الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن الله عز وجل جعل هذه الأمة أمة صفاء ونقاء في العقيدة والعبادة والسلوك والمعاملة. وجعل أخوة الدين أعلى من رابطة النسب والقرابة، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] وهي أخوة إيمانية ثابتة لا تزيدها الأيام إلا قوةً ورسوخاً وقرباً، قال عليه الصلاة والسلام: { المسلم أخو المسلم } [رواه مسلم]. وقد حث الله عز وجل على الترابط والتواد والتراحم، ونبذ الفرقة والقطعية فقال تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103] فأمة الإسلام أمة واحدة لا يعتريها التفريق والانقسام، فهي كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً. وهذ المحبة في الله طريق إلى العبادة والتقرب إلى الله عز وجل، فهي من الأعمال الصالحة، ومن أوثق عرى هذا الدين.
عن عمر بن الخطاب أن رسول الله قال: { إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم في الله } قالوا: يا رسول الله، تخبرنا من هم؟ قال: { هم قوم تحابوا بروح الله، على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس } وقرأ هذه الآية: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] [رواه أبو داود].
وقال عليه الصلاة والسلام: { إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي } [رواه مسلم].
وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله ذكر منهم: { ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه، وتفرقا عليه }.
والأخوة في الله لا تنقطع بنهاية هذه الدنيا بل هي مستمرة في الآخرة، يقول تعالى: الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].
أخي المسلم: إن التحاب في الله والأخوة في دينه من أفضل القربات، ولها شروط بها يلتحق المتصاحبون بالمتحابين في الله، وفيها حقوق بمراعاتها تصفو الأخوة عن شوائب الكدر ونزغات الشيطان، فبالقيام بحقوقها يُتقرب إلى الله زلفى، وبالمحافظة عليها تنال الدرجات العلا.
ومن هذه الحقوق:
أولاً: الحب والمناصرة والتأييد والمؤازرة ومحبة الخير لهم، كما قال عليه الصلاة والسلام: { لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه } [متفق عليه].
ثانياً: التواصي بالحق والصبر وأداء النصيحة إليه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبيين الطريق له وإعانته على الخير ودفعه إليه، يقول تعالى: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر]، ويقول تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71].
ثالثاً: القيام بالأمور التي تدعو إلى التواد وزيادة الصلة، وأداء الحقوق، قال عليه الصلاة والسلام: { حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فشمّته، وإذا مرض فعُده، وإذا مات فاتبعه } [رواه مسلم].
رابعاً: من حقوق المسلم على المسلم: لين الجانب، وصفاء السريرة، وطلاقة الوجه، والتبسط في الحديث، قال عليه الصلاة والسلام: { لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق } [رواه مسلم]. واحرص على نبذ الفرقة والاختلاف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( ولو كان كل ما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا، لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة ).
خامساً: من حقوق المسلم على المسلم: دلالته على الخير، وإعانته على الطاعة، وتحذيره من المعاصي والمنكرات، وردعه عن الظلم والعدوان، قال : { انصر اخاك ظالماً أو مظلوماً، إن يك ظالماً فاردده عن ظلمه، وإن يك مظلوماً فانصره } [رواه مسلم].
حُكي عن أخوين من السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة فقيل لأخيه: ألا تقطعه وتهجره؟ فقال: أحوج ما كان إليّ في هذا الوقت لما وقع في عثرته أن آخذ بيده وأتلطف له في المعاتبة، وأدعو له بالعودة إلى ما كان عليه.
والنصيحة باب واسع من أبواب المحبة.. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا ينقطع الوسخ إلا بنوع من الخشونة، لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة ما يحمد منه ذلك التخشين ).
سادساً: وتكتمل المحبة بين المؤمنين في صورة عجيبة ومحبة صادقة عندما يكونان متباعدين، وكل منهما يدعو للآخر بظهر الغيب في الحياة وبعد الممات، قال : { دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل } [رواه مسلم].
سابعاً: تلمس المعاذير لأخيك المسلم، والذب عن عرضه في المجالس، وعدم غيبته أو الاستهزاء به، وحفظ سره، النصيحة له إذا استنصح لك، وعدم ترويعه وإيذائه بأي نوع من أنواع الأذى، قال : { لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً } [رواه أحمد وأبو داود].
ثامناً: من واجبات الأخوة الإسلامية إعانة الأخ المسلم ومساعدته وقضاء حاجته، وتفريج كربته، وإدخال السرور على نفسه، قال عليه الصلاة والسلام: { أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم، أو يكشف عنه كربة، أو يقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إليّ أن أعتكف في هذا المسجد ـ يعني مسجد المدينة ـ شهراً } [رواه الطبراني في المعجم الكبير].
تاسعاً: احرص على تفقد الأحباب والإخوان والسؤال عنهم وزيارتهم، عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: { أن رجلاً زار أخاً له في قرية فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه } [رواه مسلم].
وقال عليه الصلاة والسلام: { من عاد مريضاً، أو زار أخاً له في الله ناداه مناد بأن طبت وطاب ممشاك وتبوّأت من الجنة منزلاً } [رواه الترمذي].
عاشراً: تقديم الهدية والحرص على أن تكون مفيدة ونافعة، مثل إهداء الكتاب الإسلامي، أو الشريط النافع، أو مسواك أوغيره، وقد { كان رسول الله يقبل الهدية ويثيب عليها } [رواه أبو داود].
أخي المسلم: أوصى عمر بن الخطاب بوصية جامعة فقال: ( عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم، فإنهم زينة في الرخاء وغدة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يُقليك منه، واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من يخشى الله، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، لا تطلعه على سرّك ).
جعلنا الله من المتحابين فيه، ورزقنا محبة المؤمنين والقيام بحقوقهم. اللهم وفقنا لما تحب وترضى، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين