بتـــــاريخ : 11/12/2008 5:40:43 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1549 0


    الرصيف التائه

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : اسكندر نعمة | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

     

    لم تكن الشمس قد تسلقت صفحة السماء بعد.. كانت ماتزال تلقي بتحيّة خجولة إلى الناس القابعين خلف النوافذ والجدران.. أعداد قليلة جداً قد غادرت بيوتها وراحت تدق الأرض سعياً وراء الرزق والعمل المبكّر....‏

     

    كان يسيرُ على الرصيف الأيمن متدثراً معطفه القديم، يلفّ رأسه بمنديل سميك، إنه يخشى برد الصباح وزمهريره.. صحيح أن الشمس قد أخذت تداعب يوماً جديداً، إلاّ أن الأرض كانت تنفث برداً جليدياً اختزنته منذ فترة طويلة.. المسافة ليست بعيدة، عّما قريب سيصل إلى محطّة السيارات الذاهبة إلى العاصمة.. صوت نعليه يوقظ صمتَ وجليدّ الرصيف، يسيرُ بتؤدة مخافة التزحلق.. كان فيما مضى لا يخشى شيئاً، لكنه الآن وقد ودّع الكهولة، وأوغل في ردهات الشيخوخة، أصبح يخشى على نفسه من كل شيء.. اقترب كثيراً من مقصده.. المحطة غاصّة بالسيارات الكثيرة، التي اصطفت وراء بعضها كرتل أحاديّ، وقد توجهت مقدماتها صوب محور الطريق الممتد نحو العاصمة.. المحركات تجأرُ بأصوات ناشزة تقلق كينونة الصباح المبكر، والدخان الأسود ينعقد في الجو سرطاناً مدمّراً يزكم الأنوف ويخرّب الصدور.. اقترب من السيارة الأولى التي تتصدّر القافلة، التصق بها، امتدت كفه اليمنى وأمسكت قبضة الباب الأمامي المفتوح... يا الله... نهض بعزم مألوف.. دسّ جسده عبر جوف السيارة..تلفّت حواليه، نظر إلى كل الجهات.. تفحص كل المقاعد.. لم يجد مكاناً يروق له.. المقاعد المفضّلة قد امتلأت بالأجساد المتراصة.. تفحَّصَ الوجوه، لم يعرف أحداً، الملامح ساهمة، والنظرات كابية، والبخار ينعقد أمام الأنوف والأفواه،.فيشكل حالة شتائية تعمّق الإحساس بالبرد والصمت والذهول.. اتجه نحو مؤخرة السيارة، والقى جسده النحيل فوق جانب من المقعد الخلفي.. استسلم كغيره لسبات مُرهف، وراح يلعق شفتيه الجافتين، وينفخ زفيراً رطباً في راحتيه المتبلدتين...‏

     

    اكتظّت السيارة بالأجساد المتراصّة.. امتلأت المقاعد والممرّات وغطاء المحرّك والزوايا الجانبية.. لم يبق شبر واحد في جوف السيارة إلا وقد تغطّى بالأقدام.. تجولت عينا السائق عبر المرآة الأمامية، تفحصتا الحاضرين، أعلنتا ابتسامة تنطوي على بعض الأسرار، تحركت كفّاه وقدماه بحركات خفيّة، تدحرجت العجلات على الاسفلت ببطء شديد.. تزايدت سرعتها شيئاً فشيئاً حتى استقرت على حالة ثابتة.. هدأت الأجساد عن التأرجح والانزياح يميناً ويساراً، وبدا لبعضهم أن الاستسلام للنوم يشكل ملجأً للفرار من الحالة الراهنة.. كان جسده النحيل قد انحشر بين أربعة من الراكبين، احتلَّ مركز الوسط بينهم، تلذّذ بالاحساس بالدفء عن الاحساس بالمضايقة والضغط ، استسلم لحرارة ناعمة تخترق جسده ومفاصله، بينما انصبّت نظراته في جوف السيارة المتخمة على مشهد مثير...‏

     

    في المقعد الأمامي من السيارة، كانت تقعد امرأة بدينة، لم يكن يرى منها سوى كتفيها ورأسها، وإلى جانبها على المقعد تقف طفلة تخيّل أنها تجتاز ربيعها الثالث.. جميلة هذه الطفلة.. يا الله.. ثبّت نظراته على وجهها الناعم.. شعرت الطفلة بنظراته تخترق وجهها.. ابتسمت له.. ضحكت.. آه.. ماأجمل ابتسامات الأطفال.. ازداد اصراراً على احتواء الوجه الطفولي بعينين متوسلتين.. أيقظ الوجه الطفولي في نفسه أحاسيس كثيرة، حرّك عوامل دفينة بعيدة.. لوّن ذكرياتٍ مرّة بألوان شيّقة.. يا الله.. ماأكثر الشّبه بينهما.. هذا الوجه الملائكي يشبه وجهها عندما كانت صغيرة مثلها.. حمله هذا التشابه والإحساس على بساط متأرجح من التذكر.. تداخلت الأحلام والذكريات، وراح الوجه الطفلي الجميل يدير شريط الذكريات المخبأة في صدر اتعبته الحياة...‏

     

    السيارة تسير نحو العاصمة... ذاكرته، أحاسيسه، أعصابه، انطلقت كلها على أجنحة البرق الخاطف، وحلّت في ربوع العاصمة، اختزلت عقوداً من الزمن.. كان لايزال شاباً يسير هو وزوجته وطفلته في شوارع تائهة من العاصمة التي يقصدها الآن.. كان يسير معذّباً ينهشه الألم والضّياع، كأنه هو المسؤول عن هذا التشرّد.. لقد استطاع أن يفلت من إرهاب الاحتلال والعدوان، فخرج كما خرج الألوف من أبناء وطنه.. قصد وطناً آخر.. وصل العاصمة الأخرى.. هو وزوجته وطفلته يسيرون على غير هدى.. إنهم مشرّدون.. جائعون.. متعبون آهٍ.. ايّ عذاب هذا‏

     

    السيارة تسير نحو العاصمة... أحاسيسه تسبق السيارة، تغوص في أوحال وهلام العاصمة.. انقضّت الذكريات عليه مثل أفعى مجروحة.. الجوع ينهش معدته، لابأس.. ولكن كيف يتصرّف مع جوف الطفلة الصغيرة.. زوجته وهو قد يصبران.. أما الصغيرة فلا.. لم يكن في حوزته، إلاّ مايكفي لشراء وجبة رخيصة من الأكلات الشعبية.. إنهم لايجرؤون على ولوج أحد مطاعم المدينة الكبيرة.. بين الفينة والفينة، كانت أصابع يده اليسرى تمتدّ إلى جيبه لتتحسّس الليرات القليلة القابعة في قعرها..‏

     

    السيارة تسير نحو العاصمة.هو يبحث في العاصمة عن وجبة طعام شعبية تُسكت عواء الجوع في البطون الثلاث .. الأقدام تسير متعبة ، والوجوه تلوب شاحبة ، والعيون تبحث دون جدوى .. الجوع يطفئ في الرؤوس كل إحساس ..اقترب المهاجر و زوجته يسحبان طفلة لم تبلغ بعد الرابعة من عمرها .اقتربوا جميعاً من حافّة الرصيف ، التصقوا بالمحلاّت التجارية ، ينظرون بعيون مرتعدة .. أخذت الطفلة تتعلّق ببعض المعروضات ، تحاول العبث بها ، فيجرّانها مؤنبين .. كانت تشير بيدها إلى كثير من الأشياء .. تلثغ .. تتكلم .. تهمهم .. تصرخ .. تضرب الأرض بقدميها .. تتوقف .. دون أن يفيدها ذلك في شيء .. الليرات القليلة القابعة في قعر الجيب الأيسر كانت تتكلم .. تُملي على الأبوين كل تصرّف وموقف .. لكن الطفلة الصغيرة لاتعرف شيئاً ، ولاتعبأ بأي شيء.‏

     

    السيارة تعدو نحو العاصمة .. الأبوان يبحثان عن دكان صغير يبيع بعض المأكولات الشعبيّة .. أتعبهم المشي .. هدّهم الجوع .. أذهلتهم لوائح الأسعار المعروضة ..لكن الطفلة ظلّت تهمهم وتلثغ وتعاند وتضرب الأرض بقدميها .. وصلوا أخيراً إلى محل ناتئ على الرصيف يبيع ما يسدّ الرمق .توقفت الأم تنظر ، تفاضل بين الأشياء ، وتسمّر الأب يعدّ الليرات ويحسبها .. طابت نفسه عندما وجد أن ما معه يكفي لإشباع ثلاث بطون خاوية .. لكنه لم يكن ليحسب حساب خدعة غير منتظرة..‏

     

    السيارة تنطلق نحو العاصمة.. هناك في العاصمة حيث توقف المشردون الثلاثة أمام دكان الأطعمة الرخيصة، كان محل آخر يبيع لعب الأطفال، يجاور المطعم الشعبي، لايفصله عنه شيء، احتل هو الآخر جانباً آخر من الرصيف.. أفلتت الطفلة بإصرار من أبويها، وانقضّت على أرنب بلاستيكي، قفز في مكانه بواسطة زرٍّ ومحور يدوي.. احتوت اللعبةَ بين كفيها الصغيرتين.. نهرها الأب بشدّة، ضّمت اللعبة إلى صدرها، صرخت وأخذت تبكي.. صفعتها الأم على كتفها، فلم تتخلَّ عن الأرنب.. جرّها أبوها نحوه، عبثاً حاول تخليصها اللعبة.. فقد ملأصراخها وبكاؤها جنبات الرصيف، واتجهت إليهم أنظار الباعة والناس العابرين، وتوقف بعضهم يراقب المشهد..‏

     

    السيارة تخطف الطريق نحو العاصمة.. ذاكرته هناك، في قلب العاصمة.. زوجته الجائعة، قالت له: الابأس، لنشترِ اللعبة.. واختنقت بدموعها... نقدَ المشرّد البائع ثمن اللعبة، وقد شعر بأن أزمة الجوع بدأت تتقلّص، لأنه تخلّص من أزمة الإرباك والإحراج.. نظر إلى الطفلة، كانت تقبَّل لعبتها، وترنو إلى والديها بحنان وفرح كبيرين، وقد تلاشت آثار الدموع من عينيها..‏

     

    تابع المشردون سيرهم بسرعة، كان الأب يريد أن يبتعد عن دكان الأطعمة، وقد سّره أن ثمن اللعبة لم ينتشل كل مافي جيبه، فلقد بقيت بعض أجزاء الليرة تندحرج في قاع جيبه.. الطفلة تهزّ اللعبة.. تقبلها.. تدير المحور ليقفز الأرنب بين يديها.. الأبوان يأكلان الصمت والحيرة.. وبين الحين والآخر يختلسان نظرات سريعة إلى الطفلة، ليسرقا بعض ملامح السرور الطافية على وجهها الجميل..‏

     

    فجأة توقف الأب أمام عربة تحتلّ زاوية من الرصيف، مثقله بقطعٍ من الحلوى الجافّة، وبسرعة لاتقبل التردّد.. ألقى أمام صاحب العربة كل مافي جيبه دفعة واحدة، ناوله البائع قطعة حلوى صغيرة معجونة بالسمسم والسكّر.. استدار وهو يبتسم، أعطاها للطفلة اللاهية بأرنبها.. أخذتها الطفلة ضاحكة وقذفتها إلى فمها الصغير دفعة واحدة...‏

     

    تنفّس المشرد الصعداء.. التقت عيناه بعيني زوجته.. الشّحوب يأكل وجهيهما.. ومالبث الإثنان أن أنفجرا بضحكات مكتومة متطاولة....‏

    السيارة الآن لاتخطف الطريق... تتهادى في سيرها.. تبطئ أكثر.. نظر إلى مقدمة السيارة، لاحت له أبنية العاصمة البرجيّة قريبة جداً.. كانت الأجساد المتراصة تتهيّأ للهبوط.. نظر إلى المقعد الأمامي، كانت الطفلة ماتزال واقفة على مقعدها، تطوّق بذراعها اليسرى عنق والدتها، وبيدها الأخرى تداعب شيئاً ما.. وعيناها تشيعان في جوف السيارة المتهادية ابتسامةً عذبة رقيقة....‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()