قال الرجل في نفسه: سأموت إذا لم أغن.
وقال الرجل القابع في داخله: حذار ففي الغناء موتك.
أحس الرجل أنه ينهب من الداخل، يتمزق مثل راية مهزومة، راحت تدوسها حوافر الخيل، وتتناهبها رماح المنتصرين، استشاط غيظاً وغضباً، وامتلأ بالقهر، وقد أيقن أنه سيتعفن مثل مستنقع راكد، ان ظل صامتاً ومنقطعاً عن الغناء، ففي الغناء حياته، وحياته بدون الغناء لا معنى لها.
تذكر منار.
كانت تقول له: تنتهي عندما تتوقف عن الغناء.
وعندما تجده مدهوشاً ينظر إليها، وعيناه تطفحان بالفرح والمودة والنشوة، تروح تضحك مثل عصفور يغرد، فتستيقظ في داخله فصول كانت نائمة، وتصير اللحظة أغنية تطفح بالعذوبة والضياء، وهي تعانق ضفاف الحلم، وتنتشر في روحه شلال ضياء ونور. دهمه شوق مجنون لرؤيتها.
فقد مضت سنون طويلة لم يرها فيها، مرة واحدة زارته في السجن وبعدها اختفت، لكنها ظلت تعيش في داخله نخلة باسقة من ضوء وماء وشموخ، وعندما اشتد شوقه إليها، ضرب الأرض برجله، ضربها بقهر وسخط ومرارة، بكى طفل كان يرضع من ثدي أمه، واحتجبت الشمس وراء غيمة سوداء.
تمتم الرجل بمرارة: لو كنت أعرف مكانها!!
قال الرجل القابع في داخله: أنت تبحث عن موتك.
فاستمر الرجل يتمزق من الداخل، ويضرب الأرض برجله، فتحول بكاء الطفل إلى صراخ، وظلت الغيمة السوداء تحتجز الشمس، وفرت حمامتان من على شجرة غرب كانت تجاور النهر وتحنو عليه، فازداد حزن الرجل وعذابه، وشوقه لرؤية منار.
قال الرجل في نفسه: يجب العثور عليها.
وقال الرجل القابع في داخله: أنت تلعب بالنار.
لكن منار ظلت تسكن روح الرجل وأعماقه، فراح ينتحب بمرارة ويضرب الأرض برجله، استدارت وجوه المارة نحوه باستغراب ودهشة، وتسامق الغضب والحزن والنحيب في داخله، تسامق حتى امتلأ به، وانطلق يركض في الشارع، وعيناه مشتعلتان بالقهر والجنون والرغبة في الغناء ورؤية منار.
كان الرجل يشكل عالماً لوحده في الشارع، بثيابه الرثة، وشعره الأشعث، ولحيته النابتة، ووجهه الشاحب كالخوف، وحركات يديه الغريبة، وما يرافقها من همهمات مضطربة، وكلام غامض يشبه النحيب في المصائب، وصوت الريح الضائعة، وهي تعبر الليل والأحراش والمغاور في الليالي الباردة.
وكانت عيون الناس معلقة به، تفترش وجهه الكابي حيناً، وحيناً تهبط إلى فمه اليابس، تدور حوله مدفوعة بفضول وشفقة، يظل الفم يرتعش ويبربر، واليدان تتحركان، فيزداد فضول العيون وحيرتها، وعندما تعجز عن الدخول عميقاً في دواخل الرجل، وسبر أغواره، ترتد وهي تتعثر بالخيبة، وتفيض بالدهشة والشفقة.
قالت امرأة: الرجل مجنون.
وقال الرجل: وراء الرجل قصة.
في حين ظل الرجل يرتعش كشجرة وحيدة بلا أوراق تواجه الريح والمطر والعتمة، وعيناه الحائرتان تنظران إلى الناس، ببرود صامت وبلا مبالاة.
فوجوه الناس بدت له غريبة.
منذ أن دخل المدينة اكتشف ذلك.
وجوه لا تشبه وجوه الناس الذين كان يغني لهم قبل أن يعتقلوه ويدخل السجن، وإنما تشبه أرضاً خراباً ميتة، عيونهم فارغة مطفأة، وأرواحهم مسكونة بالصمت والخوف والوحشة، فارغون تماماً حتى من الحلم، والقدرة على الحزن.
كل ما حوله كان ميتاً ومطفأً والناس جثث تمشي، تتحرك وسط الشارع وهي ميتة غادرها الحلم والنبض ووهج الحياة، بلا إحساس أو مشاعر، أدمنت موتها واستراحت إليه، ما عاد يثيرها شيء أو يحرك رعشة في داخلها، كل ما فيها ميت، وما يصدر عنها مجرد حشرجة مخنوقة وبائسة تخرج منذ الصباح وهي ترفل بأكفانها، وتعود في المساء إلى قبورها وهي ترفل بأكفانها أيضاً، ورائحة العفونة تفوح منها وشعر الرجل بشيء يشبه الخوف يركض في شرايينه، عندما تخيل نفسه إحدى هذه الجثث، واختنق بالمرارة والبكاء، ومع هذا ظل يفكر.
عندما ساوموه على صوته، والكف عن الغناء، كانوا يريدون تفريغه من كل شيء، وتحويله إلى مجرد جثة منطفئة، تتحرك بدون حياة أو رغبات أو أحلام، عاجزة عن فعل شيء، وضمه إلى قطيع الهياكل التي تزدحم بها المدينة.
قال الرجل في داخله: ملعونة هي المدن.
وقال الرجل القابع في داخله: ملعون من يفكر مثلك.
دمعت عيناه.
وفي الروح انفتح جرح، راح ينزف.
كانوا يريدونه جثة مسلوبة الصوت، والإرادة، والفعل، مطيعة ومنفذة، ولهذا طلبوا منه أن يتخلص من صوته، ويكف عن الغناء، لأن غناءه خطر عليه، بقدر ما هو خطر عليهم، ومفسدة للناس.
وعندما رفض قالوا له:
-بعنا صوتك، وسنغنيك إلى يوم الدينونة.
زوجته قالت له:
-اقبل.
شيوخ العشائر قالوا له:
-اقبل.
الثعالب والضباع والأرانب قالوا له:
اقبل.
وحدها منار قالت له:
-حذار.ستصبح حياتك تافهة وبلا معنى.
من وقتها بدأت المواجهة، والمطاردة، والاعتقالات، وفر الأمان من داخله وأصبح لحياته طعم العلقم.
يزداد الرجل وحشة واختناقاً.
وجرح الروح ينفتح أكثر، يتسع أكثر، ويغزر نزيفه، فكل ما تقع عليه عيناه مؤلم. مخيف ومفزع، ويجعله أسيراً لهذا النداء الخفي الذي أخذ ينبعث من داخله كالضوء، منذ أن كان في السجن، بدأ هامساً، خجولاً، ثم أخذ يشتد ويتعالى، حتى تحول إلى ما يشبه الصراخ بعد خروجه من السجن، يسكنه ولا يغادره، حتى صار هاجسه الذي يعذبه ويرتاح إليه.
فمع هذا النداء، يحس أنه يجد نفسه التي لا يتنكر لها.
نداء يأتيه من كل الجهات.
دفعة واحدة يأتيه.
خفيفاً كالهواء، أسيراً كالغناء، عذباً كالمطر، قاسياً كالصرخة، ضارباً كالخنجر، يستولي عليه، ويزرع في داخله الدفء والحلم، والأمنيات، ويسافر به إلى أزمنة يشتاقها ولا تغادر أعماقه بالمرة، فيرتجف الخوف الذي يسكنه، ويتجرأ على الابتسام
-المدينة سجنك الآخر.
-والحل.
-في الرحيل وحده خلاصك.
يرتعش الرجل من داخله مثل وردة برية، دهمها البرق والمطر بعد طول انتظار، وعندما تسامق النداء في داخله نخلة تشبه منار، انفتحت روحه على فضاءات بكر، وعانقت الصحراء بشوق يمامة عاشقة، وتمتم بفرح كالحالم.
-وجدتها.
من الصحراء المبتدى والمنتهى.
تململ الرجل الثاني القابع في داخله بامتعاض، أحس بحركته رغم حالة الانتشاء والنشوة والفرح التي كانت تجتاحه وقد عرف الطريق، فازداد تمسكاً بأحلامه ورؤاه، وانفتح عليها بكل ما يملك من قدرة، شعر الرجل الثاني بذلك، وأدرك أن الرجل راح يتحرر من سيطرته شيئاً فشيئاً وقد يصل الأمر بينهما حد الافتراق والعداوة، فقرر أن يتحرك بسرعة ويعتقل اللحظة وأحلامها، لكنه عندما رأى الصحراء تنهض كالرمح، وتستقر في قلب الرجل نخلة وضياء، وتمسح من روحه الاستكانة والخوف والموت، أيقن أن معارضته لن تجدي شيئاً هذه المرة، وأن الصمت هو الأجدى، فهمد مثل جثة محنطة وصمت.
منار كانت تقول له: كل المسافات تبدأ بخطوة واحدة.
وفكر الرجل بحرقة: لكنني وحيد وأعزل.
وجدها الرجل الثاني فرصته التي لا تفوت، فقال له:
-ولا أحد يقف معك أو يساندك.
وعادت منار تشرق في الذاكرة مثل نجمة الفجر:
-لا تتردد. فما زلت قادراً على الغناء.
وانبعث النداء الخفي من داخله كالصرخةة محرضاً، وقد لاحظ تردد الرجل وحيرته.
-يجب أن تبدأ الرحلة وأنت تغني.
-قد أضل الطريق.
-أنا دليلك، فلا تتردد.
وامتلأ الرجل بالشموس الصغيرة، التي راحت تشرق في داخله، وتغمره بالدفء، والنهارات، والعذوبة، وتوقظ كل أحلامه المطفأة و الخائفة، والتي ما تخاذل يوماً في الدفاع عنها، حتى وهو يقف بين جلاديه.
وازداد فرحاً وتوهجاً وهو يحس بمنار تتحرك في داخله وهجاً متألقاً، تختلط بدمه، وتركض في شرايينه خفة ورشاقة وجرأة، وهي تصهل كالمهرة الجامحة، وتملأه بالحيوية، والرؤى العذبة والأغنيات، وبقوة هائلة تجتاحه مثل ريح مجنونة وبرغبة صادقة للغناء والرحيل.
وحيداً يجب أن يبدأ الرحلة.
ووحيداً يجب أن يعانق الصحراء.
سيجتاز المدن راكضاً وهو يغني.
دليله إلى هدفه هذا النداء الآسر المنبعث من داخله كالضوء، لن يتوقف أو يستريح حتى تحتويه الصحراء بكل هزائمه، وخيباته، وانكساراته، وأغانيه، وسيخلف وراءه كل الوجوه التي خذلته، أو خانته أو ساومت عليه.
المدن هي التي ستظل واقفة في مكانها، تجتر موتها، وتختنق بحشرجاتها، لن يلتفت إلى الخلف، ولن يحاول معرفة من سيتبعه أو يتخلف.
سيترك المدن وراءه وهو يغني.
فالغناء صديقه الوحيد الذي ما خانه، أو خذله، أو تخلى عنه، ورافقه حتى في سجنه، وافترش معه أرض الزنزانة في الليالي الباردة، وما تذمر أو تلجلج، أو بدرت منه شكاية، وفي ساعات اليأس، والإحباط، والإحساس بالهزيمة، كان يتصاعد من داخله حنوناً، أليفاً، يمد ذراعيه، ويحتضنه بحنان وألفه، يدخل مساماته، ويظل يهدهده حتى تسكن عذاباته، وتعود إليه روحه المفزوعة، فيصمت، يتمدد إلى جواره، ويظل يراقبه حتى يغفو وينام.
المدن هي التي خانته.
والمدن هي التي خذلته.
والمدن هي التي ساومت عليه.
كل المساجين قالوا له:
-غناؤك يعيننا على وحشة السجن وعذاباته.
يقول لهم بهدوء الواثق:
-هو الوحيد الذي ما خانني.
يقولون له برجاء:
-إنه نافذتنا على الدنيا، فلا تحرمنا منه.
قبل أن يطلقوا سراحه حذروه من ثلاثة: الغناء، والحلم، والرحيل ثم وقعوه على وثيقة بذلك، وقالوا له:
-أينما تكن، نكن نحن معك.
وكان يعرف ذلك.
فكثيراً ما شعر بهم يتحركون تحت جلده، أو في داخل رأسه، وكثيراً ما رآهم في الليل ينسلون من داخله كاللصوص، محتمين بالعتمة، ليتناقشوا فيما سيكتبونه عنه في تقاريرهم.
لقد حذروه من ثلاثة.
والثلاثة فصول العمر ومطره.
ربيعه وشذاه.
بها يصبح لحياته معنى، وبدونها يعمها الخراب.
ومع هذا:
فالنداء المنبعث من داخله، يجتاحه كالسيل، يحسه أقوى من كل أوامرهم وتحذيراتهم، ويمده بعزيمة عجيبة، وقدرة على المواجهة، مع أنه يعرف أن صدره مكشوف، وظهره مكشوف، فكل الذين كانوا حوله خانوه، أو خذلوه، أو ساوموا عليه، حتى زوجته قالت له:
-لقد أفسدت حياتنا.
-والحل؟
-أن تتوقف عن الغناء.
-سأموت.
-خير من أن نموت كلنا.
شم رائحة الخيانة تفوح من كلامها، فأحس بنصل صدئ يعبر تجاويف الصدر، ثم يغور في القلب، ويفتك بكل الأشياء الجميلة في داخله، وحتى يقطع الشك باليقين، ارتفع صوته يغني، فوثبت في وجهه كاللبؤة المسعورة، وهي تصرخ بتحد:
-طلقني أيها المجنون، فأنا ما عدت أستطيع العيش معك.
وقتها انهار كل شيء في داخله.
وتدثرت روحه بالسواد والخيبة والمرارة، وازداد اندفاع النصل الصدئ شراسة ووحشية، فتحشرج صوته وتحول إلى ما يشبه البكاء، ثم لم يلبث أن اختنق في حلقه وانطفأ، وشعر وقتها أنه راح يتكسر مثل آنية زجاجية ارتطمت بأرض صلبة وقاسية.
ولأول مرة رأى كم كان وجه امرأته دميماً، قبيحاً، وشريراً، وكم كان يشبه وجوه الرجال الذين كانوا يقتلعونه من فراشه، أو يحققون معه ويعذبونه.
بينها وبينهم شبه كبير.
وعجب كيف فاته ذلك، ولم يلاحظه طوال السنين التي مرت، وشعر بالأسف والأسى والحزن، على العمر الذي ضيعه مع هذه المرأة.
لقد فضلها على منار.
مع أن منار هي الأقرب إليه، والأكثر تعلقاً به وإثارة، حيثما تحرك يجدها معه، كانت ظله الذي لا يفارقه، مفتونة بغنائه وأشد ما كانت تخافه وتخشاه أن يتوقف عن الغناء أو يساوم عليه.
ويوم راح العسس والمخبرون يطاردونه، وينصبون له الكمائن، كانت تخبئ غناءه في صدرها، حتى تجتاز مناطق الخطر، لتطلقه عصفوراً ملوناً في سماء المدينة.
وعندما كان يسألها عن الأسباب التي تدعوها للمخاطرة كانت تقول له: لأنه صوتنا جميعاً.
فيزداد انبهاراً بها، ومع هذا أخطأ.
أجل لقد أخطأ الاختيار. أمه وحدها عرفت أنه أخطأ الاختيار.
-هند لا تصلح زوجة لك.
-ولكنها تحبني.
-وهي تحب نفسها أكثر.
-أنت تكرهينها.
-لأن في طبعها خسة وأنانية، وسيأتي يوم تكون هي والزمن فيه عليك.
وما تنبأت به أمه حدث.
ارتفع النداء من داخله مثل صيحة من نار:
-لا تتردد، فتندم.
في حين قال الرجل الثاني القابع في داخله يخوفه:
-حذار انهم يراقبونك.
تجاهل الصوت. وأهمل التحذير. وسار في وسط الشارع مثل حصان جامح وهو يغني، غير عابئ بالسيارات والدراجات، والحافلات، والعسس والناس، وعيناه تتوهجان مثل غابة تشتعل في الليل، والناس ينظرون إليه مندهشين.
في البداية انطلق صوته ضعيفاً، خافتاً، مرتجفاً، متعثراً، ومتحشرجاً، آلمه ذلك وخوفه، فتوسل إليه ألا يخذله، وشيئاً فشيئاً أخذ صوته يقوى ويتعاظم وهو ينساح دافئاً، قاسياً وصلباً، وينداح في الشوارح والأزقة والحارات، يقتحم المنازل والأبواب، والنوافذ، يتسلق الأسوار والجدران، ويتجاوز العسس والحواجز، ويتناثر في الساحات والحدائق، وعلى الأسطح والأفاريز، ويعرش في القلوب الميتة ارتعاشة تشهق بحاجتها إلى الحياة، يعانق الأشجار، والورود، والأطفال، والسماء، والعصافير، فتصير شيئاً منه، ويصير شيئاً منها، يدخل في ماء النهر كالماء، يلتصق بالقاع، يحركه بعنف شرس حتى يختلط الماء بالطين والحصى، وتتفجر من داخله ينابيع كثيرة، ثم يخرج عارياً يلمع كالبرق، يفيض النهر، ويختلط هديره بغناء الرجل، ثم يروح يتداعى على الضفتين بساطاً من عشب ندي، وسنابل قمح، وأشجار نخيل.
قال الرجل الثاني: إنهم يتقدمون نحوك.
يقول له بهدوء: إنني أسمع وقع أقدامهم بوضوح.
يقول له: توقف إذاً عن الغناء.
يقول للرجل: ذلك هو المستحيل.
يقول له: أنت تنتحر.
يقول للرجل: سأنتحر إذا لم أغن.
يقول له: أنت تغامر بحياتك.
يقول للرجل: الغناء هو حياتي.
وارتفع صوته عالياً يغني.
فرمحت خيول كثيرة في سهوب بعيدة، وحنا شجر الغرب على النهر حتى التحمت الخضرة بالماء، والماء بالخضرة، والرجل يحلق مع صوته فراشة من توق وعزم، ولون وفرح، تعانق المدى والناس والسماء.
اقترب منه رجل عرف فيه وجهاً كريهاً ودميماً، طالما اقتلعه من فراشه والناس نيام، ومع هذا لم يرف له جفن أو داخله منه خوف، واستمر يغني، فازداد الوجه الكريه وحشية ودمامة وقسوة، واحتقنت عيناه بحقد بشع، حاول جاهداً الابتعاد عنه، لكن الوجه الكريه كان أسرع منه، احتواه، وشده إلى صدره، وراح يفح في وجهه كالأفعى، ظل متماسكاً، وما قارب الخوف أعماقه، وعيناه تتوهجان بقوة، وفي ذاكرته راحت تنبض أحداث واستمر يغني ويحلق مع صوته وعندما هاجمته رائحة زنخة ونتنة، كانت تنبعث من الرجل، تشبه رائحة الدم والتراب، والشجر المذبوح واللحم البشري، والعظام المطحونة، وتفسد الهواء في رئتيه، والهياكل الآدمية أخذت تتحرك كالظلال الباهتة من حوله، وحشرجتها ارتفعت، وبدا ما يشبه الضوء في عيونها، أدرك أن المواجهة واقعة لا محالة، وأن أحدهما سيسقط لا محالة.
وعندما التحم بالرجل، اشتاقت روحه إلى الصحراء.
مد بصره في المدى، فطالعه فضاء من النور، ورأى خيولاً برية كأمواج البحر تأتيه من كل فج عميق، وهي تقطع الفيافي والقفار، وصهيلها يتردد في الجهات، وأسراباً من القطا واليمام، وقطعاناً من الأيائل والغزلان تركض في اتجاهه وخيل له أن امرأة تشبه منار، باسقة كالنخلة، ممتلئة كالسنبلة، كانت تتقدم الجميع وهي تلوح له بيديها الاثنتين، وتحثه على الاستمرار في الغناء، بينما بدأ دمه يركض ليختلط بغنائه، ليركض الاثنان معاً في البرية خيطاً نحيلاً يستقبل خناجر القادمين من الطرف الآخر، والعالم يتحول إلى كرة من النار تحرق السهل تحت أقدام الملثمين الذين أدمنوا موتهم