لم ننتظرْ تلويحةَ الشفقِ الأخيرةَ
|
كي نرى قوسَ الحمامِ
|
يطيرُ حولَ عروسةِ الشمسِ
|
التي زُفّتْ إلى كوخِ الغروبِ
|
بأجملِ الأصواتِ..
|
لم نسمعْ زغاريدَ العصافيرِ
|
التي هّبتْ من الرمانِ
|
حاملةً على الشهواتِ سيفَ زقائها المسنونَ
|
أو قمرَ الشغفْ.
|
***
|
ينسلّ خلفِ غمامةٍ بيضاءَ كالأفعى
|
وفي نهر العشيّاتِ الوئيدِ
|
يصيرُ تمثالاً من البلورِ مزهوّاً بنطفتهِ..
|
ويملأُ ليلنا الأعمى
|
بأزهارِ الصدفْ.
|
***
|
كانَ الهواءُ يمرُّ كالأجراسِ
|
عبر سنابل القمحِ الطويلةِ
|
بينما الفتيات في سمرٍ
|
تنقّلُ شعرها المسودَّ
|
بين أناملِ الأمشاطِ
|
والقداحُ يملأُ أعينَ العشاقِ
|
بالعطشِ المندّى والنطفْ.
|
***
|
وعلى ضفافِ النهرِ كانت وحدها
|
امرأةُ الصباحِ
|
تفضُّ أحزانَ الغسيلِ من الدموعِ،
|
وتنشرُ القمصانَ مثلَ (حمائم) بيضاءَ
|
في حبل الغروبِ..
|
وحينَ تسمعُ روحها صوتَ الخريرِ
|
تذوبُ ركبتها الشهيّةُ
|
في زلالِ الماءِ كالصابونِ..
|
والأمواجُ تجري تحتَ ساقيها
|
كأسماكِ الخزفْ.
|
***
|
لم أنتظرْ تلويحةَ الشفقِ الأخيرةَ
|
كنتُ وحدي
|
أستعيدُ مع الحفيفِ
|
تراجعَ الموجِ الشجيّ على أديمِ الروحِ،
|
والبوحَ الجريحَ لغفوةِ الأشجارِ
|
مشدوداً كصوتِ الناي في الوادي
|
لأسرابِ الحمامْ.
|
***
|
متقلّداً سيفي على فرسِ الغيابِ
|
الحرّ
|
أقفو وحشةَ الأوعارِ في طرقِ الكآبةِ
|
أو أسابقُ عقربَ الساعاتِ
|
بالجريانِ فوقَ الرملِ حتى
|
درّةِ الموتِ الحرامْ.
|
***
|
أبداً على الإطلاقِ
|
لم أشعرْ بأجمل من عناق الريحِ
|
في هذا المدى المخضرّ
|
يضرمني صهيلُ المهرِ في البريّة الزهراءِ
|
بالشهواتِ
|
والأنهارُ تحملني على جرسِ الخريرِ
|
العذبِ..
|
فيما صوتها العالي
|
يرقّصني على نغمِ الهزامْ.
|
***
|
لكأنني فصحٌ ترجّعه على الأعيادِ
|
غاباتٌ من الأجراسِ
|
مسكرةُ الرنين
|
وكلما هبّ النسيمُ
|
سمعتُ صوتاً رائعَ الأصداءِ
|
يذروني كموّالٍ على برِّ الشآمْ.
|
***
|
ثملٌ كأني طائرُ الصبحِ
|
المحلّقُ في جبالِ الريحِ
|
أهبطُ ثم أعلو مثلَ أغنيةٍ
|
تموّجها على سفحِ الأناشيدِ
|
الجداولُ
|
والمواسمُ
|
والغمامْ.
|
***
|
أنا طفلُ هذا السهلِ
|
لم تكبْر سوى الأشجارِ من حولي
|
ولم يهرمْ سوى القمحِ
|
الذي راكضتهُ يوماً بأعراسي
|
لأنجو من نباحِ الإثم في روحي..
|
ولم يذهبْ سوى النهرِ الذي
|
يجري كطفلٍ خائفٍ
|
عكسَ اتجاه الموتِ
|
من جيبِ الجبالِ إلى المصبّْ.
|
***
|
وأنا الحزينُ على ضفاف العمرِ
|
ما شاهدتُ امرأةً
|
ولكن صوتَ أغنيةٍ
|
رعتْ حزني على مجرى الغديرِ..
|
سمعتهُ يعلو كأسرابِ الإوزِّ
|
على الأديمِ
|
فطّيرتْ روحي (عصافيراً) من الأشواقِ
|
نحو فضائها الشفافِ..
|
ما شاهداتُ امرأةً
|
ولكن طفلةً جلستْ لتملأَ بالخريرِ
|
الحلو جرّتها الذهب.
|
***
|
شاهدتها ذاكَ الصباحَ الطلقَ
|
أجملَ من حمامةِ ليلكٍ بيضاءَ..
|
تسقيها الطبيعةُ من لقاحِ اللوزِ
|
طلاّ طاهراً كالدمعِ...
|
فالتفّتْ على عنقي (زغاريدٌ)
|
مصفّاةٌ من الأعراسِ..
|
قادتني كطفلِ الشهوةِ المكفوفِ
|
في ديّارةِ الحزنِ النسائيّ المقدّسِ
|
حيث يعزفُ عاشقٌ بالناي
|
لحناً خالصاً للموتِ
|
والأشجارُ تزهرُ بالدموعِ وبالعنبْ.
|
***
|
لامستها وأنا أدورُ كهدهدٍ
|
من حولها
|
فرأيتُ عنقوداً من النحلِ الغزيرِ
|
يعبُّ من زهرِ الأنوثةِ
|
بينما طيرا حمامٍ أبيضانِ
|
يعمّدانِ هديلَ أعضائي
|
بماءِ الرغبةِ المفطوم
|
في مجرى العصبْ.
|
***
|
وعلا حفيفُ القمحِ حول أكفّنا السمراءِ
|
راح الخوخُ يسقطُ في سلالِ الريح
|
من تلقاءِ حمرتهِ
|
ويركضُ ثعلبُ العنبِ المذهّبُ
|
كالموشّحِ في سهوبِ الناي
|
محمولاً على جملِ الطربْ
|
***
|
فسمعتُ صوتَ النهرِ في الإبريقِ
|
أعذبَ من خريرِ الماءِ في المجرى،
|
وأصواتَ الثرياتِ الصغيرةِ
|
في ليالي العشقِ
|
والقمرَ الأحبّْ.
|
***
|
لكنَّ أجراسَ الخريرِ
|
استسلمتْ للنومِ
|
تحت تنهّدِ الأشجار
|
فاستلقتْ كجيتارٍ جريحٍ
|
فوقَ مهدِ الموجِ..
|
تحملها كؤوس الوقتِ كالساعاتِ،
|
والأكوازُ تتبعها بأحزان الشموعِ
|
حزينةً!
|
والنهرُ يجري صامتاً
|
خلفَ النعشْ.
|
***
|
وحططنَ سبعُ (حمائمٍ) بيضاءَ
|
في حبلِ الغروبِ
|
ينحنَ فوق النهرِ
|
والأوراق تسقطُّ من غصون اللوزِ
|
كالقبلاتِ ذابلةَ الشفاهِ..
|
سوي قناديل النبيذِ الحمرِ
|
لم تيئَسْ من التحديقِ
|
في وجهِ الغبشْ.
|
***
|
ذاكَ الزمانُ الآن لن تسمعْ صداه..
|
إذا أصختَ السمعَ في هذا المدى
|
إلا كصوتِ الحسرةِ المجروحِ،
|
لن تبصرْ من النهرِ القديمِ
|
سوى هلالٍ ضائعٍ
|
يعلو على المجرى
|
كتمثالِ العطشْ.
|