بما أن التخلف في حياة المسلمين بدأ بصورة تدريجية، فإنه يصعب تحديد فترة زمنية دقيقة لعصر التراجع، ولكن يمكن القول بأن بداية عصر التراجع والتخلف بدأ بانتهاء الخلافة الراشدة.. يقول الشيخ \"أبو الحسن الندوي\" قال أحد الأدباء \"أمران لا يحدد لهما وقت بدقة: النوم في حياة الفرد، والإنحطاط في حياة الأمة فلا يشعر بهما إلا إذا غلبا وأستوليا\" إنه لحق في قضية أكثر الأمم، ولكن بدأ التدلي والإنحطاط في حياة الأمة الإسلامية أوضح منه في حياة الأمم الأخرى، ولو أردنا أن نضع إصبعنا على الحد الفاصل بين الكمال والزوال لوضعنا على ذلك الخط التاريخي الذي يفصل بين الخلافة الراشدة والملوكية العربية أو ملوكية المسلمين.
بعد أن قدّم الإسلام في عصره الأول نموذجاً فريداً من نوعه –كما أشرنا في المقال السابق- لتحرير المرأة وحقوقها والتعامل معها، ونقل الإسلام في فتوحاته هذا النموذج إلى البلاد المفتوحة ووجد قبولاً بل وحماساً لدى شرائح واسعة من الشعوب التي دخلت في دين الله أفواجاً، بدأ العد التنازلي تدريجياً. فمع اتساع رقعة الدولة الإسلامية وانتشار الفتوحات الإسلامية وتمتع البلاد المفتوحة بالغنى والثراء، نمت بصورة تدريجية أمراض الترف بين العرب خصوصاً بعد غياب الخلافة الراشدة التي كانت تبصر المسلمين بمخاطر الترف.. من الأسف ومن سوء حظ العالم البشري أن تولى هذا المنصب الخطير رجال لم يعدّوا له عدة ولم يأخذوا له أهبة ولم يتلقوا تربية دينية وخلقية عميقة متينة كما تلقى الأولون وكثيرون في عصرهم وجيلهم. ولم يكن لهم من روح الجهاد في سبيل الإسلام ومن قوة الإجتهاد في المسائل الدينية والدنيوية ما يجعلهم يضطلعون بأعباء الخلافة الإسلامية، وهذا الحكم عام يشمل خلفاء بني أمية وبني العباس حاشا الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز.
هذه التغييرات أثرت فيما أثرت على نموذج المرأة المسلمة الذي صاغه الإسلام (فلقد امتلأت قصور كثير من الخلفاء والسلاطين والأمراء والقادة بالسبايا والإماء، وبعد أن كان النساء والرجال يتخاصمون ويتحاكمون إلى رسول الله  أيهم في الجنة أكثر، وتسابق النساء الرجال إلى رسول الله  شاكيات يقلن له غلبنا الرجال عليك إجعل لنا يوماً تعلمنا فيه، أصبح التنافس والتسابق -بالزينة والإغراء- على قلب الرجل الذي نسيت دولته منهاج الإسلام في تحرير أسرى الحروب المشروعة  فَإمّا مَنّاً بَعْدُ وَإمّا فِداءً محمد/4.. فأضافت إلى الأسرى الإماء والسبايا اللاتي قامت للتجارة فيهن أسواق الرقيق.
وبمرور الزمن تبلورت هذه الصورة وهذا الواقع الطارئ وانعكست في الآداب والفنون بل وفي أراء بعض الفقهاء (فبدلاً من نموذج المرأة المسلمة المجاهدة العالمة راوية الحديث والحاملة لأمانة الإفتاء والتبليغ عن رسول الله  إنتشر نموذج المرأة الغانية) حتى أن العالم الإمام \"إبن قيم الجوزية\" عبّر عن واقع عصره فوضع الزوجة في وضع الأسير والعبد المقهور فقال \"إن السيد قاهر لمملوكه حاكم عليه مالك له والزوج قاهر لزوجته حاكم عليها مالك لها وهي تحت سلطانه وحكمه شبه الأسير.
إن هذه الأمور تراكمت وأثرت سلباً على المرأة لقد رسخ الإنحطاط في نفسية المرأة شعورها بأنها مخلوق ضعيف عليه أن يعتمد في إثبات شخصيته على غيره وأنها جنس لطيف لم يخلق إلا للمتعة وأنها ليس لها من سلاح في معركتها مع الحياة غير جسدها فينبغي أن تتعلم كيف تتقن في تنميقه وصقله وتطييبه.. كما عمل عصر الإنحطاط على تضييق آفاق المرأة بعزلها عن هموم المجتمع ومشاغله الثقافية والسياسية فغدت مجتمعات النساء مشغولة بتوافه الأمور لا يتجاوز إهتمامهن الحديث عن الثياب والزينة والأولاد وقضايا الزواج والطلاق واغتياب بعضهن بعضاً.
وربما أراد البعض إضفاء الشرعية على هذا النوع من التعامل مع المرأة، يقول الشيخ \"محمد الغزالي\" في حديث مكذوب رواه الحاكم أن المرأة لا يجوز لها أن تتعلم الكتابة وفي حديث متروك آخر أن المرأة لا يجوز أن ترى أحداً ولا يراها أحد.. على هذه الآثار إنبنى حرمان المرأة من التعليم ومنعها من الذهاب إلى المدرسة. وفي مرويات أخرى تخالف المتواتر والصحيح من السنن حظر على النساء جملة من الذهاب إلى المساجد، فأقفرت منهن بيوت الله وانقطعت عن التوجيه الديني فلا قرآن ولا حديث ولا فقه بله سائر العلوم الأدبية والإنسانية.
وهنا ينبغي الإشارة إلى ما يلي:
1- إن ما سبق ذكره لا يعني أن المرأة المسلمة لم تجد مكانتها إطلاقاً طوال التاريخ الإسلامي بعد عصر الخلافة الراشدة، ولكن كانت تلك إشارةً إلى الوضع العام بالنسبة لعموم المجتمع وخصوصاً المرأة وربما وجدت نماذج هنا وهناك لبطولات ومواقف نسوية إلا أنها تعتبر حالات فردية لنساء مؤمنات وجدت في عصر من العصور ولم يكن ذلك طابعاً عاماً لعموم النساء كما كان في صدر الإسلام.
2- إنتقل هذا الواقع السلبي للمرأة إلى الأجيال المتأخرة وقد تلبس بلباس شرعي وورث المتأخرون تلك الصورة باسم الدين، فلا غرابة أن نرى بعض المسلمين -بل بعض الجماعات الإسلامية- اليوم ينظرون إلى المرأة بمنظار عصور التخـلف وتصدر عنهم مواقف متشددة تجاه المرأة وتهمش دورها في الحياة .
ومن هنا ينبغي التطرق إلى واقع المرأة المسلمة في العصر الحديث وبيان مذاهب وأراء المسلمين في قضية المرأة وهذا ما سنتاوله في مقالاتنا اللاحقة إن شاء الله.
المراجع:
1. أبو الحسن الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، دار القلم، الكويت، ط8، 1970
2. إبن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، دار الجيل، بيروت، بدون طبعة، 1973
3. راشد الغنوشي، المرأة المسلمة في تونس بين توجيهات القرآن وواقع المجتمع التونسي، دار القلم، الكويت، ط2، 1993
4. محمد الغزالي، الدعوة الإسلامية تستقبل قرنها الخامس عشر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1985