قال الكاتب....
- هذه اللغة مجنونه فلأتركها.
قالت اللغة:
- هذه الرجل خبلته الأوهام.
قال الكاتب:
- يجب أن آتي بجديد، بحكاية.
قالت اللغة:
- لن أتخلى عنه أو أخونه.
قال الكاتب:
- سابدأ حكايتي بامرأة جميله، ونزقة، لها عينان صغيرتان ذهبيتان، وفم ناعم، تحب القراءة والتدخين، والاستماع إلى الموسيقا، امرأة تشرب قهوتها الصباحية في السرير، وتكتب رسائل غامضة إلى رجل مجهول في دفتر أزرق لا يطلع عليه أحد، امرأة وحيدة يمتصها عفن المكان، والانتظار، وتحاصرها الأسئلة وعيون الجيران، ونظرات الرجال الجائعة فلا تهتم بكل ذلك، ويوم أذاعت محطات الأخبار والصحف العالمية مقتل الحسين في أدغال بوليفيا، شربت كثيراً من القهوة ودخنت كمية كبيرة من السكائر، وظلت تكتب طوال الليل في دفترها الأزرق.
وفي الصباح استيقظت، دخلت الحمام، وظلت تحت«الدوش» زمناً ليس يسيراً تتفقد كل قطعة من جسدها، النهد، والكتف، والشعروالشفتين ثم خرجت تتلجلج كليرة الفضة الجديدة، وبعد أن أعدّت قهوتها الصباحية، جلست في السرير، تشرب وتدخن، وتتأمل طويلاً ما أمامها، اللوحات المائية على الجدران، ولون الأغطية، والدهان، وقصاصات الورق ثم شرعت تكتب رسالة إلى مخزن للزهور، ليرسلوا باقة إلى قبرها في اليوم التالي، كما أوصت بإرسال عامل شاب لكي ينظف المكان من أعقاب السكائر، وبقع القهوة والشاي، وفضلات الطعام والقطط ثم تعرّت من ثيابها، ودهنت جسدها بزيت عطري، فبدأ يلمع في الغرفة كنار مجوسيه مقدسة، تعب السادن في العناية بها، فألقمها أروع ما عنده، ثم انحنى يصلي لها ضارعاً.
ثم مدّت أصابعها الرشيقة تفتح المذياع على محطة مجهولة، فصدحت موسيقا حزينة وتعالت تراتيل كنسية شهيدة، فازداد المشهد احتفالية وجدّية، فمدّت عنقها الأملودوكأنها بانتظار خنجر معقوف يجزّه بلمح البصر فتندفع الدماء نافورة حمراء من الضوء والياقوت.
وبعدها، فركت نهديها بورق الريحان، فعبقت رائحة غامضه كانت مزيجاً من احتراق وعطر وعرق، ثم تحدثت طويلاً في الهاتف المعطّل منذ سنوات، وكان الصوت يأتيها ضعيفاً ومتعباً، فتصغي بشغف ولذة ماتعة وتكرّر الكلمات وكأنها تمضغها بعد قدح من الكونياك الأرمني الفاخر.
وحملت زجاجة السمّ مثل ملكة خسرت كل حروبها، وبكل أناة وكبرياءأفرغته في فمها، ثم أغفت في سريرها باسمة، تحلم بصباح ماطر يغسل السطوح والنوافذ والأرصفة، وقد تركت إلى جانبها فنجان القهوة وعلبة الدخان الفارغة، ورسالة لا تبرئ هولاكو فيها من دمها
قالت المرأة:
هذه المخلوقة لا تشبهني.
قال الكاتب:
هذه المرأة نزقة.
قالت اللغة:
ألم أقل لكم، الكاتب لا يخون الكتابة
قال الكاتب:
- أمّا الرجل، ولا بدّ من الرجل- فيجب أن يكون كهلاً، له قامة هشّة من الحوّار. وصوت عميق أجش، يحب القطط والكلاب ويكره سيرة النسوان، وقد طلق حديثاً، فهو بلا مستقبل لامع، أو طموحات كبيرة، يعيش على دخل متواضع يأتيه من بيع الحشائش البرية للدكاكين، بعد أن فقد حقه في الراتب يحب أن يطلق على حيواناته أسماء غريبة مثل: الكابوس، والضفدع، ويا ريت زماني، وبوكاسا، والعقيد، والمنقلب، والحكيم، لكن مثل هذا الرجل الصموت، قليل الكلام سيكون ورطة للكاتب، فكيف اصنع له نهاية مشرّفة، أو موتاً لائقاً بالحكاية؟ كيف أصنع له الحلم والثقة وهو الذي أعلن حربه منذ زمن بعيد على الناس؟!
قال الرجل:
- أنا لا أحب الكتاب، فهم سفاحون يقتلون بطريقة متقنة وغامضه، لقد قتل المرأة قبل قليل ولم يترك فرصة الدفاع عن نفسها أو التراجع عن قرارها، لو اقترب من حيواناتي سأطلق عليه النار.
قال الكاتب:
- الشخصيات المهمشة متعبة.
قال الرجل:
- سأشتري كلباً سلوقياً وأسميه «الكاتب».
قال الكاتب:
- لا بدّ من الحكاية، من مكان ونهر وأشجار وحروب كبيرة أو صغيرة، لا بدّ من رجل وامرأة، وإلاّ لمن تقول المرأة: أحبك؟! ولمن يقول الرجل :أحبك؟.
قالت الحكاية:
- لا بدّ من قصة حب.
-2- مرثية لحمار الوحش
كان قلباً مفتوحاً لكل الشهوات والنسوة الأناثى الباحاثات عن لحظات مسروقة، وللغة بكل أبهتها وزينتها الملكية، وأجراس حشودها الرعوية، وهي تصنع عسلها المسكر من دم الزهر الغض بأناقة وإدمان.
ولم يكن زماناً للرتابة والتعقل والحصافة.
لم يكن وقتاً للأعمال الحاسمة، أو المسرات الجليلة، ولم يكن وقتاً عابثاً للفصول، أو الضحك الصافي يرنّ في الصدر رنين الفضة على الرخام البارد، أو يبه كالفاغية لا تضنّ بعطر على العاشقين في مساءات الحضرة والتطهير.
لم يكن وقتاً من البدد النثير، أو المعدن الواثق، او النبض المعافى يخدش زائدة الدفق الأسر، ويرتل مع سلطان العاشقين نشيده الآبد، يحدو الارواح وهو ثمل يتمايل ويوقد البخور ثم ينقر على الدفّ، يستحضر ما فاته من الزمن، زمن الغفوة الذهبية، حيث لا براح ولا راح.
كان في الرؤيا «أيلاً» وفي الهيام رجلاً يصنع من أكوابه وردة وفي وضوء الدم عاشقاً مصلوباً وفي الختام بداية الحكاية وقطعة من آرابيسكها الصدفي المكفت بخشب الجوز.
لم يكن وقتاً من الوقت، أو تاريخاً محكياً، أو كتاباً مدوناً على عظام البلشون الأبيض لأيام النهر وموازين الموت والناس ولم يكن فرساً في سباق الأفراس الجميلة بين الفرات والصحراء.
لم يكن، أيلاً أو ما يشبهه، يقلق هدوء الكراكي بقرونه الشجرية حين يخزّ صدر الأفق الغافي، يرسم كما الغجري وشماً من اسماك وجراح وعيون وسلاحف تقي من شر الحاسدين . كما لم يكن حرملاً تشتله أصابع الريح بين سلماس الحماد وخذ راف البوادي حيث لا ابتداء ولا أنتهاء إنما بدء البدء ونهاية النهاية.
كان نهباً أو ما يشبه النهب.
قلباً من الغبار الذهبي، أو ما يشبه الغبار الناهض نحو تعب وقيظ تتضور منه طيور الله الهائمة وسط عرق ولهاث وحجارة طالما غسلتها دموع العابدين.
كان عصفوراً على أشجار التوت والعليق، أو ما يشبه العصفور ينقر زهرة بين غصنين، زهرة بين ساقين أدماهما غروب عابر خانتا الله وصفين وانحازتا إلى الثعالب، كانت امرأة من عصب ولحم اغتصبها معاوية على سرير الفرات. فتاهت تبحث عن بكارتها المفقودة في بادية الشام.
كانت مرثية بليغة لحمار الوحش، بلغة الفكر البري حيث يتألق الحجر الصافي كالضحكة في الماء البارد.
...
قال الكاتب:
- تلك مرثية اللغة لا حمار الوحش.
قالت اللغة: لا تبالغ فإن نصّك مفضوح.
ردّ الكاتب:
- هذه اللغة خائنة وهرمة فقدت بكارتها الأولى.
قالت اللغة:
- كان عالياً هذا الدمع ليّساقط مثل ندى الله في كلماته، يطفر طاغياً مستبيحاً خداً من الجوري تخدشه آهة العاشق، وترسم فيه حروقاً هبة النسيم الناعس، ويلهم فقه الموبقات الفاضلة، ويعلن: هذه البساتين رمان، كل رمانة بمملكة، وكل حبة منها جمرة من النار تأنقت بورد الخشخاش، وزهت، تجر وراءها موكباً نحو ثلج الروح لإذابته.
قال الكاتب:
- هذا هذيان:
قالت اللغة:
- كان تالعاً هذا الجيد الناصع، مرمراً للكتابات، حروفها من نار ودم عن الفسق الحلال والغواية الهادية لغايات محرمة على العوام، وكانت عينين من الأقحوان تدوران في وجه من العسل الصافي والسمسم يأوي إليها القطا العطاش فيقع في أشواكها، حيث لا خلاص.
قال الكاتب:
- هذه لغة ومعنى المعنى.
قالت اللغة:
- هذا ظل الروح.
قال الكاتب:
- أيها الإله الحجري احرس هذه الساحرة الصغيرة.
...
تراكمات:
قال الماضي:
- ومن أعجب ما رأيت شحاذان أعميان على جسر بغداد، هذا يتسول باسم على بن أبي طالب، وهذا يتسول باسم معاوية ابن ابي سفيان، والناس في زحام وشقاق وخصام، هذا يدفع وهذا يدفع، وفي الليل- ولا ليل للعميان- يقتسم الشحاذان الحصيلة، وهما يضحكان، فلا تطلق النار على جياد الأمس الهرمة أيها الرجل الغريب.
وقال الحاضر:
- الحزن صديقي، فأعني يا الله على أحزاني.
وقال المستقبل:
- رجل يصنع من أكوابه وردة حمراء، ليصلي ركعتين في العشق وضوؤهما الدم.
وقال الخوف:
- باسمي يفتتح النشيد الأممي اليوم
وقال الحاسد:
- لمَ كل هذه الشبهات؟!
واشتعلت سروة القلب الرمحية بحروف من نار، فرّت اليمامات وطيور الزعرور، والفراشات، ورّف زهر الرمان غيمة من البهار واللهب والعذابات، وحين اتجه الشواظ إلى سويداء القلب، انطلق الأيل يرسم بقرونه الشجرية صورة لأميرة الحرية في هذا الفضاء الواسع.
وقال القائل:
- معلك وحدك سرّ دلمون فما حاجتك إلى الكلمات، والتأويلات قل: آهَ... وترنمّ:
لا تقل خرج آدم من أجل تفاحة
أيها الفضّاح..
وباع جنة من اجل امرأة
فالدود في التفاح.
قال وقال وقال وكان عاجزاً تحت شمس إبليس والعاجز لا يؤاخذ، يبكي على صدر حبيبة تخونه كل يوم وهو يدرك تماماً بأنها تخونه، ولا مفرّ.
قال الكاتب :
- من أين أبدأ الحكاية، من اللغة أم من اللغو؟
قالت اللغة:
ابدأ من حيث شئت ولكن سمَّ الأشياء بأسمائها الحقيقية؟!
ولا تلعب لعبه الاستعارات والمجاز .. قل:
- هذه فراشة لا عنكبوت
هذا جزار لا قديس
هذه محبة لا كراهية
هذا عدو لا حليف
هذا دم لا ماء
هذا وطن لا مقهى.
وقل...:
- هذه القدس لا أورشليم
هذا المسجد الأموي لا البنتاجون.
هذه مقاومة لا إرهاب.
هذا ياسر عرفات لا صلاح الدين
هذه هزيمة لا نصر.
وقل:
- هذا تمييع لا سلام.