بتـــــاريخ : 11/15/2008 7:44:23 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1230 0


    الجبل

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : خليل جاسم الحميدي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    تماماً كما تفعل الوحوش والضواري فعل.‏

    دخل الجبل واستجار به.‏

    وحيداً دخله، فأقبل عليه الجبل فاتحاً صدره وذراعيه، احتضنه ثم غيبه في داخله وخبأه، ووقف بينه وبين مطارديه الذين هزهم ما حدث، فراحوا يصرخون، ويشتمون، ويلعنون. والجبل صامت ويبتسم وعندما استحال الوصول إليه، أو معرفة مكانه، قال كبيرهم: "لا مفر له من الموت، سيقتله الجوع والعطش، أو تأكله وحوش الجبل" ثم صوبوا بواريدهم نحو الجبل، وراحوا يمطرونه بالرصاص، ومع هذا ظل الجبل ثابتاً في مكانه، صامتاً وصامداً، ولم يشِ بمكان الرجل الذي استجار به.‏

    وحده الذي فر من القافلة.‏

    ووحده الذي نجا من المذبحة.‏

    بكل الخوف والفزع الذي اجتاحه ركض. لم يكن يعرف وجهته، ولا إلى أين تقوده قدماه، فهو في أرض غريبة عليه، مثلما هو غريب عنها، ليس بينهما تاريخ ولا أحلام، وما درجت خطاه يوماً على ترابها وطرقاتها، أو جاس شعابها ووديانها، أو اشتوى بشمسها الحارقة، وما خطر له يوماً أنه سيدخلها مشرداً ومنفياً، تخفره الجندرمة، وتذبح عائلته فوق قفارها، كلاهما غريب عن الآخر وكلاهما لا يعرف الآخر.‏

    هو أرمني.‏

    ومن قرية أرمنية وادعة ووديعة كالحمامة.‏

    تتناثر بيوتها الحجرية ذات الأبواب المقنطرة، والحدائق الجميلة، على سفح جبل ممرع بالخضرة، مثل جراح في الخاصرة، تحيط بها الغابات الكثيفة، وأشجار الصفصاف والجوز، حولها الأتراك مع مدن وقرى أخرى خرائب تسكنها الأشباح والموت والبوم، والأرواح الهائمة التي تخرج في الليل من قيعان الأنهار، وأعماق الغابات، وحواصل الطير، ومن المغاور والكهوف والأودية، وهي تتدثر بدمها المطلول، وجراحاتها الطرية النازفة.‏

    تنهد الرجل الأرمني وقد غلبه البكاء.‏

    وقريته تلوح له مثل حلم يرتعش في القلب ويضيئه، يمد ذراعيه نحوها بشوق، يشرعهما في المدى لاحتضانها، تظل واقفة في مكانها لا تتحرك، يزداد اندفاعه نحوها، فتتحول حمامة مذعورة تقطر دماً، يتقدم أكثر، فتنهض بينهما أراض، وطرقات، وغابات، وجبال، وأنهار، ووديان، فيدرك بعد المسافة التي باتت تفصل بينهما، واستحالة اللقاء.‏

    فيتمتم بحزن وهو ينتحب من الداخل: "يا إلهي، كم باتت زيتون بعيدة عني" فقد مضى عليهم زمن طويل، وهم يهيمون على وجوههم في الأودية، والقفار، وسفوح الجبال، يضربون في الأرض، تخفرهم الجندرمة، ويتخاطفهم الذبح، والسبي، والتيه، والموت، حتى امتلأت الأرض والوديان بجثثهم، لقد أبيدت القافلة، ومن بقي منها مجرد أشباح كائنات بشرية، نسيت ذاكرتها الجهات والمسافات والأيام، لأنها ما عادت تعني لها شيئاً على الإطلاق وهي ترقب الموت وتنتظره.‏

    ومع هذا يمم وجهه صوب الجنوب الشرقي، وانطلق يعدو بعزم حصان بري مطارد.‏

    كل شيء حدث بسرعة.‏

    حتى هو لا يعرف كيف حدث.‏

    فجأة وجد نفسه يركض، في البداية زحف، وبعدها راح يركض دون أن يفطنوا لفراره.‏

    وحيداً كان يركض مثل ضبع في البرية.‏

    مخلفاً وراءه كل شيء، لم يحمل معه إلا رعبه وفزعه، وصور الجثث والوجوه الشائهة، والبطون المبقورة التي يتزاحم فوقها الذباب، والبعوض، والغربان، والطيور الجارحة، وعري الأجساد المذبوحة بوحشية، ودماؤها المختلطة بماء البليخ والفرات.‏

    استغل انشغال الجندرمة في المذبحة، وصراخ الضحايا، فانطلق يركض، بدون إعداد أو تحضير راح يركض، والموت يركض معه، والأرض تركض معه، وبلدته الذبيحة بكل خرابها وخرائبها ودمارها، وموتها، ووجوه أهلها تركض معه، هاربة خائفة، تبحث عن الخلاص، وأمل ضعيف في النجاة نبق في داخله، شد من عزيمته، وحثه على الفرار.‏

    وتذكر ما حدث.‏

    من كل الجهات طوقوا القرية، أشعلوا فيها النيران، وراحوا يذبحون الناس مثل الخراف، زوجته احتضنت أولادها وراحت تبكي، صرخ فيها:‏

    -ليس هذا وقت البكاء يا امرأة.‏

    دفعهم أمامه وانطلقوا يركضون، (أرام) كان يركض بجواره، (وسيرانوش) كانت تمسك بيده، وزوجته في الخلف وقبل أن يخرجوا من القرية، أحاطت بهم الخيل وسدت عليهم طريق الفرار، من وقتها: بدأت مسيرة التيه والموت والعذاب.‏

    لم يفطنوا لفراره.‏

    كما ينسل اللص ترك مكانه.‏

    بهدوء وصمت انسل، وراح يدب كالنملة.‏

    التصق بالأرض، وداخله مترع بالخوف والمرارة والبؤس، التصق بها حتى شعر أنهما تداخلا، صارا شيئاً واحداً، وامتلأ كل منهما بالآخر، وخيل إليه أنه راح يسمع وجيب قلب الأرض، وخرير الحياة في عروقها، فأشفقت الأرض عليه، واستجابت له، وقد آلمها ما هو فيه من بؤس وعذاب ومرارة، فالتصقت هي الأخرى به، وأعطته نفسها وصمتها، وكتمت سره.‏

    كالثعبان راح ينساب فوقها.‏

    ببطء كان ينساب، دون أن يصدر في انسيابه صوت أو حركة، أو ما يلفت الانتباه.‏

    وعندما غيبه كثيب ترابي، رسم إشارة الصليب، وراح يعدو، بكل ما فيه من خوف ورغبة في الحياة كان يركض، والأرض التي راح يطويها، وهي تمتد أمامه كالبساط الصوفي، تغريه بالفرار والمحاولة، وانشغال العسكر الجندرمة بتصفية ما تبقى من القافلة، شجعه على الهرب أيضاً، فقد أعمتهم رائحة الدم، وصراخ الضحايا، والفزع الذي اكتظت به العيون، فتحولوا إلى قطيع من الذئاب المسعورة التي نسيت كل شيء، ولم تعد ترى إلا الهياكل العظمية المتداعية، والأجساد البشرية الضعيفة التي هدتها المسافات، والتعب، والمرض، والجوع للرجال والنساء والأطفال الأرمن الذين اقتلعوهم من ديارهم، من الشمال والشرق جمعوهم، ثم وزعوهم على قوافل، وشردوا تحت كل سماء ونجمة قافلة، وسيروا معهم الجندرمة والموت.‏

    وحيداً كان يركض.‏

    والجندرمة الأتراك مشغولون في المذبحة، والدم الأرمني يتناثر في كل الجهات، ويلطخ وجه العالم الصامت عن مذبحة الأرمن، وما يحدث لهم، وصوت الضحايا يطارده، وعينا ابنته (سيرانوش) الضارعتان نحوه تطاردانه، وهي تصرخ:‏

    -لقد قتلوا أرام يا والدي.‏

    سقط قلبه وانكسر ظهره.‏

    -وأمي هي الأخرى تحتضر.‏

    استنجد بدموعه، وراح يبكي كالنساء.‏

    والرجال يجرونها من شعرها، ويمزقون ثيابها ولحمها وبراءتها وهي تتمسك بالأرض والحصى والتراب، تستغيث وتستنجد، وحين اختفت مع الرجال خلف صخرة كبيرة، ولم يعد يسمع إلا صراخها الذي ما لبث أن انقطع، عرف أن كل شيء قد انتهى، وأن سيرانوش الحلوة، ضاعت هي الأخرى منه، مثل آرام وأمه، فتمزق قلبه قهراً وحزناً، مذلةً ومرارة.‏

    لكن البواريد التي كانت تحوطه، ويداه المقيدتان، منعتاه من القيام بأي حركة، فتمنى لو يموت هو الآخر، أو ينطلق رصاص البواريد نحوه دفعة واحدة، فيمزق رأسه وصدره، لو يذبحونه من الوريد إلى الوريد، ويجزون رأسه كالخراف، أو تنشق الأرض وتبتلعه، فيختفي فيها مع عاره وذله وعجزه ومواته، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، فأقعى مثل كلب عجوز وأعمى ينتحب بمرارة، وعجز وتشظي، حتى جفت مآقيه.‏

    وبكل الخوف الذي يسكنه التفت إلى الخلف، فرآهم يندفعون وراءه كالعاصفة، فعرف أنهم فطنوا لفراره، وظل هو الآخر يركض. حافياً كان يركض.‏

    بقدمين متورمتين، وداميتين كان يركض.‏

    لم يبال بالأشواك والحصى والأحجار الصغيرة التي كانت تجرح قدميه وتدميهما، ولم يفكر بالوقوف، لأن في الوقوف موته، فهم يتبعونه مثل كلاب الصيد المدربة، ولن تشفع له عندهم أرض ولا سماء.‏

    أكثر من مرة وقع.‏

    لكنه كان ينهض ويتابع الركض، وقلبه يخفق بشدة، دون أن يتوقف تفكيره لحظة واحدة، رغم كل الذي هو فيه، لكن الخيل راحت تقترب منه، تطبق عليه وتحاصره، ارتبك تفكيره، وضاق مداه. أينما التفت كان يرى الخيل مندفعة نحوه.‏

    كل الجهات بدت له محاصرة بالخيل والجندرمة والبواريد.‏

    الحصار بات الحقيقة الوحيدة الماثلة أمام عينيه بوضوح، الكون كله بدا له محاصراً، الأرض والسماء، الشمس والوهاد، الليل والنهار، ومياه الأنهار محاصرة.‏

    وشعر أنه يختنق. يموت. ينطفئ.‏

    فهو مجرد كائن من رماد عاجز، يحمل تابوته على كتفيه، ويفر هارباً من الجندرمة، والموت الذي يطارده ويطبق عليه من كل الجهات.‏

    فود من كل قلبه لو ينبت له جناحان ليطير يحلق بهما عالياً، عالياً، مخترقاً الفضاء والسحاب، حتى تغيبه زرقة السماء وتخفيه عن أعين المطاردين وعندما يتجاوز منطقة الخطر لن يتوقف عن الطيران، سيظل يهوم بجناحيه في الفضاء حتى يصل قريته، وقتها سيطوي جناحيه، ويرتمي فوق ترابها يبكي، وليحدث بعد ذلك ما يحدث، تلك كانت معجزة، لكن زمن المعجزات مضى وولى، وجاء زمن الذبح والمطاردة والتيه والموت والدم، زمن الخوف والذئاب والاغتصاب والجنون والدمار.‏

    وعادت الأرض تضيق عليه أكثر.‏

    فالخيل تكاد تدركه، وقع حوافرها بات يصل إليه بيسر ووضوح، ثم يختلط مع دقات قلبه القوية الجامحة التي تكاد تثقب صدره بعنف شرس، ويملؤه بالخوف والمرارة والقشعريرة، فالأرض أخذت تنكمش وتتقلص، وتفر هاربة منه، وتتركه معلقاً في الفراغ، وركضه لم يعد يجدي نفعاً.‏

    يحس أنه يروح في مكانه، وهو المشهود له في قريته الجبلية، أنه أسرع من كلب الصيد، ولكن ماذا تفيده كل شهادات العالم، إذا كان العجز يسكنه في هذه اللحظة، وقدماه تخونانه، تغدران به في هذا الوقت الذي صارت فيه الخطوة تعادل العمر كله.‏

    فقدماه باتتا لا تتحركان، أو تبتعدان به عن الخطر، خاملتين، بليدتين لا تحسان محنته ولا البلاء الذي هو فيه، هو واقف، وأعداؤه وحدهم الذين يركضون ويطبقون عليه.‏

    المسافة بينه وبينهم ضاقت أكثر، وصدره يضيق بأنفاسه اللاهثة، المتقطعة، وحلقه جاف حتى اليباس، كل ما فيه كان خائفاً ويرتعش، والذاكرة تتداخل فيها الصور وتتشابك، يختلط الماضي بالحاضر في عناق باك، غارق بالدم، وموشح بالخوف والسواد والإحساس بالقهر والموت.‏

    التفت في ذعر فاضح إلى اليمين وإلى الشمال، خلفه وأمامه، عفر عينيه في الجهات، فارتد خائباً، ولم يجد أثراً لكائن، فخالجه رعب حقيقي، وأيقن أن نهايته دنت، فاللحظة تقطر موتاً ودماً، وشعر بالموت يتعثر في روحه ودمه، فعاد يرسم إشارة الصليب. وقد أفزعته صورة موته التي تصورها. داهمته رغبة في الصراخ، عل الريح تحمل صراخه، وتطوف به في أرجاء الدنيا، فيأتيه من يسمعه، ويخلصه من فصل الجنون والرعب والموات الذي يعيشه، لكنه عندما فتح فمه التصق صراخه بسقف الحلق خائفاً ومشلولاً، ولم يقوَ على الخروج، فراح ينتحب من الداخل بصمت.‏

    وفي لحظة اليأس والعجز التي استولت عليه تماماً، وهدته تماماً، وفرغته من أي شعور بالأمل، وباتت النجاة حلماً مستحيلاً، فكل السبل والمنافذ أغلقت في وجهه، لاح له في الأفق ما يشبه الجبل اهتز الرجل، وارتج الأمر عليه.‏

    حدق بإمعان ولهفة، فبدا له الجبل جاثماً، بين السماء والأرض وهامته تناطح السحاب مثل إله إسطوري، وهو يوميء إليه من بعيد ويناديه.‏

    ارتجف قلب الرجل واختلطت مشاعره، لكن الشك ظل في داخله يشوش يقينه مما أحدث بلبلة في ذهنه وحركته، وأعتقد أن في الرؤيا خطأ وما يراه مجرد وهم صنعه خياله المرتعد، لكنه عندما عاد يدقق النظر ثانية، وجد الجبل حقيقة تشمخ أمامه، فاستيقظ فيه الأمل الذي خبا منذ لحظات مثل وردة باغتها الصباح والندى، وراح يخضر داخله، فعاد يندفع بقوة إلى الأمام يريد الوصول إلى الجبل ويدخله، ولن يوقفه الحصار ولا الجوع والعطش، أو الخيل المندفعة وراءه، ولا الأشواك والحصى والأحجار، ولا صراخ العسكر والرصاص وقصر المسافة، لن يتوقف عن الركض، معجزة وتحدث، وعليه أن يتعلق بها، فهي دليله إلى الجبل، ولم تعد عيناه تبصران سوى الجبل، كل شيء غاب واختفى، والجبل وحده الذي بقي، يناطح الغيم، ويسد الأفق، والوصول إليه حلم الرجل الذي يسكنه، والجبل ينهض في داخله ملجأ وملاذاً ومنارة، وروحه فرت تسبقه إليه لتتماهى مع قممه، ومغاوره، وثناياه، وخيل للرجل أن الجبل راح يتقدم نحوه، ووقع أقدامه وهي تدب على الأرض يصله بوضوح، فعاد الأمل يورق في داخله، ينديه ويخضره، والمسافة بين الاثنين راحت تتقلص تذوي، تتلاشى، تموت وتنعدم، كلاهما يحث الخطى نحو الآخر، يزداد اضطراب الرجل وهو يرى الجبل يفتح ذراعيه لاحتضانه، وتتنامى في روحه بوارق فرح، وقد خيل له أنه بات يسمع أصوات أجراس كنائس بعيدة، وتراتيل وصلوات، والرجل يعيش اللحظة ويمتزج بها، ويتمتم في داخله كالحالم: ما يحدث معجزة، أجل إنها المعجزة بعينها.‏

    وأصوات الخيل، ورجال الجندرمة والرصاص باتت تأتيه من بعيد بالكاد يسمعها، أو هو لم يعد يسمعها، فيبتسم في داخله رضى ومسرة، ويزيد من سرعته، والشمس وقتها كانت تجنح للغروب، فتغشاه بلدته زيتون بشوارعها وغاباتها وحدائقها، وسفوحها الجبلية العالية، أمكنة كثيرة، ووجوه كثيرة لاحت له في تلك اللحظة، فأقبل عليها وأقبلت عليه، وراح يعانقها وهي تحتضنه، وكل منهما يبكي على صدر الآخر، ثم لم تلبث أن ذابت فيه، وانساحت في داخله مثل دمه، أفقاً يضيء حلم القلب، ويطوقه من كل صوب، فيتمسك بها في صلابة، ولم يتركها حتى وهو يدخل الجبل وعندما دخله، كان النهار يلفظ أنفاسه الأخيرة، والليل راح ينشر عباءته السوداء على الدنيا، فارتمى في حضنه منهكاً ومكدوداً، حزيناً وبائساً، ومع هذا، وفي اللحظة التي احتضنه فيها الجبل، انفجر يضحك كالمجنون، ثم لم يلبث أن أجهش في البكاء، ووجه (سيرانوش) وحده الذي راح يتدفق في الذاكرة، ويحاصره من كل الجهات.‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()