بتـــــاريخ : 11/12/2008 6:00:15 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1444 0


    لُـــولاَ..

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : عبد الفتاح عبد الولي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

     

    انفتحت أجفان العينين. من العتمة الحالكة انسلخ إبليس واغلق الجفون، عضَّت لُولا أصابعهُ وخرجت من كيس النوم البالي. وقفت على أطراف أصابع قدميها وتمطت. ركض إبليس الذي كان يمصُّ ألمهُ وأخذتهُ من القرون. فتحت النافذة ورمت بالجثة إلى الخارج.. "إلى تَنْكَا بلاد النَّامسْ، ربِّي يُسلطْ لكْ حاِلبُ الجن." رأت كوكبه من النجوم تتسامر في ديوان السماء، الثريا "تذبل" بالقات من فمها وتستعير كوز الماء من الزهرة ثم تمضمضت وقعدت على ذات الكراسي فارجة بين ساقيها وانحنت تنتف شعر عانتها. الفرقدان يزملان..، وَالْيلُ الماء، واليلانِ. قليل الحياء سكران" غطت الثريا عورتها وأومأت بطرف لسانها إلى سهيل الذي كان يرقبها ورفعت رجلها في اتجاه وجهه وقالت.. "أني بسقف ربي مانيش بسقفك. يامكسور الناموس مَدْعَسْ بحلقك. ضحكت النجوم وضحكت لولا.‏

     

    قطع دبيب الفجر رنات الضحك وأطفأت السماء فوانيس بيتها. رجعت لُولاَ إلى كوة الغرفة واشعلت ذبالة "الدبة" ثم نزلت إلى الإسطبل حيث وجدت بقرتها ربيعة قد أستيقظت هي الأخرى من النوم. مسدت لولا على ظهر البقرة وقالت... "ياصباح الخير وياالله اليوم.. هذي ربيعة. قامتْ من النوم". أحست البقرة بماء السعادة يجري في بدنها، لحست خد لولا المجدور ونشَّت الذباب بذيلها. من حوافي فكيها نزل لعاب الجوع خيوطاً فضية وشرشرت بالبول عندما قدم لها الحشيش والماء. مررت لولا أصابعها على بطن البقرة ومسحت الضرع ثم حلبت.. "ياالله يامجيب. ساعد ربيعة. تُنَزِّل الحليب."‏

     

    في المطبخ دَبَشَتْ لولا الحليب في "الدُّبيةِ" دبشاً متواصلاً حتى صار حقيناً خُلاصتهُ زُبدة بملئ الكف.‏

     

    كنست لُولا الدَّار وجلست تنهي تطريز "شِتَارَتها" الجديدة بالخيوط الملونة. وحالما أنتهت من التطريز لبست "الشِّتارة" واحتقت بالحزام ثم ارتدت قميصها الأسود وكحلت عينيها ومدت خط هُرْد أصفر من تحت شحمة الأذن اليسرى وفق حدبة الأنف إلى شحمة الأذن اليمنى. غطَّت شعر رأسها بِمِصَرٍّ وردي ووضعت فوقه مقرمه حمراء.‏

     

    تشقَّرتْ بمشقر ريحان وذهبت إلى البئر لجلب الماء.‏

     

     

    كانت أشعة الشمس قد ظهرت من رأس جبل "دومان" عندما خرجت لولا ثانية من دارها. حملت فوق رأسها "وَذَمَّ" مشغول من سعف النخل لتضع فيه الحشيش ونبات الزرع، وفي يدها حملت "حِجْنَةَّ" لعزق الأرض. نَدَشَ الضوء شعرهُ الفضي.. "أضوا الصباح والعابدين قاموا. والعاشقين لَمُّوا الصدور وناموا".‏

     

    خلف سبعة بحور غاب والدلولا، سافر على مركب اجريكي، ترك لولا وهي بنت عام. رحل يشقى على كروشة. في عامها الثالث انقطعت أخباره. ومرت الأعوام. انتهز السرطان غياب الأب فدخل خلسة في رحم الأم وتزوجها -زواج متعة-، ثم رافقها إلى القبر. منذ ذلك الزمان ولولا تسيرُ وحيدة في الطريق، حافية القدمين بثوبٍ يشبهُ جلد الليل، يخفي تحته جسداً ناحلاً وقامة قصيرة تتعجَّشُ تسعة عشر خريفاً وقلب سمكة مضيئة.‏

     

    أغصان يابسة لأشجار شوكية تحرس الزرع للبنت المُهَرَّدَةِ لولا تؤدي التحية وتفسح الطريق. وقفت لولا بين النباتات تشاهد قوافل الغمام وهي تأكل جبال (المقاطرة)... "هَيْدْ. هيد ياجِمْال ربَّي." وشمس غانية يقتلها الحياء بزغت من رأس جبل "دَوْمَانْ" كانت تغطي وجهها بمقرمة مَلْمَلْ. الطيور تخترق الفضاء بريش أجنحتها المدهونة بعسل "دَوْعَنْ". كان العسل يتقطر أيضاً من مهابل السحب الداكنة.. "الطائر الأخضر. أينَ رَوَاحُهْ؟! هاتوا الدَّواه. شاكتبْ على جناحه.. خطابْ غرام." صوت امرأة فوق دارٍ السِّعوادةِ" ينتسفُ من البرد.. "ياديكْ. ياصياحْ. ليتكْ. مذبوح. صحيتني من جنب مُرْعِشْ الرُّوح". بين أغصان شجرة الإثابْ "جَوْلَبَة" تبكي عصفورها الصغير.. "من أخذ ولدي. له حنش أسود." حمامتان تهبطان فوق دار مُدْهش وغيمة جذلى تقمَّطت بالزعفران تحوم حول نفس الدار المقضَّض بالنوره. يصحو مدهش عادة قبل ديك الفجر يستمع إلى ألحان العِنْصِرّةِ ويفتح شباك غرفته مرحباً بالغمامة البكر التي تدخل متخفية من الأعين الفضولية وتنام على سريره. يناولها حبات الفلفل فتطرح عهدها على الوسادة بأن تعود إليه سحابة سوداء. بعد ذلك يودعها ويطلع إلى سطح الدَّار يقرأ البخت من طرائق الريح ويلاحق أنفاس أهل قرية الصَّفافة بمنظاره-مَقَّرِب البعيد-. تتداول عجائز القرية كلاماً عن نيته في الزواج من عذراءٍ "حَنِكَةٍ. تتنبأ برجة الأرض قبل وقوعها". كل الأبكار حلمن وتمنين. هجرهن النوم وخفقت قلوبهن. ذهبت أمهاتهن إلى نزيلة الولي "طه" وجلسن تحت القبة يسألن عن بروج وطوالع بناتهن. قالت النزيلة لهن.. "سأخبركن بالأنباء عندما يطلع الدخان من باب عدن. وبعد سنوات طلع الدخان من فوهات مدافع سعيد باشا وتحت قبة "طه" نفشت النزيلة ودعها وقالت.. "دخان طلع من باب عدن صَبَابة. مُتَمنيات!! لاتسهنينْ زواجهْ". لطمت أمهات العذارى على صدورهن وخدودهن وانهمرت دموعهن كسيل وادي الصفافة من فرط الخوف على مستقبل بناتهن. كتمن الخبر ولم يبحن بنبوأة النزيلة لأحد. ولكن صدور النساء ضيقة وعقد السر انفراط عند البئر. عرفت لولا أن أحلام عذارى القرية قد ذابت كالبخور في مجمرة نزيلة الولي "طه" فاطلقت أغنية.. "مَدْهِشْ تمناني غزال رديني. واني تمنيتُه كحل بعيني ". قلن لها... "كيف يتمنى الرجل من شوهَ الجدري وجهها." فبكت لولا حتى جفَّت حِسْوَةُُ عيونها. وتذكرت يوم عسكرت جراثيم الجدري في القرية وكيف أختارت أجمل الوجوه بين الأطفال واحرقتها وكيف قاتلت أمها جيوش الوباء دفاعاً عنها، زارت قبور الأولياء. اشعلت الشموع تحت القباب البيضاء. طلبت من الصوفي أن يفتح الكتاب ويحرر الحروز. دقت مسامير كثيرة على درف باب الدار. أعطت الفقيه سمناً وبيضاً ودجاجاً ليقرأ القرآن ويذرع بخيط الصوف الأسود لوقف زحف النقط القاتلة على صفحة الوجه والبدن وكيف أخذت أمها بيضة وبصلة وذهبت إلى مرتفع "الجابْ" ونادت أهل قرية الوادي.. وقالت: "أعرفُ خالي وخال خالي القفوا البيضة والبُصَّالِ." وظنت أن الجدري ذهب مع البيضة والبصلة إلى قرية الوادي.‏

     

    انهمر الدمع من عيني لولا وعادت تفكر بكلام العجائز سألت نفسها "هل اشترط مدهش أن يتزوج بفتاة جميلة؟! طلع الرد من داخلها- "لا" وتحولت آثار الجدري إلى ورود فاتشة. تذكرت أين قابلت مدهش أول مرة.." مدهش نزل بئر الفياض يشرب. مثل القمر خَلَّى قليبي يلهب". طلب أن أسقيه. ناولتهُ الدَّلو. ارتعشت يدي..كان زَوْحُ الشمس يضربُ إلى داخل عيونه. قرعَ دفُّ قلبي عندما لمس أصابعي. شعرتُ بالعطش. حَمَّلني الجرَّة ومزقت عيونهُ قماش صدري. داخ رأسي... "حُبُّ الحبيب يبدأ من مُشَّة الرأس. لازندقه. ولاخفاء من الناس. سمع أصوات نساءٍ نازلات إلى البئر. شاهدنهُ وهو يحمَّلني الجرة. قلنَ بصوتٍ واحدِ.. "يااللي على المورد اسقي لي ذهب.ْ ذهبْ كالمَشْقُر بِخَدِّ العَزَبْ." وذاب من أمامي. في طريق العودة من البئر حاولن فتح غطاء قلبي فأخفيتُ مفتاح قفلهِ تحت لساني. قلنَ لي.. : "هل طعمتي يالولا حليب تيس الجبل؟." لذتُ بالصمت. قلنَ إن تويوسهنَّ ذهبت ترعى خلف الجبال ثم ناحت حناجرهنَّ كالإبل..." شاحِنَّ لك ماحَنَّ طائر الواقْ. ماحن مفارق لحبيبه مُشتاق".‏

     

    دفنت لولا رماد الذكريات واحلام اليقظة في صدرها. عقدت كُمَّي قميصها إلى خلف رقبتها ودسَّتْ ذيل ثوبها الأمامي تحت الحزام وابتدأت العمل. جلجل صوتها بالأغاني ومَوَاهَات الفلاحين.. "دنى عليك الليل. يازارع العنب. ياخاتم الفضَّة. يامجلي الذهب." تخيلت كل أهل قرية الصَّفافةِ يرددون خلفها الأغاني..." شوقتني بالمواهاة يابتول. شوَّقت قلبي للمحاجين والسَّبُول." شارفت على إنجاز العمل. وقفت تمسحُ العرق من جبينها. أحست بإبرةٍ حاميةٍ تنغرز في لحم قدمها. قفزت مذعورة. رأت حية رقطاء تتلوى بين الزرع. كش بدنها واجتاحته نار محرقة. شعرت برغبة جامحة للتقيؤ. قطعت خرقة من مقرمتها وربطت ساقها- فوق القرصة -شدت الربطة ثم تناولت "الحِجْنة" وقتلت الحية. نزعت الهوك من قماش صدرها وغرزته عدة غرزات في الجلد عند القرصة حتى سال الدَّم. رفعت رجلها إلى فمها وراحت تمص الدم وتمج به إلى الأرض. قطفت أغصان من نبتة "العصفر" الشوكية وطلت قطراته الصفراء على شفتيها حتى لاتصاب بالسم وقطرتهُ أيضاً داخل فتحة الجرح ثم خلست جلد الحية وأخرجت شحمها ووضعته فوق الجرح وبورق نبتة "العُبَابِ" دلكت موضع القرصة دلكاً شديداً. سمعت فراخ دجاجة تصوصئ فزحفت إليها وقبضت على ستة منها. فتحت الجرح واخذت فرخاً وضعت فتحة شرجه على الجرح فمات حالاً من السم الذي امتصه وكهذا كررت العملية مع بقية الصيصان فماتت جميعها. راحت تبحث عن بقية الصيصان، بيد أنها كانت منهكة، شرر الجمر يتطاير من عينيها ومطارق السم تضرب جمجمتها وتكسر عظامها. من بين الزرع أطل وجه ضبابي الملامح يهذي بالكلام..." بُنَيتي شمعة فؤادي". عادت على ردفيها إلى الخلف وتصمَّغت عرض الجدار.." بعد أن غادرت القرية وصلت إلى عدن، بحثت عن عمل دون جدوى ثم بعت نفسي لسمسار بواخر باعني بدوره لقبطان أعور بعد أن بدل إسمي باسم بحار صومالي قضى نحبهُ وسط البحر. وجُبتُ كل البحار على المركب الأجريكي. كانت مهمتي إطعام المركب الفحم الحجري. كان مركباً شرهاً يأكل أطناناً من الفحم في كل وجبة، يشرب من دمي ومن عرقي والقبطان الأمهص الأعور كان يكره سحنتي. يكلفني بانجاز أحط الأعمال. أعمال مرهقة، متواصلة ويختلق الأسباب لإذلالي وانزال العقوبات البحرية بي، كان يحبسني داخل المركب عندما يرسو في الموانئ ويحرمني من حقوقي. لم أستطع الخلاص من فبضته الشيطانية، حاولت الهروب أكثر من مرة وأفشل بسبب شبكة العيون التي شبكني بها، عيون حمر وزرق كعيون الزنابير وذات يوم وفيما كان المركب يمخر عباب بحر الظلمات، قررت خلع جلد الذل والهوان. نزل القبطان إلى حيث كنت أعمل أمام الفرن الملتهب بالفحم الحجري. أخذ يكيل لي الشتائم التي كنت أفهم معظمها لكثر ماترددت في أذني وراح يركل مؤخرتي بعنف فالتفت إليه والشرر يتطاير من عيوني وبصقت كل حقدي في أخدود عينه العوراء. وعندما هم بصفعي بادرتهُ بضربة قوية بمجرفة الفحم الحامية فشجَّ رأسهُ ووقع على الأرض. خطفت جثته ورميت بها في الفرن ورحت أقلبها بين النيران حتى اشتوت واستوت. لمحت عيناً كانت ترقب الحادثة اختفت بسرعة وجريت بعدها. اضطرب الوضع داخل المركب وصفر البوق. وصلت إلى سطح المركب في الوقت المناسب فتدافع البحارة يجرون بعدي. تمكنت من فك حبل طوق الإنقاذ ومع الطوق قفزت إلى البحر. لحظات ولعلع الرصاص. تدفق الدم من كتفي وغصت تحت المياه المالحة. لم أشعر بالألم ولكن لما عمتُ إلى سطح البحر شاهدتهم، كانت الزعانف الرهيبة تشق عباب البحر بسرعة فائقة. شَهَّدتُ وكَبَّرْتُ. صارعت أسماك القرش وقاتلت قتال المستميت. رأيت بأم عيني كيف كانت تبتر أطرافي الواحدة بعد الأخرى ثم مال قرص الشمس نحو الغروب.‏

     

    اعترت لولا نوبة هستيرية من الضحك. نكست رأسها إلى صدرها كي تعيد الهوك إلى موضعه. من خلال فتحة الصدر رأت نهديها يسبحان بين حبات العرق..." اثنين كعوب. رب السماء حماهم. تفاح ولِيمْ ياسُعْدْ من جناهم." كانا يرتقلان كعصفورين تبللا بماء المطر وكانا جائعين من الخوف، القمتهما أصابعها ونفخت جمراتهما حتى أشتعلا. اشتعلت الحمى في جسدها. تقيأت على قميصها. ارتعشت كرايةٍ ممزقة القماش وبدأت تصرخ وتمزق ثيابها وتأكل نبتات الزرع وتعبث بأعضائها وتتلوى كتلك الحية الرقطاء التي قرصتها قبل قليل... "بائتَبلِيمْ وامجنون. خَرَّبت حولي بائتَّليم وامجنون. تَليمْ حولي كالألف جنب النَّون. عج المكان بضجيج الحشرات وبعواء الذئاب. تشهقت تشنج جسدها ثم ارتخى كحبلٍ من مسد.‏

    مالت شوكة النهار قليلاً، فتحت لولا عينيها وأحست بخدر وطنين وسحب داكنة تكمم فمها. كبحت دودة الغثيان. أسندت ظهرها العاري إلى الجدار. ألقت نظرة بطيئة، مرهقة على دار مُدهش. ورأتهُ ينظر إليها من الشُّباك بالنَّاظور - مقرب البعيد- تحسست آثار الجدري في وجهها وأجهشت بالبكاء حتى انطفأت شمس الظهيرة.‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()