إنني أتهيب عادة كل ما له علاقة بالشرطة، قد اخطئ مرة وأنا أمشي في الشارع على قدمي أو وأنا أقود سيارتي فينهرني الشرطي أو يعاقبني بغرامة مالية، كل ذلك أمر عادي وهين لا يخيفني، قد يزعجني قليلاً أو كثيراً هذا مما لا شك فيه، ولكنه لا يخيفني، ربما لأنني تعودت على ذلك، أما أن أستدعى إلى المركز فهذا شيء آخر تماماً..
هذه هي ورقة الاستدعاء في جيبي، ورقة بيضاء، هي في الواقع استمارة فيها كتابة مطبوعة ونقاط تتلو الكلمات المطبوعة في كل سطر، كتب عليها اسمي بكل وضوح، كما كتب عليها عنواني كاملاً، هي إذن موجهة إلي ما في ذلك شك، وفي الأعلى يوجد اسم المحافظة التي استدعتني وقدْ كتب بخط عريض، وهي مختومة في الأسفل بطابع هذه المحافظة أيضاً، لم يكتفوا بوضع اسمي وعنواني، ولكنهم أضافوا باللون الأحمر وبخط اليد: (مستعجل جداً) ترى، ماذا في الأمر...؟
مواطن مسالم، يؤدي كل واجباته الوظيفية وحتى البيتية، مخلص كل الإخلاص في عمله يعرف طبيعته وأخلاقه الزملاء والجيران وأطفالهم، بل وحتى الأعداء والحساد، استغفر الله لا أعرف أن لي حساداً أو أعداء، لم يسرق ولم يخاصم أحداً في حياته، فلماذا يستدعى إلى مركز الشرطة، هذا المركز الذي اتهبيه والذي لم أدخله في حياتي على ما أذكر سوى مرتين، وفي هاتين المرتين دخلته طوعاً، أما هذه المرة فإنني أحمل في جيبي استدعاء كتب عليه اسمي وعنواني وكتب عليه: (مستعجل) مستعجل..؟ ترى.. ماذا في الأمر؟ أما كون الأمر مستعجلاً فذلك مما لا شك فيه، فقد أخبروني في البيت مساء عندما عدت من العمل أن الاستدعاء لم يصل عن طريق البريد، ولكن جاء به أحد رجال الشرطة كان يركب دراجة نارية، إذن لا بد أن الأمر هام للغاية، وإلا لماذا كل هذا؟ وقفت قليلاً أمام باب المحافظة أفكر في الأمر لعل هناك خطأ ما أو لعلني أتذكر أمراً ما يربط بيني وبين الشرطة.. تذكرت أن إحدى المرتين اللتين دخلت فيهما مركز الشرطة كانت بسبب مشاجرة عنيفة بين اثنين من الجيران استعملت فيها الكلمات في البداية ثم الكلمات والعصي والخناجر، وأنني ذهبت إلى المركز بصفتي شاهداً على ما وقع وأن الشرطة أخذت مني معلوماتي الشخصية، في علمي أن أحد الشخصين رفع القضية إلى المحكمة، ولا أعلم بعد ذلك ماذا تم بينهما، ولكن هذا كان قبل حوالي عشر سنوات، هل يعقل أن تكون هذه القضية هي سبب استدعائي؟ قد يكون ذلك، فالقضاء عندنا باله واسع جداً..
إذا كان الأمر كذلك فإنني سألوم رجال الشرطة على الطريقة التي استدعيت بها، ألا يجدون طريقة أخرى لاستدعاء إنسان يساعدهم على تحري الحقيقة..؟ المهم، هل ستظل واقفاً هنا؟ ربما ستثير شكوكهم إذا بقيت هنا أكثر من هذا، تشجع وادخل وفي الداخل ستعرف الحقيقة، أنت لم تسرق ولم تقتل ولم تكن في يوم ما سياسياً خطيراً حتى تخاف.. أو انتظر انتظر قليلاً.. فكر لحظة أخرى، ألا يكون الأمر يخص بعض المخالفات المتعلقة بالسيارة والتي لم تدفعها حتى الآن، لقد دفعت بعضها وتركت بعضها الآخر بسبب النسيان، هي لا شك أنها هي، إنها الأمر الوحيد الذي يربطني بالشرطة، فعلاً.. لقد أخطأت، كان من المفروض أن أدفعها في وقتها، ولكن النسيان.. لعنة الله على النسيان، ماذا أفعل معه، دائماً يسبب لي مشاكل مع الغير ومع جهات كثيرة، سأعتذر لهم وأعدهم بأن أدفع في أقرب وقت ممكن حتى لو كانت هناك زيادة، الزيادة؟ ستكون هناك بدون شك زيادة هي ضريبة النسيان.. لا يهم، أنا مستعد للدفع، ومع ذلك سألومهم حتى لو كان الأمر يتعلق بالمخالفات، ألم يكن في استطاعتهم أن يرسلوا رسالة بشكل عادي يدعونني فيها إلى أن أتصل بهم لأدفع ما علي من مخالفات؟ المهم.. ما لي وهذا التفكير كله، ربما الأمر لا يتعلق بقضية المخالفات إطلاقاً، ربما يتعلق بقضية شهادتي في خصومة الجارين أو ربما هو أمر ثالث لا علاقة له بالقضيتين معاً، فلأ دخل لأعرف حقيقة الأمر..
كان الباب الخارجي يؤدي إلى قاعة انتظار مربعة الشكل، يجلس على الكراسي المصطفة أمام جدرانها بعض الأشخاص بينما أشخاص آخرون، فضلوا الوقوف والاتكاء على الجدران، على الرغم من وجود كراس فارغة..
ألقيت نظرة على الوجوه وأنا أدخل، كان التوتر مسيطراً على الجميع، هناك شاب يلف رأسه بخرقة قماش بيضاء تلون قسم منها بالأحمر، كان وجهه يبدو أكثر اصفراراً من وجوه الآخرين، بينما الشرطي الجالس وراء مكتب قديم في زاوية الغرفة، وأمام الباب المؤدي إلى داخل البناية يطلب من امرأة في سن الكهولة أن تتفضل بالجلوس ريثما يحين دورها في الدخول لتقديم شكواها مكتوبة، ويفهمها أن ما تتلفظ به من كلام بصوت مرتفع لا أهمية له ما دام لا يسجله، وان عليها أن توفره لتقوله لمن سيستقبلها بعد قليل، الشرطي بدوره كان متوتر الأعصاب ولذلك خشيت إذا سألته أن يمسك بخناقي ويدفع بي في عنف إلى الخارج أو يتصرف معي تصرفاً لا يرضي، مع ذلك تشجعت وفكرت ألا فائدة من التردد وقد صرت في داخل الغرفة في مواجهة الشرطي، ترك هذه المرأة التي كانت ما تزال تلح في الشكوى وتوجه إلي يسألني ماذا أريد، أحسست أنه كان يبحث عن أية فرصة للتخلص من تلك المرأة وقد وجدها بحضوري.. قدمت له الاستدعاء الذي كان في يدي، نظر إليه في عجل ثم أشار علي بالصعود إلى الطابق الأول والتوجه إلى المكتب رقم 2، تشجعت بسبب الهدوء الذي خيل لي أنه قد عاد إليه وسألته، ماذا في الأمر، فأجابني بأنه لا يعرف، فالقضايا والمصائب كما قال لي كثيرة، وعندما تصعد إلى الطابق الأول ستعرف كل شيء..
جواب هذا الشرطي المقتضب زادني حيرة، كنت أصعد الدرج ورجلاي ترتجفان حتى إنني في منتصف السلم راودتني فكرة أن أعود على أعقابي وأؤجل المجيء إلى وقت آخر، إلا أن هذه الفكرة ظهرت لي في بعض جوانبها سخيفة، فما دام حضوري أمراً لا مفر منه فلماذا التأجيل، إذن لاكمل بقية درجات السلم..
بمجرد صعودي وجدت المكتب رقم 2 على يميني، دققت الباب ودخلت، وجدت رجلاً آخر قد سبقني، كان يحادث الشرطي في هدوء إلى درجة أنني لم أسمع صوته قبل أن أفتح الباب، وإلا لما كنت دخلت، عندما رأيته حاولت أن أعتذر وأخرج لانتظر أن يتم مقابلته، إلا أن الشرطي كان لطيفاً فطلب مني أن أتفضل بالجلوس، كان كهلاً في حوالي الخمسين من العمر، أو ربما يتجاوزها قليلاً، نصف شعر رأسه على الأقل كان أبيض، يضع نظارة طبية على عينيه، وتبدو عليه ملامح الطيبة..
وكان الرجل الجالس قبالته يقاربه في السن حسبما قدرت، أسمر اللون بينما كان شعره أسود تتخلله شعرات بيضاء قليلة، كان يبدو في كامل الاتزان والهدوء وهو يتحدث، فهمت من الجزء اليسير الذي سمعته من كلامه أنه يتحدث عن أرض للبناء وقع حولها خلاف بينه وبين أخيه الذي استدعته الشرطة عدة مرات ولم يحضر حتى الآن، ثم لم يلبث هذا الشخص أن قام وقد سلمه الشرطي استدعاء يقدمه لأخيه من اليد لليد، فلعل الاستدعاءات السابقة لم تكن تصل إليه لأسباب لم تعرف بعد، فكرت آنذاك أن قضيتي لا بد تكون أخطر من كل القضايا وإلا فلماذا أخو هذا الرجل لا يصله الاستدعاء بينما يرسلون لي أنا شرطياً خاصاً يسلمني إياه.. عندما فتح الباب ليخرج قمت من مكاني لأجلس على الكرسي الذي كان يجلس عليه الرجل بجانب مكتب الشرطي، نظر إليَّ هذا طالباً مني تعريفه بقضيتي، قدمت له الاستدعاء بيد مرتجفة على الرغم من أنني صرت الآن أكثر اطمئناناً بعدما رأيته ولاحظت لطفه وهدوءه الواضحين.
-ألف وثلاثمائة وأربعة وعشرون.
ردد مع نفسه هذا الرقم مرتين عندما نظر في الاستدعاء، ثم وضعه على المكتب وفتح احد الأدرج، لم يلفت نظره اسمي ولا عنواني ولا أي شيء آخر، فأنا في نظره رقم من الأرقام لا غير، وفكرت مع نفسي أن هذا أفضل.
-ألف وثلاثمائة وأربعة وعشرون، ألف وثلاثمائة وأربعة وعشرون، ألف.. كان يردد هذا الرقم بصوت مسموع وهو يفتش في ركام الملفات وصار لي إذن ملف خاص في مركز الشرطة وأنا لا أعلم، ترى ماذا في هذا الملف، وما سره..؟
الرجل الذي سبقني كانت له قضية أرض، هو بدون شك في معركة مع أخيه عمن يجب أن يمتلك قطعة الأرض، لا بد أنها تقع في مكان جميل، وإن سعرها مرتفع جداً، لعلها تصلح أيضاً لبناء متجر أو مصنع، هذا كله جائز، ولكن.. أنا ما علاقتي بالشرطة، لا أرض لي في هذه المدينة الكبيرة ولا تجارة، ولا أطمح يوماً إلى أن أمتلك شيئاً من ذلك..
-ألف وثلاثمائة وأربعة وعشرون..
عندما أخرج الشرطي ملفي من بقية الملفات، ووضعه أمامه على المكتب كانت عيناي لا تفارقان الشرطي والملف، كنت أركز نظري في الملف لعلني أستطيع التوصل إلى استنتاج ما، ولكن لا فائدة فأوراقه كثيرة، ولعل حجمه لا يقل عن حجم ملف أية قضية كبيرة في الأمم المتحدة، ثم إن كتابته كانت بالنسبة إلي مقلوبة لا أستطيع قراءتها وأترك بعد ذلك الملف وأنقل نظري إلى وجه الشرطي، لعلني عن طريقه أستطيع أن أتعرف على ما يدعو إلى التفاؤل أو العكس، إلا أن وجه الشرطي على الرغم من لطافته كان من تلك الوجوه التي يصعب أن تمنحك انطباعاً معيناً واضحاً..
ساد الصمت، وعشت لحظات ثقيلة في انتظار ما سيدلي به الشرطي في أمري بعد تفحصه للملف، إذ يبدو أنه بدوره وبسبب كثرة هذه الملفات لا يعرف ما تحتويه من مصائب إلا بعد أن يراجعها مع أصحابها..
أخيراً رفع رأسه ونظر إلي مبتسماً، وعلى الرغم من هذه الإبتسامة فإنني لم أكن أبداً أتوقع ما يسر..
-أنت تعرف القضية التي استدعيت من أجلها؟
-لا طبعاً..
كنت أريد أن أضيف أنني مندهش، فأنا لم أستدع يوماً إلى مركز الشرطة، وإنني لم أدخل هذا المركز في حياتي سوى مرتين، وكنت أريد أن أتحدث له عن هاتين المرتين اللتين دخلت فيهما هذا المركز، إلا أنه لم يترك لي المجال لكثرة الكلام، فقال لي وهو ينظر في الملف:
-أنت أعلنت لأحد مراكز الشرطة أن اللصوص سرقوا مذياعاً من سيارتك..
نسيت هذا الأمر تماماً، كان ذلك قبل حوالي ستة شهور، كنت أعرف أن المذياع لن يعود إلي، ولكن فكرت أن من واجبي أن أعلم أقرب مركز للشرطة على الأقل لكي يعرفوا الشارع الذي سرق فيه مذياعي، وقد علمت فيما بعد أن هذا الشارع مشهور بكثرة السرقات، وأن لصوصه مختصون في سرقة المذياعات، لهذا فقط أعلمتهم، ثم نسيت الأمر تماماً، وعندما ذكر لي الشرطي قضية سرقة المذياع أحسست كأن أحداً قد أفرغ فوق رأسي دلواً من الماء المثلج، وفغرت فمي مندهشاً وأنا أفكر مستغرباً، هل وجدوه..؟
لم أسأل الشرطي هذا السؤال، واكتفيت بأن أجيبه بأنني فعلاً أعلنت في أحد مراكز الشرطة بأنه سرق مني مذياع، وأضفت بأن ذلك كان قبل حوالي ستة أشهر..
لم ينتظر مني أية إضافة وانتقل إلى مكتب آخر صغير عليه آلة كاتبة وأخرج من درج المكتب أربع نسخ من إحدى الاستمارات وبدأ يكتب.. تذكرت وأنا أتابع موسيقى الآلة الكاتبة يوم ذهبت لكي أعلن عن السرقة، كان الموقف شبيهاً بهذا تماماً، وحدي أجلس أمام شرطي يكتب على آلة والألتان متشابهتان في القدم، لاحظت فقط أن هنالك فرقاً واضحاً بين عمر الشرطيين، فالشرطي الآخر كان شاباً في حوالي الخامسة والعشرين، هناك فارق آخر هام بين الموقفين، فإذا كان هذا الشرطي لم يسألني سؤالاً عدا ذلك السؤال الذي سألني إياه للتأكد من أنني أنا الذي أعلنت عن سرقة مذياعي، فإن الشرطي الآخر على العكس من ذلك تماماً قد أشبعني أسئلة وأشبعته أجوبة، الاسم واللقب طبعاً، الوظيفة والعنوان الشخصي، وعنوان العمل والهاتف، اسم الأب واسم الأم والسيارة ونوعها ورقمها واسم الشارع، وأسئلة أخرى نسيتها الآن، وفي الأخير فقط سألني: ماذا سرقوا من سيارتك..؟
وقد طلب مني اسم المذياع وأصله وفصله، فاعلمته عن كل شيء، وأقفل المحضر على الساعة كذا والدقيقة كذا من يوم كذا وسنة كذا، وطلب مني أن أعود بعد شهر، فخرجت ولم أعد، نسيت الأمر تماماً، ولكن يبدو أن الحكومة ذاكرتها قوية فما الذي ما زال يكتبه أخونا هذا..؟
-آه انتهينا..
سحب الشرطي الاستمارة المكونة من أربع نسخ من الآلة الكاتبة ووضعها فوق المكتب أمامي، وقدم لي قلماً لأمضي..
أمسكت القلم بيد مرتجفة وأمضيت، لأول مرة أخط إمضاء غير سوي، فأنا ما زلت حتى الآن لا أعرف النتيجة حقاً..
سحب إحدى النسخ الأربع وقدمها لي، ألقيت عليها نظرة قبل أن أخرج، كان مكتوباً عليها ما معناه:
إلى السيد فلان المحترم
تحية خالصة وبعد.
يؤسفنا أن نعلمكم، بعد التحريات وبعد المجهود الكبير الذي بذلناه فيما يتعلق بقضية سرقة مذياعكم- أننا لم نعثر عليه، وتقبل مرة أخرى خالص تحياتنا.