واضحاً في البداية كان ناجحاً في النهاية ، لذلك أكثر المشكلات التي تتفاقم بين المسلمين ، لأن البداية ليست واضحة ، لذلك قيل : " الجهالة في الإِسقاط لا تفضي إلى المنازعة " .

    فالعباس بن عبد المطلب قال كلاماً دقيقاً ، قال : يا معشر الخزرج ، إن محمداً منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ، ممن هو على مثل رأينا فيه ، فهو في عز في قومه ومنعة في بلده ، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم ، واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنكم واقون له لما دعوتموه إليه ، مانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه ، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده .

    مرة ثانية : في عقد الزواج وضح كل شيء ، في عقد الشراكة وضح كل شيء ، في عقد البيع وضح كل شيء ، في أي اتفاق ، أو أي بيع ، أو أي شراء ، أو أي عمل ، كن واضحاً في البداية تسترح في النهاية .

    فقلنا له : لقد سمعنا ما قلت ، فتكلم يا رسول الله ، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت .

    قضية أن تكون خادماً للحق ، أن تكون جندياً للحق ، أن تكون جندياً للحق ، أن تسخر إمكاناتك للحق ، أن تسخر وجاهتك للحق ، هذا مقام كبير عند الله ، الآية الكريمة التي خاطب الله سيدنا موسى عليه السلام :

    ( سورة طه ) .

    أنت لي ، قال : فلتكلم النبي عليه الصلاة والسلام فتلا القرآن ، ودعا إلى الله     ، ورغب في الإسلام ، ثم قال : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ، فقد دخل النبي عليه الصلاة والسلام في حلف معهم ، يمنعونه من خصومه كما يمنعون نساءهم وأبناءهم ، فأخذ البراء بن معرور بيده ، ثم قال : نعم والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعك مما نمنع منه أزواجنا ، فبايعنا يا رسول الله ، فنحن والله أبناء الحروب ، وأهل الحلق ، ورثناها كابراً عن كابر ، قال : فاعترض القول ، والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إننا بيننا وبين الرجال حبالاً ، إن بيننا وبين الرجال ـ أي اليهود الذين كانوا في المدينة ـ حبالاً وإنا قاطعوها ، ـ يعني اليهود ـ فهل عفيت إن نحن فعلنا ذلك ، أيْ قطعنا علاقاتنا مع اليهود ، وانضممنا إليك ، فعل عفيت إن نحن فعلنا ذلك ، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك ، وتدعنا ، هل يمكن هذا ؟!

    أرأيتم إلى هذه الصراحة ، وإلى هذه الجرأة ، وإلى هذا الأدب ، وإلى هذا الاستفهام وإلى ذاك التوضيح ؟

    مرة ثانية : إن تسعين بالمئة من مشكلات الزوجين ناتجة عن الجهالة ، وعدم التوضيح والمخادعة ، كن واضحاً إذا خطبت امرأة ، كن واضحاً إذا شاركت إنساناً .

    إن أيّ كلام فيه جهالة ، ضبابي ، في تعمية ، في مخاتلة تتفجر بعده الأحداث ، هنا العباس بن عبد المطلب قال : هو في عز ومنعة ، فإذا انحاز إليكم فهل أنتم مانعوه مما تمنعون منه نساءكم وأولادكم ؟ من الآن قولوا ، وهذا الأنصاري بالمقابل قال : يا رسول ، الله إن بيننا وبين القوم حبالاً ، ونحن قاطعوها ، فهل عسيت إن أظهرك الله ، ونصرك أن تدعنا ، وأن تتركنا إليهم ؟ فقال عليه الصلاة والسلام ، وهو سيد الأوفياء ، وسيد الأسخياء ، وما عرف التاريخ أوفى من رسول الله ، قال :

    (( بل الدم الدّم ، والهدم الهدم ، أنتم مني ، وأنا منكم ، أحارب من حاربتم ، وأسالم من سالمتم )) .  


    قصة : عبرة وموعظة

    لذلك جاءت الأنصار عقب معركة حنين ، حين أعطى النبي صلى الله عليه وسلم حديثي العهد بالإسلام الغنائم ، بل معظم الغنائم ، ولم يعطِ الأنصار شيئاً  ، فوجدوا عليه في أنفسهم ، وخافوا أنه إذا انتصر ، وأظهره الله أن يعود إلى مكة ، ولا يبقَى معهم ، فجاءه سيد الأنصار سعد بن عبادة ، قال : (( يا رسول الله ، إن قومي وجدوا عليك في أنفسهم من أجل هذا الفيء الذي وزعته ، ولم يأخذ منه الأنصار شيئاً ، فقال : أين أنت يا سعد ؟ فقال سعد : ما أنا إلا من قومي ، فقال : اجمع لي قومك ، فجمع له الأنصار ، وألقى كلمة تكتب بماء الذهب ، قال :

    يا معشر الأنصار ، مقالة بلغتني عنكم ، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم ، من أجل لعاعة تألفت بها قوم ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم ، يا معشر الأنصار ، مقالة إن قلتموها صدقكم الناس ، أما إنكم إن شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم به : أتيتنا مكذباً فصدقناك ، وطريداً فآويناك ، وعائلاً فأغنيناك )) .

    [السيرة النبوية بسند صحيح]

    أرأيت إلى هذا الوفاء ؟ وهو في قمة نجاحه ، وقد دانت له الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها .

    (( يا معشر الأنصار ، ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي ، ألم تكونوا عالة فأغناكم الله  ألم تكونوا أعداء فألف بين قلوبكم ، يا معشر الأنصار ، أوجدتم علي في أنفسكم من أجل لعاعة تألفت بها قوماً حتى يسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم ، يا معشر الأنصار ، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا أنتم برسول الله إلى رحالكم ؟ قال : فبكوا حتى أخضلوا لحاهم ، وقالوا : رضينا برسول الله قسماً وحظا )) .

    أيها الإخوة ، هذه القصة أين مكانها في السيرة ؟ مع وفاءه أم مع رحمته ؟ أم مع تواضعه ؟ أم مع وضوحه ؟ أم مع حنكته في القيادة ؟ طوق الحادثة ، وامتص النقمة ، وأعلن عن وفائه للأنصار ، وفي رواية أخرى :

    ((بل المحيى محياكم ، والممات مماتكم )) .

    ((ولو سلك الأنصار شعباً ، وسلك الناس شعباً لسلكت شعب الأنصار ، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار )).

    أنا لا أصدق أن في العالم كله إنسان أوفى من رسول الله ، قال : (( بل الدم الدم ، والهدم الهدم ، أنتم مني ، وأنا منكم ، أحارب من حاربتم ، وأسالم من سالمتم )) .

    قال كعب ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

    (( أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا ليكونوا على قومهم بما فيهم ، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا ، منهم تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس )) .

    هؤلاء النقباء هم نخبة ، هؤلاء الذين بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام ، وبعد هذه البيعة قام العباس بن عبادة فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : والله الذي بعثك بالحق ، إن شئت لنميلن على أهل مِنى غداً بأسيافنا ، نحارب معك غداً ، فقال عليه الصلاة والسلام : لم نؤمر بهذا .

    كما قلت قبل قليل : هناك توجيه رباني ألا يواجه المسلمون أحداً في مكة ، فقال عليه الصلاة والسلام : لم نؤمر بذلك ، ولكن ارجعوا إلى رحالكم ، فرجعوا إلى رحالهم .

    وفي صباح اليوم التالي ـ الآن دققوا ـ في صباح اليوم التالي جاءهم جمع من كبار رجال قريش يسألونهم عما بلغهم من بيعتهم النبي صلى الله عليه وسلم ودعوتهم له بالهجرة ، هم سألوا عامة أهل الخزرج ، فقال المشركون : وحلفوا بالله بأنهم لم يفعلوا كذلك ، هم سألوا أناساً ما حضروا بيعة العقبة ، فأسموا بالله أنهم ما فعلوا كذلك ، أرأيت إلى قول الله عز وجل  :

    ( سورة الحج الآية : 38 ) .

    ((ما من عبد يعتصم بي دون خلقي أعرف لك من نيته فتكيده السماوات بمن فيها إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا ، وما من عبد يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماء بين يديه ، وأرسخت الهوى من تحت قدميه )) .

    [ أخرجه ابن عساكر عن كعب بن مالك ] .

    فحلفوا أنهم لم يفعلوا ذلك ، مرة النبي أرسل سيدنا حذيفة في معركة ، وكان البرد شديداً ، والجوع أشد ، والقلق أشد وأشد ، فأمره النبي أن ينطلق إلى معسكر العدو ، وأن يجلس بينهم ليستمع إلى أخبارهم ، وماذا يزمعون أن يفعلوا ، فجلس ، فقال أبو سفيان : لعل فيكم غريباً ، ليتفقد كل منكم صاحبه ، فسيدنا حذيفة بتوفيق الله عز وجل بادر ، وأسرع إلى من على جنبه ، قال له : من أنت ؟ هو المطلوب ، قال له : من أنت ؟ فأجابه .

    إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ أحياناً الله عز وجل يحمي دعوة كبيرة جداً بشيء بسيط جداً ، هذا الإسلام العظيم ، وهذا الدين القويم الذي يدين له ثلث الأرض ، كيف حماه الله في الغار ؟ بالعنكبوت ، العنكبوت نسج ، فاستنبطوا أن هذا الغار ليس فيه أحد ، والدليل العنكبوت ، لو كان فيه أحد لخرق هذا النسيج .

    إن من تمام عظمة الله أن يكافئ عباداً بأقل الأشياء ، وأضعفها ، ويمكن أن يدمر إنساناً بأقل الأسباب .

    وفي صباح اليوم التالي جاءهم جمع من كبار رجال قريش يسألونهم عما بلغهم من بيعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، ودعوتهم له بالهجرة ، فحلف المشركون من الخزرج والأوس بأنهم لم يفعلوا ذلك ، والمسلمون ينظرون إلى بعضهم ، وبذلك مرت هذه الأزمة بسلام ، وعاد الأنصار إلى يثرب ، وهم ينتظرون هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، والمسلمين بلهف كبير .

    ( سورة التوبة الآيات : 38 ـ 39 ) .

    إذا دعيت إلى خير فبادر إلى فعل الخير ، لأنك إن لم تبادر فسيأتي من يبادر :

    ( سورة التوبة الآية : 39 ) .

    آية دقيقة جداً : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ إن لم تبادر فغيرك سيبادر ، إن دعيت إلى عمل صالح ، واعتذرت وتنصلت ، وجئت بالحجج الواهية يأت غيرك ، ويأخذ شرف هذا العمل ، لذلك إذا دعي الإنسان إلى خير من تمام توفيقه ومن تمام عقله أن يسارع ، قال تعالى :

    ( سورة المطففين )

    ( سورة الصافات )

    هذه بدايات الإسلام ، وبدأ الدين غريباً ، وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء ، كما قال عليه الصلاة والسلام :

    (( أناس صالحون في قوم سوء كبير )) .

    وقد قال الإمام مالك : " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها " .

    صلح أولها بإخلاص لله ، وصلح أولها بمحبة رسول الله ، وصلح أولها بالتضحية بالغالي والرخيص ، والنفس والنفيس ، فما لم نعد سيرة السلف الصالح في التفافنا حول النبي صلى الله عليه وسلم فليس هناك من أمل أن نتقي كيد الكائدين ، وعدوان المعتدين .

    أيها الإخوة الكرام ، حقيقة دقيقة جداً يقول الله عز وجل :

    ( سورة الأنفال الآية : 33 ) .

    وهذه الآية إلى يوم القيامة ، لكن في حياة النبي ، ما دام شخص النبي بين ظهرانيهم فهم في مأمن من عذاب الله ، ولكن بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملإ الأعلى فلها معنى آخر : ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾ ، أي أن سنتك مطبقة فيهم ، إذا طبقنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم فنحن في مأمن من عذاب الله .

    ( سورة الأنفال ) .

    أما إذا لم نطبق ، وخالفنا ثم ندمنا ، واعتذرا واستغفرنا ، أيضاً فنحن في مأمن آخر    ، نحن آمنون إذا طبقنا منهج النبي عليه الصلاة والسلام ، ونحن آمنون إذا استغفرنا الله بعد التقصير في تطبيقه .

    والشيء الدقيق جداً أن الله عز وجل يقول :

    ( سورة آل عمران ) .

    فعلامة محبة الله في قلبك أنك تتبع النبي عليه الصلاة والسلام .

    أيها الإخوة الكرام ، أرجو الله في دروس قادمة أن نتابع فقه السيرة ، وننتقل بعدها إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، والهجرة حركة ، والإسلام حركي ، وليس سكونياً ، والهجرة بمعناها الواسع وهذا بإمكاننا أن نطبقه ، من هجر المنكر أو هجر المعصية أو المخالفة فهو عند الله مهاجر .

    والحمد لله رب العالمين

    كلمات مفتاحية  :
    فقه السيرة النبوية

    تعليقات الزوار ()