ولولا قلّة الحظ لاعتُبر موت الشيخ كموت قطة أليفة ونُسيَ بسهولة. لكنَّ الفضول الذي يسبح في فراغ من ضجر شاء أن يجعل النملة فيلاً والقطرة بحراً.
ولايكاد يعي عاقل كيف آل موتٌ طبيعي إلى جناية قتل، فحين أنهى الغاسلون تنظيف الميّت، توقفت يد العطّار فجأةً عن رشّ "الكولونيا" وعلقت في الهواء إثر صرخة فاجعة ندت عن امرأة اقتحمت الغرفة دون حياء، وهي تنتحب وتتوعّد بالانتقام من قتلة زوجها.
دُهش الحاضرون لأمرين: اقتحام الزوجة حجرة الغسل، واحتمال موت الرجل مقتولاً رغم غياب مايُنبئ عن جريمة من جسد ممدد بانشراح.
خلال نصف نهار شاع خبر جريمة، وعمَّ قرىً مجاورة...، وحّلق في فضاء الناحية...، ومساءً حطَّ في مركز شرطة المنطقة فاستُنفرت العناصر، وأوائل الليل كانت دورية أمن جنائي تجوب بصعوبة درباً وحيدة سالكة إلى الضيعة.
كان تأجيل الدفن أمراً بديهيّاً، وإبّان ذلك بدا عسيراً على الأهالي قضاء سهرتهم دون تحليل النبأ وإظهار (فهلويّة) في فهم أسباب ودوافع الجريمة، وتقصّي الجاني ممّن لم يحضروا تدابير الدفن أو يشاركوا فيه، أو ممّن بارح القرية فجأة أو عزم على قضاء الليلة خارجها، أو كانت له عداوة مع الميّت، أو مصلحة في بيع أو شراء أو رهن بوصفه ملاّكاً زراعياً كبيراً.
"أم علي جحجاح" أسرّت لجاراتها في الثامنة ليلاً بما دار في مجلس زوجها وسُمّاره الذي لم ينفضّ بعد، ومفاده أنّ (غريب بن لطف الله) ارتكب القتل كي يضع حدّاً لنيّة (أبو البدر) بالاستيلاء على أرضهم المرهونة لقضاء دين ترتبَّ عليهم لأبي بدر وعجزوا عن سداده. وما بدر عن (غريب) عند سماع النّبأ من نشاز سلوك يكفي لإدانته، إذْ اتّسعت عيناه وبهما بريق فرح لايخفى، وانفجر يقهقه شامتاً متشفّياً. ثم جمع مراهقي الحارة وشبّانها العاطلين فأعدَّ وليمة لا يحلم بمثلها الملوك، ولم تسلم دجاجة من ذبح ولا شاة من شواء.
وفي الحارة الغربية نُقل عن (أبو عتاب) شكوكه في الكنّة (بثينة) التي اشتهرت على مستوى البلدة بمناكداتها لحميها البخيل، وأُذيع عنها مراراً سخريتها منه حين تسأل: إلام يكنز الأموال؟ ولمن؟ لتمنع عنه الموت أم لتؤنسه في القبر؟.. وتحدّثوا عن احتراز (أبو البدر) من تناول أي طعام في دور أبنائه خشية أن يقوم الأصهار والكنّات -وكلهنّ عاصيات- بدسّ السمّ في طبقه ثم السطو على أرزاقه.
(مَدْيَن) رفيق طفولة بدر، حلف بمقامات الصالحين التي تحيط بالبلدة كعسكر أنّ فاعلها هو بدر عينه. وإلاّ نهى زوجته وزوجات إخوانه عن التحرّش بأبيه، وما كان تمادى في حثّه على تقسيم الورثة بالترغيب والترهيب وافتعال شجار أفاقت عليه الجانّ في الأوكار، ممّا جعل العجوز يلوذ بنفسه إلى الغابة لالتقاط الأنفاس. فلطالما أخذ (مدين) على بدر ولعه بحب نفسه، وعدم برّه بالطّاعنين سنّاً.
وكان للحارة الشرقية رأيٌ مختلف في المسألة. فلم يُبتَلى بموت أبي البدر شخص من قريته، حين يكثر في الجوار خصومه والمتضررين من تربّصه الذئبي بفرص مصادرة أملاكهم لحنثهم بميثاق معه... لعلّه (أبو فريد) فاعلها أو (أبو جنادة) الذي أحرق زيتونه ذات سنة ودخل السجن ثم خرج بكفالة.
بقي في البلدة مكانان: حارة (الضّهر) وحارة (الوطا).
أما (الضّهر) التي وصلها الخبر متأخراً لتوغّلها في حرش جبلي ناء، فقد استنكرت موتاً لأبي بدر بغير تدبير القضاء والقدر سيّما لكبر سنّه، ودعت أهالي الحارتين الشرقية والغربية للكفّ عن إيقاد الفتن ورجم الناس بتهم باطلة. وذكّر أفراد العائلات الأربع التي تؤلّف الحارة في كلام نقل للمختار لاحقاً أنّ حماقة أهل الحارتين وسماجتهم. أهمّ أسباب لجوء هذه الأُسر للجبال فهنا تبدو الضباع والثعابين والذئاب أكثر أنساً.
بقي (الوطا).. وقد لاذ أهلوه بصمت غريب، وانصرفوا بعد الحادثة إلى بساتينهم السهلية دون تعليق سوى: (أكل عمره) و (يرحمه الله).
عند المختار في الحادية عشرة، كان مصباح أصفر شحيح يضيء البيت الطيني، تدافع حوله فراش وناموس وانبعثت من حجرة مجاورة رائحة روث البقر. وكان مأمور التحقيق يواصل لملمة شكوك كبير الضيعة وأعيانها حول قاتل (أبو البدر). وغادر واعداً باستدعاء طبيب شرعي، بعدما أثقل رأسه التعب، وروائح المكان... وترك لحراسة الجثّة عنصران.
في منتصف الليل نامت حارة الضّهر على سُخط وتبرّم، وتغيّرت قناعات أهلها نصف درجة، فإن كان لابدّ لأبي بدر أن يموت مقتولاً فقد مات (فقْعاً) من مكائد الناس، وإلاّ ماعثر عليه نائماً بين أشجار صنوبر نائية، لائذاً بفرار لتتاح له السّكينة إثر شجار مُرّ مع أبنائه. وعموماً تبقى الجريمة مستبعدة في بلدة فُطرَ ناسها على بساطة وطيبة حتى لَتَرقّ قلوبهم لمقتل شاة.
وفي (الوطا) أنهى المزارعون تفقّد أحوال البندورة والخيار في قباب (البلاستيك)، وحوالي الثامنة، سُمع شخيرهم للجقال والكلاب الشريدة أسفل الوادي. إذ أدركوا ببساطة أنَّ لُدغة أفعى في حرش، تكفي لقتل أعتى الرجال، وهو ماجرى لأبي بدر غالباً. ولأنّ (الحيّ أبقى) فالعناية بغلالهم خيرٌ من هدر الوقت في تلقّف الأخبار. مع هذا، لم تنم بقيّة الضّيعة، ولا انفضّ مجلس (آل جحجاح)، ولا مجلس (أبو العتاب)..، ففي التاسعة ليلاً بُرّئ ابن لطف الله من اللحاق بأبي بدر إلى الدّغل ودفعه نحو المنحدر، وأُلصقت التهمة بالحفيد (زين)، إذ أنّ آثاراً لرضوض طفيفة، وبقع زرقاء ظهرت على جسد الميّت عند غسله وكان ظنّها الناس بوادر تصلّب شرايين أو اضطرابات جلدية مزمنة، فلاشك أنّ بدراً وزوجه دَفعَا (زيناً) للإطاحة بجدّهِ، فغياب مراهق زمناً في دَغلْ لا يستدعي انتباهاً لسهولة الانسلال، وخفّة الحركة، وقلّة الطّلب. بينما يصعب على الأب مبارحة بيت لا يغادرُهُ ضيف إلاّ ليدخلهُ جار أو قريب.
وفي العاشرة، أجمعَ الرأي -ونادراً ما يُجمع- على سمسار أراضي في ضيعتنا يقال لهُ (أبو غاندي) الدلاّل. وكانَ شَهِدَ زوراً في قضية نِزاع أبي بدر مع جيرانه على حدود أرضهِ الشمالية... من يومها استحكمَ خلاف بين الرجلين فواحدٌ يتّهم الآخر باللصوصية والبخل والجشع. وذاكَ يُشيع عن صاحبهِ غش الزبائن، وفوضى السمسرة التي تجانب أصول القانون... وقيل أنهُ لدى لقاء الرجلين في المحكمة نشبت بينهما مشادة مُعيبة اضطُرَّت القاضي لرفع الجلسة وتهديد الطرفين، بسبب تصريح (أبو البدر) أنّ شهادة خصمهِ كشهادة (كشّّاش حَمام) وبالتالي لا تُقبل.
وفي الحادية عشرة. احتارَ كثيرون في قاتل أبي البدر: من داخل المنطقة أم من خارجها؟!.
وفي الثانية عشرة توصّلَ أحدهم إلى ما يُفيد أنّ الرجل انتحرَ هرباً من عذاب الضمير وتنامي عداواته. وهذا كانَ كافياً لإنعاش الرؤوس الناعسة، وشدّ السهرات من أذنابها لتطول أكثر.
ونُوِقشَ أمران: انتحرَ مسموماً أم دحرجَ نفسهُ إلى الوادي؟؟... وأُشرعت ألسنة، وسخَنَ جدال، وتناقلت النساء أخبار جديدة، وقُربَ الثانية ليلاً بدأت الأضواء تشحّ والفوانيس تنوس وأخيراً...
نامَ الجميع.
***
في حياتي كُلِّها لم أَعجب لقصة كهذه. فالموت وارد، والجريمة واردة وإن ندرت في منطقتنا ندرة السمك في الجبال.
إنَّ ما أدهشني العقول التي لا عِقال لها، وألسنةُ أهل ضِياعِنا التي ما إن (يدق الكوز بالجرّة) حتى يُحَلّ لِجامُها فتنطلق بثرثرات وتلافيق رخيصة لا يبرأ منها بعض ضحايا. فهل تكفّ الصنابير المفتوحة من غَمْر الدّلاء بما لا طاقةَ لها به من ماء؟!
بموت (أبو البدر) قد يحدث هذا. فقد حضرَ الطبيب الشرعي صباحاً. وعُلِمَ أثناء ذلك أنّ هجوماً نسائياً شنّتْهُ كنّات (المغدور) على أم عتاب وبَنَاتها، تبادلَ فيه الطرفان شدّ الشعر وشق الملابس والرّجم بكِعاب (الفلّين) المضغوط وما خَفَّ من أثاث البيت. والسبب اتّهام العائلة للكنّات بقتل حميهِنَّ عَمْداً.
وفي محلٍّ آخر اشتبكَ (بدر) و (مدين) في مُلاسنة كلاميّة مقذعة لم تُعرف تطوّراتها بعد.
فيما انهالَ (أبو علي جحجاح) بالضرب على زوجته لتسريبها أنباء شكوكه في (غريب بن لطف الله) لِلجوار. أما (لطف الله) نفسهُ فقد سبَّ ولدَهُ ونَعَتَهُ بأشنع النّعوت للوليمة التي أَوْلَمَها أصدقاءهُ شماتةً برجل ميّت.
أخيراً... أعلنَ الطبيب الشرعي نتيجة الفحص.
وحينَ بلغَ العراك النسائي أشدَّهُ، وبرقعت الدماء الأرض... اقتحمت جمهرةُ نساء بيت أبي العتاب وصرخت أكبرهُنَّ سنّاً برجاء حارّ:
-حرام عليكُنّ،... توَقّفنَ حُبّاً بالله... يا جماعة.. المرحوم "مات مَوْتة ربُّه... مَوْتة ربُّه ولا شيء آخر...".
***
بعض الأمور هكذا يا أصدقاء، كصنابير مفتوحة أصابَ مغالقَها عطبٌ فجائيّ... فاسترسلَ الماء في السّكْب... وامتلأت الدِّلاء، فحدثَ غَمر..، فَغَرَق، فطوفان...
فاحذر تلكَ الصنابير، وإلاّ رُحتَ في الطّوفة