الدرسالثالث:272 - 274 سماحة الإسلام في الإنفاق
ومنثم لفتة من خطاب الذين آمنوا إلى خطاب الرسول [ ص ] لفتة لتقرير جملة حقائقكبيرة , ذات أثر عميق في إقامة التصور الإسلامي على قواعده , وفي استقامة السلوكالإسلاميعلى طريقه:
(ليس عليك هداهم , ولكن الله يهدي من يشاء . وما تنفقوا من خير فلأنفسكم . وماتنفقونإلا ابتغاء وجه الله . وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون). .
روىابن أبي حاتم - بإسناده - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي [ ص ]أنهكان يأمر بألا يتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية: ليس عليك هداهم . . إلى آخرها. . فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين . .
إنأمر القلوب وهداها وضلالها ليس من شأن أحد من خلق الله - ولو كان هو رسولالله [ ص ] إنه من أمر الله وحده . فهذه القلوب من صنعه ; ولا يحكمها غيره , ولايصرفهاسواه , ولا سلطان لأحد عليها إلا الله . وما على الرسول إلا البلاغ . فأماالهدىفهو بيد الله , يعطيه من يشاء , ممن يعلم - سبحانه - أنه يستحق الهدى , ويسعىإليه . وإخراج هذا الأمر من اختصاص البشر يقرر الحقيقة التي لا بد أن تستقر في حسالمسلمليتوجه في طلب الهدى إلى الله وحده , وليتلقى دلائل الهدى من الله وحده . .ثمهي تفسح في احتمال صاحب الدعوة لعناد الضالين , فلا يضيق صدره بهم وهو يدعوهم ;ويعطفعليهم , ويرتقب إذن الله لقلوبهم في الهدي , وتوفيقهم إليه بمعرفته حين يريد .
(ليس عليك هداهم , ولكن الله يهدي من يشاء). .
فلتفسحلهم صدرك , ولتفض عليهم سماحتك , ولتبذل لهم الخير والعون ما احتاجواإليهمنك . وأمرهم
لَّيْسَعَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَاتُنفِقُواْمِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِاللّهِوَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (272)
إلىالله . وجزاء المنفق عند الله .
ومنهنا نطلع على بعض الآفاق السامية السمحة الوضيئة التي يرفع الإسلام قلوبالمسلمينإليها , ويروضهم عليها . . إن الإسلام لا يقرر مبدأ الحرية الدينية وحده ;ولاينهى عن الإكراه على الدين فحسب . إنما يقرر ما هو أبعد من ذلك كله . يقررالسماحةالإنسانية المستمدة من توجيه الله - سبحانه - يقرر حق المحتاجين جميعا فيأنينالوا العون والمساعدة - ما داموا في غير حالة حرب مع الجماعة المسلمة - دوننظرإلى عقيدتهم . ويقرر أن ثواب المعطين محفوظ عند الله على كل حال , ما دامالإنفاقابتغاء وجه الله . وهي وثبة بالبشرية لا ينهض بها إلا الإسلام ; ولا يعرفهاعلىحقيقتها إلا أهل الإسلام:
(وما تنفقوا من خير فلأنفسكم , وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله . وما تنفقوا منخيريوف إليكم , وأنتم لا تظلمون). .
ولايفوتنا أن ندرك مغزى هذه اللفتة الواردة في الآية عن شأن المؤمنين حينينفقون:
(وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله). .
إنهذا هو شأن المؤمن لا سواه . إنه لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله . لا ينفق عنهوىولا عن غرض . لا ينفق وهو يتلفت للناس يرى ماذا يقولون ! لا ينفق ليركب الناسبإنفاقهويتعالى عليهم ويشمخ ! لا ينفق ليرضى عنه ذو سلطان أو ليكافئه بنيشان ! لاينفقإلا ابتغاء وجه الله . خالصا متجردا لله . . ومن ثم يطمئن لقبول الله لصدقته ;ويطمئنلبركة الله في ماله ; ويطمئن لثواب الله وعطائه ; ويطمئن إلى الخير والإحسانمنالله جزاء الخير والإحسان لعباد الله . ويرتفع ويتطهر ويزكو بما أعطى وهو بعد فيهذهالأرض . وعطاء الآخرة بعد ذلك كله فضل !
ثميخص بالذكر مصرفا من مصارف الصدقة ; ويعرض صورة شفة عفة كريمة نبيلة , لطائفةمنالمؤمنين . صورة تستجيش المشاعر , وتحرك القلوب لإدراك نفوس أبية بالمدد فلاتهون , وبالإسعاف فلا تضام , وهي تأنف السؤال وتأبى الكلام:
(للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله , لا يستطيعون ضربا في الأرض , يحسبهمالجاهلأغنياء من التعفف , تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا . وما تنفقوا منخيرفإن الله به عليم). .
لقدكان هذا الوصف الموحي ينطبق على جماعة من المهاجرين , تركوا وراءهم أموالهموأهليهم ; وأقاموا في المدينة ووقفوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله , وحراسة رسولالله [ ص ] كأهل الصفة الذين كانوا بالمسجد حرسا لبيوت الرسول [ ص ] لا يخلص إليهامندونهم عدو . وأحصروا في الجهاد لا يستطيعون ضربا في الأرض للتجارة والكسب . وهممعهذا لا يسألون الناس شيئا . متجملون يحسبهم من يجهل حالهم أغنياء لتعففهم عنإظهارالحاجة ; ولا يفطن إلى حقيقة حالهم إلا ذوو الفراسة . .
ولكنالنص عام , ينطبق على سواهم في جميع الأزمان . ينطبق على الكرام المعوزين ,الذينتكتنفهم ظروف تمنعهم من الكسب قهرا , وتمسك بهم كرامتهم أن يسألوا العون .إنهميتجملون كي لا تظهر حاجتهم ; يحسبهم الجاهل بما وراء الظواهر أغنياء في تعففهم , ولكن ذا الحس المرهف والبصيرة المفتوحة يدرك ما وراء التجمل . فالمشاعر النفسيةتبدوعلى سيماهم وهم يدارونها في حياء . .
لِلْفُقَرَاءالَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباًفِيالأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمبِسِيمَاهُمْلاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍفَإِنَّاللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِوَالنَّهَارِسِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَخَوْفٌعَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَالاَيَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَالْمَسِّذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَاوَأَحَلَّاللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّنرَّبِّهِفَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَفَأُوْلَـئِكَأَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
إنهاصورة عميقة الإيحاء تلك التي يرسمها النص القصير لذلك النموذجالكريم . وهي صورة كاملة ترتسم على استحياء ! وكل جملة تكاد تكون لمسة ريشة , ترسمالملامحوالسمات , وتشخص المشاعر والانفعالات . وما يكاد الإنسان يتم قراءتها حتىتبدوله تلك الوجوه وتلك الشخصيات كأنما يراها . وتلك طريقة القرآن في رسم النماذجالإنسانية , حتى لتكاد تخطر نابضة حية !
هؤلاءالفقراء الكرام الذين يكتمون الحاجة كأنما يغطون العورة . . لن يكونإعطاؤهمإلا سرا وفي تلطف لا يخدش آباءهم ولا يجرح كرامتهم . . ومن ثم كان التعقيبموحيابإخفاء الصدقة وإسرارها , مطمئنا لأصحابها على علم الله بها وجزائه عليها:
(وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم). .
اللهوحده الذي يعلم السر ولا يضيع عنده الخير . .
وأخيرايختم دستور الصدقة في هذا الدرس بنص عام يشمل كل طرائق الإنفاق , وكلأوقاتالإنفاق ; وبحكم عام يشمل كل منفق لوجه الله:
(الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار , سرا وعلانية , فلهم أجرهم عند ربهم ولاخوفعليهم ولا هم يحزنون). .
ويبدوالتناسق في هذا الختام في عموم النصوص وشمولها , سواء في صدر الآية أم فيختامها . وكأنما هي الإيقاع الأخير الشامل القصير . .
(الذين ينفقون أموالهم). .
هكذابوجه عام يشمل جميع أنواع الأموال . .
(بالليل والنهار . سرا وعلانية). .
لتشملجميع الأوقات وجميع الحالات . .
(فلهم أجرهم عند ربهم). .
هكذاإطلاقا . من مضاعفة المال . وبركة العمر . وجزاء الآخرة . ورضوان الله .
(ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). .
لاخوف من أي مخوف , ولا حزن من أي محزن . . في الدنيا وفي الآخرة سواء . .
إنهالتناسق في ختام الدستور القويم يوحي بذلك الشمول والتعميم . .
خاتمةالدرس
وبعدفإن الإسلام لا يقيم حياة أهله على العطاء . فإن نظامه كله يقوم أولا علىتيسيرالعمل والرزق لكل قادر ; وعلى حسن توزيع الثروة بين أهله بإقامة هذا التوزيععلىالحق والعدل بين الجهد والجزاء . . ولكن هنالك حالات تتخلف لأسباب استثنائيةوهذههي التي يعالجها بالصدقة . . مرة في صورة فريضة تجبيها الدولة المسلمة المنفذةلشريعةالله كلها وهي وحدها صاحبة الحق في جبايتها:وهي مورد هام من موارد الماليةالعامةللدولة المسلمة . ومرة في صورة تطوع غير محدود يؤديه القادرون للمحتاجينرأسا . مع مراعاة الآداب التي سبق بيانها . وبضمانة تعفف الاخذين . . هذا التعففالذيتصف هذه الآية صورة منه واضحة . وقد رباهمنهجالإسلامفيالعطاءالإسلامفي نفوس أهله فإذا أحدهم يتحرج أن يسأل وله أقل ما يكفيه فيحياته . .
روىالبخاري - بإسناده - عن عطاء بن يسار وعبد الرحمن بن أبي عمرة . قالا:سمعناأباهريرة يقول:قال رسول الله [ ص ]:" ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ,ولااللقمة واللقمتان , إنما المسكين الذي يتعفف " . . اقرأوا إن شئتم يعني قوله: (لا يسألون الناس إلحافا). .
وروىالإمام أحمد:حدثنا أبو بكر الحنفي , حدثنا عبد الحميد بن جعفر , عن أبيه ,عنرجل من مزينة:أنه قالت له أمه:ألا تنطلق فتسأل رسول الله [ ص ] كما يسأله الناس ? فانطلقت أسأله , فوجدته قائما يخطب وهو يقول:" ومن استعف أعفه الله , ومن استغنىأغناهالله . ومن يسأل الناس وله عدل خمس أواق فقد سأل الناس إلحافا " فقلت بينيوبيننفسي:لناقة لي لهي خير من خمس أواق , ولغلامي ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق ,فرجعتولم أسأله .
وقالالحافظ الطبراني - بإسناده - عن محمد بن سيرين . قال:بلغ الحارث - رجلا كانبالشاممن قريش - أن أبا ذر كان به عوز , فبعث إليه ثلاث مائة دينار . فقال:ما وجدعبدالله رجلا أهون عليه مني ! سمعت رسول الله [ ص ] يقول:" من سأل وله أربعون فقدألحف " ولآل أبي ذر أربعون درهما . . شاة وماهنان . . قال أبو بكر بن عياش:يعنيخادمين . .
إنالإسلام نظام متكامل , تعمل نصوصه وتوجيهاته وشرائعه كلها متحدة , ولا يؤخذأجزاءوتفاريق . وهو يضع نظمه لتعمل كلها في وقت واحد , فتتكامل وتتناسق . وهكذاأنشأمجتمعه الفريد الذي لم تعرف له البشرية نظيرا في مجتمعات الأرض جميعا