يقول الكاتب الفرنسي الساخر أندريه دال في مقالة كتبها إثر زيارته لأميركا قبل أكثر من خمسين عاماً، إنه في لحظة الوصول، يتعرض لمئات الأسئلة الغريبة المصفوفة في ثماني صفحات من القطع الكبير، وإن عليه أن يجيب عنها جميعاً، مثل: ما هو اسمك؟ وما هو عنوان الشخص الذي يجب أخطاره في حالة وفاتك؟ وهل أنت من أعضاء جمعية كو- كلاكسن- كلان السرية؟ وكيف توفى والدك؟ وهل شعرك طبيعي أم صناعي؟ وهل تنوي الطلاق من زوجتك؟ وكم من النقود تحمل في جيبك؟ وما هو رقم حسابك في البنك؟ وهل أنت من عشاق الممثلة بولا ليغري المائة والأربعين؟ وكم في فمك من الأسنان الذهبية؟ وما هي درجة حرارتك الطبيعية. وما الغرض الحقيقي من سفرك إلى أميركا؟ وكم تنوي أن تبقى هنا؟ إلى آخر ذلك. أما الأسئلة التي توجه إلى جنس النساء فيرى دال أنها أكثر غرابة!
ويضيف أنك حين تصل إلى هناك، يطلب منك أن تعرض نفسك على طبيب، ليفحص كل جزء في جسمك بالمكروسكوب وبالتلسكوب وبجميع أنواع النظارات! ولم يسبق لطبيب أن أهتم بصحتي مثل اهتمام الطبيب الأميركي بها، فهو يحقنك ضد دزينة من الأمراض، ثم يختم جواز سفرك وظهرك وصدرك وبطنك بنصف دزينة من الأختام، وفي الوقت الذي ينقط في أنفك محلول "الفينول" تمر أمتعتك تحت أشعة أكس، وتمر جواربك تحت الأشعة البنفسجية!
ويصف أندريه دال ناطحات السحاب في نيويورك، وشارع برودواي والبنوك والسينما، ويتحدث بطرافة مضحكة عن شركات التأمين فيقول: في الولايات المتحدة يؤمنون على كل شيء، وضد كل شيء، فمنهم من يؤمن على العيون الجميلة، وأقدام الراقصات، وأيدي الجراحين، وحناجر المطربين، وأدمغة الكتاب! ومن غريب ما يروى أن الآنسة مارغوري بيستروك، وهي ممثلة جميلة في نيويورك، أمنت على الشامات في جسمها، وكانت هناك سبع شامات: اثنتان منها تقعان في الشمال الغربي من الساق اليسرى. ويقال، إن مدير شركة التأمين، بعد أن عاين هذه الشامات، ومر عليها بأنامله لتوقيع عقد التأمين، اقترن بالممثلة الجميلة، كي يرعاها، ويرعى شاماتها السبع بنفسه! غير أنه- مدير الشركة- وجد نفسه مضطراً إلى التأمين على نفسه ضد خيانات زوجته، وكان يقبض لقاء كل واقعة، مبلغ عشرين ألف دولار، الأمر الذي أدى إلى إفلاس الشركة في فترة وجيزة!
إن أميركا التي وصفها أندريه دال قبل أكثر من نصف قرن بأنها "مجنونة أحياناً" لم تتغير كثيراً في جوهر جنونها، فناطحات السحاب ما تزال ناطحات سحاب، إن لم يردم بعضها ليشيد مكانه ما هو أعلى، وشارع برودواي ما يزال كما هو بعجيجه وصخبه وصرعاته، وكذلك السينما ونجومها وصناعتها، والبنوك وأفانينها وأساليبها في الاحتفاظ بأموالها وتكبيرها واقتناص العملاء.. أما شركات التأمين، فان بدعها ما تزال كما هي، وإن صارت أكثر غنى مما كانت عليه قبل خمسين عاماً!
كان الفرنسي، مثل أندريه دال، ينظر إلى أميركا، نظرة أقرانه الأوروبيين، بأنه هو صاحب الحضارة والعراقة والقوة، وأن أميركا بلد طارىء وأهلها حديثو نعمة..
وربما يكون كل ما تغير عبارة عن استئثار أميركا بالقوة، وهيمنتها على أوروبا والعالم، لكنها لم تتمكن من تحقيق مرتبة حضارية عريقة تفوق بلداً مثل فرنسا أو بريطانيا..
أما الإجراءات التي استقبل بها أندريه دال قبل خمسين عاماً، فإنها لم تتغير، لكنها صارت تتم في السفارات الأميركية للحصول على تأشيرة دخول!