الأمر الثاني الذي يهدد بيوت المسلمين في زماننا هذا: عمل المرأة الخالي من القيود.
إن ذلك العمل الذي يُصَوَّر على أنه حق أصيل للمرأة يحقق ذاتها، ويدلل على إنسانيتها، ويحررها من التبعية لزوجها الذي يسخرها في بيته بأجر الكسوة والإطعام.. ماهو إلاّ عبء أرادوا أن يثقلوا به مطاها، أو يتخذوه ذريعة لعبثهم! أو يُعقل أن العالم المتحضر لا يستثير عطفه ولا يستدر شفقته شيء مثل المرأة الشرقية الكسيرة المهيضة الجناح، التي تنقل من حبس أبيها لسجن زوجها ثم حفرة قبرها! وهل أنت أيتها المسلمة كذلك؟ أحقاً أنت خاملة في بيتك، وبقاؤك فيه تعطيل لنصف المجتمع؟ أصدقوا يوم قالوا بأن دورك في بيتك يمكن أن تؤديه أية خادمة؟ أتعتقدين أن دُور الحضانة –كما زعموا- فيها متخصصات أكثر منك إدراكاً لنفسيات أبنائك، وأكثر علماً بحاجات فلذات أكبادك؟
لا.. لا تعليق ولا جواب...
إن العنصر البشري أثمن ما في الدنيا على الإطلاق، ومؤسسة الأسرة أهم مؤسسات الدنيا قاطبة، ولذا كان لابد من تحديد المسؤوليات فيها على نحو دقيق جداً، وهذا ما أحكمته شريعة الإسلام، "فالله _تعالى_ أوجب على الرجل النفقة وجعلها فريضة، كي يتاح للأم من الجهد ومن الوقت ومن هدوء البال ما تشرف به على الفراخ الزغب، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها، فالأم المكدودة بالعمل للكسب المرهقة بمقتضيات العمل المقيدة بمواعيده المستغرقة الطاقة فيه، لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره، ولا يمكن أن تمنح للطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها.
فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تخلقها امرأة وأريج البيت لا يفوح إلا أن تطلقه زوجة، وحنان البيت لا يشيع إلا أن تتولاه أم"(1).
والأطفال لهم وراء حاجات المأكل والملبس والعناية الطبية حاجات نفسية لا تلبيها دُور الرعاية والمحاضن الاصطناعية، وهذه حقيقة يقر بها اختصاصيون راسخون. يقول الدكتور (راي ليفي)، والأستاذ (بيل أوهانلون) في تعليقهما على السلوكيات المضادة للمجتمع، والتي أخذت في التفشي في مدارس الولايات المتحدة: "خصص وقتاً أكثر لطفلك. إن قضاء كمية كبيرة من الوقت يعد هاماً بصفة خاصة مع الطفل العنيد. حتى قضاء وقت دون عمل شيء معين مع الطفل يعد مفيداً. ربما تكون قد سمعت عن نوعية وجودة الوقت، ولكننا لا نتحدث عن ذلك. إننا نتحدث عن كمية الوقت التي تقضيها مع الطفل"(2).
إن المربيات في دور الحضانة في أحسن الأحوال أمهات صناعيات، يشترك فيهن مع الطفل عشرون غيره. والفرق بين الأم والأم الصناعية مثل الفرق بين حليب الأم والحليب الاصطناعي!
أما الخلفية الثقافية والعقدية للمربية وما يمكن أن تقدمه للطفل من هذا الباب فذاك ما يجب أن يدفع كل أم على التفكير ألف مرة قبل أن تقذف بابنها في واحدة من تلك الدور مهما كانت الأسباب. إن المسلمة ينبغي أن تعي جيداً أن مهمتها الحقيقة تبدأ بعد الإنجاب، وأن صياغة ضمير الأمة وتشكيل عقلها مهمة وأي مهمة! فلا ينبغي أن تتركها أبداً لخادمة أو موظفة من أجل أن تتفرغ لجمع دريهمات أو تحصيل شهادات لا تدفع بالأمة شبراً واحداً إلى الأمام. إن أبناءنا يجب أن يُصنعوا على أعيننا، ولا ينبغي أن نترك للخادمة من أمر الطفل شيء البتة. حتى مجرد تنظيف الطفل ليس عملاً آلياً، بل يعده الطفل مِنَّة كُبرى لا ينبغي أن يتفضل عليه بها أحدٌ غير أبويه، ولقد رأيت أطفالاً يتوسلون إلى أمهاتهم ألا يُنِبْنَ غيرهنّ في ذلك، وآخرين يرفضون رفضاً حاسماً أن تمتد إليهم يد غريبة بمنة لغير حاجة ملحة!
إن الله _تعالى_ لم يعف المرأة من الضرب في مناكب الأرض لتتطوع هي بذلك تاركة دورها الذي تعبدها الله به لغيرها، وأقلّ ما يمكن أن يقال في هذا: إنه تنكبٌ للطريق، وإعراض عن الجادة، ما لم تدع حاجتها أو حاجة أمتها إليه شريطة أن لا تضيّع مَنْ تَلي من أولاد، وإلاّ كان عملها: "كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة، أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها، فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول، في عصور الانتكاس والشرور والضلال.. فأما خروج المرأة لغير العمل، خروجها للاختلاط ومزاولة الملاهي، والتسكع في النوادي والمجتمعات... فذلك هو الارتكاس في الحمأة الذي يَرُدُّ البشر إلى مراتع الحيوان"(3).. إن على المسلمة أن تضع نصب عينيها دائماً وظيفتها الأساسية التي تبين قيمتها الحقيقية ألا وهي إصلاح الدنيا بتربية الذرية، وتهيئة السكن والطمأنينة لهم ولزوجها في عالم مضطرب، فواجب المرأة إذن إصلاح العالم، لا جمع الدراهم.
إن المرأة في الغرب تعمل لتعيش، فالقانون لا يلزم أحداً بالإنفاق عليها وحمايتها ما دامت غير قاصرة، وبنظرة منصفة إلى حال المرأة في المجتمعات المادية وهي بنتٌ يعبث بها العابثون، وهي زوجةٌ تكدح ولا تكاد تأوي إلى بيتها إلا وهي كالة مكدودة لتشارك زوجها إيجار المسكن وأقساط السيارة، وهي أمٌ يرميها أبناؤها في النهاية –يوم ترد إلى ضعف أرذل العمر- في إحدى دور المسنين، كما قذفت بهم في البداية –يوم كانوا في ضعف أول العمر- في إحدى دور الحضانة. حالها لا يداني أبداً حال المسلمة التي يحميها أبوها ويصونها زوجها ويبرها أبناؤها ولا مِنَّة، بل هي حقوق كفلتها لها شريعة ربانية سمحة، أما ما تتعرض له المسلمة في بعض المجتمعات من ظلم أو قهر فسببه أن تلك المجتمعات حادت عن الإسلام إما فهماً أو تطبيقاً.
أما التحدي الثالث الذي يواجه الأسرة المسلمة فإنها دعوات تحديد النسل، وقد لعب الإعلام دوراً بارزاً في تشويه صورة المرأة الولود، وأفلح في ربط ذلك عند كثيرٍ بالتخلف وعدم المدنية. والمشكلة ليست تسخير الإعلام، فذلك شأن الجاهليات، جميعاً وقد لقي أنبياء الله عنتاً من الحملات الإعلامية التي روج لها أكابر المجرمين، ولكن المشكلة أن تسقط المسلمة أمام الدعاية وتنطلي عليها الخدعة. حتى صار من المألوف أن تردد الواحدة منهن بملء فيها في المجامع أنها تكتفي باثنين أو ثلاثة، وتتباهى بالفرق الكبير بين أبنائها، وترى الواحدة منهن وهي تردد مثل هذا الكلام الذي يدل على قلة ثقافتها الإسلامية وضعف ارتباطها بسنة نبيها، تراها جذلة متباهية؛ لأنها ببساطة ليست همجية كما تظن، بل بالأصح كما جعلتها (المسلسلات) تظن، والمسكينة لا تدري أنها سقطت بذلك في مخططٍ خبيث يجتمع عليه اليهود والنصارى والهندوس.. وغيرهم
بأذنابهم!
"لقد صار تحديد النسل المسلم بنداً مهماً في المعاهدات والاتفاقيات والبروتوكولات التي توقع بين الدول الكبرى ودول المسلمين عامة، ومصر بصفة خاصة، والمتتبع للعلاقات المصرية الأمريكية كنموذج، يجد أن موضوع تحديد النسل المصري المسلم متداخل مع موضوع المعونات الاقتصادية، وأقول النسل المصري المسلم؛ لأن الكنيسة المصرية أعلنت مراراً وتكراراً أن موضوع تحديد النسل غير وارد في ملتهم، ولا يجوز لأتباع المسيح أن يفكروا فيه"(4).
إن الكلام عن مجرد تنظيم النسل –لا تحديده- ينبغي أن ترمي به إلى مراعاة مصلحة الرضيع، وصحة الأم إن نصح الطبيب بذلك، أما فقط لأن الأم مَلّت، أو أنها تحب أن تكون رشيقة أو أنيقة فذاك أمر لا ينبغي أن يكون على حساب زينة الدنيا من البنين.
والأم كما يقول أهلنا: "لا تشتغل بالمجان!" فإن الوهن الذي يصيبها في الحمل والمخاض، والعنت الذي تلقاه في السهر والإرضاع هو أجر مذخور، وعمل متقبل مبرور، إن هي أخلصت وصبرت واحتسبت، والجنة تحت أقدام الأمهات.
فلنحرص على بناء أسر قوية، ولنجعلها كما أراد الله لها أن تكون آية من آياته، وواحدة من أعظم منَنِه وهباته، ولنتعهد غرسنا ليثمر صلاحاً ننعم به ما حيينا، ونلقاه مذخوراً لنا إن فنينا، بل يتعدى نفعه للإنسانية جميعاً، إعماراً للأرض بالعلم والسعي في مناكبها، وأخذاً بيد الحيارى الضالين الشاردين من رحمة الله، المحرومين من نعمة الإيمان.
ولنجعل بيوتنا محاريب طاعة وبيوت دعوة، ولنلهج بدعاء الأنبياء والصالحين، "رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ" (آل عمران: من الآية38)، "رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً" (الفرقان: من الآية74)، "رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ" (إبراهيم:40).
___________
(1) سيد قطب: في ظلال القرآن، آية الأحزاب "وقرن في بيوتكن".
(2) راي ليفي وبيل أوهانلون: حاول أن تروضني، ص102،103، بتصرف.
(3) سيد قطب: الظلال، الأحزاب (وقرن في بيوتكن).
(4) د.زيد بن محمد الرماني: المرأة المسلمة بين الغزو والتغريب، ص38-39.