ذهب دون وداع.. لم يقل شيئاً قبل الرحيل.. حزم أمتعته في غفلة عن البيت، ثمّ خرج إلى غير رجعه. تنبهّت فاطمة إلى غياب سليم المفاجئ، لكنّها لم تقم بأيةّ إجراءات تخص التلميح أوالتصريح، خشية انتشار الخبر بشكل ينعكس عليها، وعلى أطفالها سلباً.
أخفت همّها بادئ الأمر، لعل الزوج يكون قد غادر المنزل في مهمّة قصيرة، ثمّ يعود ...
لكنّ الفترة طالت، وتجاوز الغياب حدّه المعقول، وبات السكوت مستحيلاً. أخبرت صغارها بالحقيقة، مختلقة لرحيل أبيهم المفاجئ أعذاراً متعدّدة، وكان عددهم ستة، بالإضافة إلى جنين في أشهره الأولى ... ينام في بطنها الذي مافتئ ينتفخ شيئاً فشيئاً، معلناً تمّرده على ماحدث. بعد عام ونيفّ، وبعد أن كانت الأم قد أنجبت طفلة، واجهت عيناها النور، دون أن يهدهدها أب، ودون أن يطلق عليها اسماً، أوحتّى يحتج على مجيئها.. بعد عام ونيّف من الضنك والعذاب أمضته فاطمة متنقلة بين هنا وهناك في السؤال والتقصيّ .... عرفت أخيراً مكانه وعرفت أنّه قد غادر القطر، ولن يعود إلى الوطن أبداً .
ذرفت دموعاً مالحة كملوحة أيّامها المقبلة. بكت بحرقة على حظّها، وعمرها، وشبابها.. حاولت أن تتعرّف على سبب واحد لهجرانه لها، فلم تجده.. فتّشت عن مبرّرات مقنعة وكافية لتبرئته أمام نفسها، وأمام أولادها، وأمام المجتمع، فلم تعثر عليه، بدأت رحلة الهموم بالنسبة إليها، وراح الصغار يكبرون، وتكبر معهم المسؤوليّات الجمّة التي عجزت في البداية عن حملها ... إذ استنجدت بالأقارب فلم ينجدوها " ولجأت إلى الأصدقاء والمعارف، فتهرّبوا منها.. لذلك، قرّرت أن تعمل ... وكان عملها أوّل الأمر يتوزّع ما بين الخدمة في بيوت الناس صباحاً، ومابين صناعة بعض المعّجنات لأحد مخازن الحلويّات مساء ... ثمّ استقرّ حالها بعد ذلك على القيام بمهنة كانت قد تعلّمتها منذ صغرها، وهي الخياطة.. فقد ملكت مقدرة مزاولة هذه المهنة، وأتقنت أداءها بالتدريج.. لذلك اشترت ماكينة خياطة ... جمعت ثمنها قرشاً إثر قرش، وراحت تخيط للآخرين بالأجرة.. لم يكن الوضع سهلاً أو مريحاً في بدايته، لعدم شهرتها، وقلّة زبائنها.. لكنّ الله لم ينسها، فقد أعانها على خوض مرحلتها الجديدة، وسهّل لها الطريق الذي صمّمت السير فيه، لتصبح بعد زمن من العمل الدؤوب المستمرّ، إسماً معروفاً في عالم الحياكة والتطريز، وبدأت أحوالها الماديّة تتغيّر، وأمور أسرتها تنتقل من الحسن إلى الأحسن.. حمدت الله وشكرته على نعمته وفضله ورحمته التي شملها بها، وعوّضها عن فقرها، وفرّج كربتها بعد نضال مع الزمن دام سبعة عشر عاماً، استطاعت خلالها أن تربيّ أبناءها أحسن تربية، وتخرجهم للدنيا رجالاً ونساء صالحين، وتوصلهم إلى وضع حياتي مقبول .... أمّا الأب فقد قلّت أخباره وندرت حتىّ انقطعت تماماً، ولم يعد يسأل عنه، أو يذكره أحد... إلى أن كان يوم..
طرق الباب فيه على عجل، وكان الطارق برقيّة تقول: " سآتي بعد أسبوع "
ذهلت فاطمة ... سكتت عن الكلام، ولجمت لسانها الدهشة حين قرأت التوقيع ... معقول ؟! سيعود ؟! بعد هذا العمر ؟!.. ولماذا ؟ بدأ لسانها يتمتم، يتخبّط بنواشذ الكلام ...قلب الأولاد جميعاً شفاههم، مستنكرين الأمر، مبدين عدم الارتياح، وعدم قبول ما سمعوا.. قالت إحدى البنات..
- لماذا يريد العودة ؟
عقّب أخوها
- ماذا يبغي منّا ... وماذا نبغي منه ؟
تابعت الصغري:
- نحن لا نرغب بمجيئة ...
ثمّ أضافت:
- أنا لا أعرفه، ولا أريد..
بقيت الأم على شرودها ساهمة، واجمة، حائرة بماذا تجيب، وكيف تتصرفّ، وماذا تقول للأولاد، وعلى أيّ أساس تقنعهم بوجوده، وبأيّة صفة تستقبل ذاك الذي هجرها عمراً بحاله، وتركها وأطفالها وهم بأمسّ الحاجة إليه ... عاد كالغريب، رجع، وقد نأت عنه العافية، وتغيرّت أحواله وملامحه.. أتى مريضاً مشلولاً محمولاً على نقّالة، ينخر السوس عظامه، والعلل تتوزّع دماغه وقلبه ... ولا بدّ له من خادمة وممرّضة للعناية به.. وليس هناك سوى فاطمة، التي حكمت عليها الحياة بالعذاب.. ترى هل تقبله ؟.. أم ترفضه ؟ وما رأيكم ...