- 1 -
- كم مرة قلت لك أن تأخذ مفتاحك معك!
قال بعد أن كاد الطرق على الباب يكسره. كان الوقت ما بعد الثالثة فجراً بقليل .. و أنا كنت قد فكرت بالفعل بهذه اللحظة عندما أعلمني موظف مكتب السفر بموعد الوصول الى مطار بيروت .. "كيف سأدخل الى البيت، و هو نائم في سابع نومه، كما يقولون". تذكرت كذلك عندما اعطيتته مفتاحي يوم سافرت أول مرة، على اعتبار، أن أحداً قد يحتاجه عندما يأتي لزيارة لبنان. أخذه مني حينها و ابتسم ابتسامة خفيفة، كأنه غير مصدق قصة سفري، و قال، "ماشي، لنرى كم ستصمد هناك!".
بعد أن فتح الباب، كانت جملة المعاتبة قد انتهت، ورسم ابتسامة طيبة و اتسعت شفتاه كعادته عندما يبتسم، " شو رجعت، ما قلتلك ما بتضاين.. ما فيك!"، فيما كان يطبع قبلاته على خدي..
- قالت لي أمي إنك اشتقتلي، شو صحيح هالحكي؟"
- لا أبداً، امك بتعرفها بتزيدها على طول..
بعدها راح يروى لي حتى مطلع الصباح أغلب مجريات أحداث البلد و الأقارب، مَن تزوج و من أنجب ..و مَن ضاقت به السُّبُل، فيمّم شطر الشمال.. و مَن ضاق ذرعاً بتعينفات زوجته، فطلقها.. و مَن و مَن..
عندما أقبل موعد سفري، أبى أن يأخذ مفتاح البيت مني، و قال، " دعه معك، لأن نومي طويل ، كما أنك سرعان ما ستعود!".
كان هذا قبل حرب تموز.
- 2 -
بعد وقف الأعمال العدائية:
"هذه الصوفة تشبه صوفتنا و هذا يشبه فرننا الغاز، لكنه أكثر نظافة منه. ربما تكون بقايا الدهون و الزيوت التي كانت مترسبةً عليه، قد زالت عنه في أثناء طيرانه، أو تحليقه الى هذا المكان".
الحقيقة يجب أن تُقال دائماً و إن كانت في أحيانٍ كثيرة، مُضّرة.
قول لطالما اعتز به و تباهى. هكذا كان يسّر في نفسه كأنه مغترب عائد الى موطنه بعد غياب سنين.
في الناحية المقابلة ترنح مبنى، لا تزال هيئته شبه كاملة، على حطام أبنية أخرى، كأنه تعب أو ملّ من الوقوف الطويل فقعد يستريح.
- 3 -
في الطريق الى البيت:
كان يركن الى قدميه اللتان اعتادتا سلوك هذه الطريق و حفظتاها عن ظهر قلب. فوق الركام و على السطوح المنكسرة كألواح صفيح، كان يتقدم. الأبنية خُلطت ببعضها، و امتزج طعم الإسمنت برائحة كيمياء القنابل الكريه.
عند المفرق الذي اعتاد أن يلفه بقدميه بحركة لاواعية تحسس بشكل لا إرادي جيبه، فلامست أصابعة علاّقة مفتاح البيت الدائرية .. لا أحد يعرف لماذا عند هذه النقطة بالذات من طريق عودته اليومية المعتادة الى البيت، يتفحص مفتاح البيت .. حس غريزي بلا شك.. و ربما، لأن لا أحد يقيم في البيت سواه.
هذا ما بقي من بناء جارتهم الخجولة، بضعة أمتار من الركام. و مبنانهم هو الآخر ، كومة أخرى. أشياء خاصة كثيرة متطايرة بحالتها السليمة.
- 4 -
في الأيام الثلاثة الأولى بقي في البيت، على اعتبار أن الأمور ستنتهي في أية لحظة، لكن أصوات الصواريخ كانت تعنف و تشتد يوماً بعد يوم.
حسب أن أمور هذه المعركة سوف تكون كسابقاتها، و سرعان ما ستنتهي و يعود كل شيء الى سابق عهده. لم يدر سرعة تبدل هذا العالم، و بأنه لا يجب أن يسكن الناس و يعتادون على أفعالهم أو على ردود أفعالهم. و بأن هذا العدو قد جنّ في نهاية المطاف، و أراد تغيير قواعد اللعب و عادات التعوّد و الإعتياد هذه.. فراحت الأبنية، التي كنا نظن دائماً أن طوابقها السفلية آمنة، راحت تتداعى كعلب كرتونية الواحدة تلو الأخرى.
- 5 -
بعد خروجه العجائبي بعدة ساعات، تعرضت الحارة لأعنف قصف في تاريخها. و قد سوّيت أغلب أبنيتها بالأرض، بما فيها البناء الذي كان يسكن فيه.
عندما خرج هذه المرة، لم يكن خروجه بنيّة الهرب كما يقول. وذلك على اعتبار أن ليس لديه مشكلة شخصية أو عداوة خاصة مع أحد. و بأن أطراف النزاع على قدر كبير من الحداثة و التطور، تمكنهم من معرفة كل شيء، و بالتالي فإنهم، و لا بد عارفون، أنّه ليس طرفاً مباشراً في هذا النزاع و لا في غيره.
.. لهذا تراه ترك ملايينه الأربعة!، التي سحبها من البنك منذ فترة بعيدة، و ذلك لعدم ثقته ببنوك المدينة، التي بات يسمع الكثير، في الآونة الأخيرة، حول إنهياراتها الإقتصادية المفاجئة.
- 6 -
فوق الركام:
سأله حارس أمن السماء و الأرض، عمّا تبحث هنا؟
- عن بيتنا.
أجاب و تلعثم. و قد بدى لوهلة كمخبول أو عميل. إذ في هذه الظروف لا وقت كبيراً للتفكير و أعطاء المهل. فالناس في هذه الأوقات العصيبة هم قسمان: مواطن منكوب، على اعتبار أنّ البلد كله منكوب، أو عميل خسيس.
- أنت أين تقيم ، اسمك!؟
... و عمّ ظلام دامس. جراء العصابة التي لُفت بطريقة عجائبية على عينيه .. و سادت جلبة وشعر بأن رجليه خفيفتان. كأنه محمول على بساط ريح.
.. و بعد قليل مرّ خاطفاً و مرعباً لازمه تعرّق و ريبة شديدين، وجد نفسه عند مستديرة شاتيلا على جانب الطريق. حيث أودعته، يدُ القدر الأمنية، برفقٍ هناك. كأن طائراً مهولاً غطّ و استله من بين الرّكام. و حطّ به على حين غرّة ها هنا. مبللاً بعرقه و ربما بشيءٍ آخر، لا يلوي على شيء، و قد انكوى وعيه، حتى استوت ذاكرته على مسطحٍ من الصفيح، لا أسماء فيه لأي أبنية أو شوارع قديمة أو محال باعة، أو سجل هوية. و قد نسي كل شيءٍ عن ماضيه في الحارة.
- 7 -
بين شاتيلا و البربير، مشى كما يمشي عادة:
- المفتاح ما زال معي.
قال، بعد أن تفقد جيبه. و قد بدأ يتسلل الى سريرته شعور غريب بالأمان و بأنه يسيطر على الوضع.و على أكثر من جبهة أو جبين.
- 8 -
على الهاتف:
لا اعرف من أين كانت تجيء الرغبة بالضحك!. ما يًضحك في المأساة! و لكن لا اعرف لماذا كنا نضحك!. كذلك لا اعرف لماذا كان يلح السؤال عن بيت جارتنا "ام بسام" التي تسكنأو كانتتسكن فوق رأسنا مباشرة، ان كان قد هوى هو الآخر.فلم استطع كتمه. فرد بضيق و تهكم."اقول لك البناية كلها باتت كومة من الركام، فتسألني عن بيت ام بسام!".
- 9 -
عملياً بيت ام بسام هو الأخير و بعده يأتي السطح. لهذا لربما كنت احسب أنه يمكن أن يبقى سالماً، و أننا بالتالي يمكننا أن نعاين بعض الأشياء و المواقع في بيتنا أو ما بقي منه.
بأي حال، أنا أيضاً لا أزال احتفظ بمفتاح البيت معي. كذلك احتفظ بصورته كما كان قائماً. تقسيمه الداخلي، غرفتي، المكتبة، الشرفة، باقي الغرف. و الدرج الذي متشققاً في بعض المواضع. حيث كنت احدث نفسي كلما كنت اصعد تلك الدرجات في لحظات انقطاع الكهرباء و في غير دوام الموّلد، أن هذا البناء ليس راسخاً كفاية. و أنه قد يقع في أية لحظة. و لكن بين الواقع الذي وقع فيه البيت بالفعل، و بين الصورة التي لا يزال فيها قائماً في رأسي، ثمة فارق بسيط على ما يبدو، لا يحسمه سوى وجود المفتاح في آن واحد و لكن في مكانيين متباعدين