إمهال الغاوين وقتل المرتدين شريعة رب العالمين
كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
يخوض كثير من المنتسبين إلى العلم بدين الله سباقاً محموماً لإيجاد شبيه إسلامي لكل الأفكار الغربية التي يسعى الغرب جاهداً في فرضها على العالم بالسياسة تارة وبالقوة تارات أخرى، وفي هذا السياق تذكر هؤلاء فجأة أنه يوجد في الشرع شيء يسمى "الخُلْع"، وكانت الضجة الكبيرة التي واكبت صدور قانون الخلع، وعلى الرغم من أن القانون كان في الجملة موافقاً للشرع، إلا أن الهالة الإعلامية التي صاحبته في محاولة لإرضاء الغرب قد حرفته عن مقصوده إذ جعلته حلاً أصلياً، وليس من باب "آخر الدواء الكي"، أي لا يلجأ إليه إلا عند استحالة العشرة، كما هو أصله في الشرع، بالإضافة إلى سعيهم إلى وصفه بأنه حق طلاق للمرأة يوازي حق الطلاق الذي بيد الرجل؛ ليصلوا إلى المساواة المزعومة في حق الطلاق، وإن كان القوم لم ييأسوا بعدُ من نزع الطلاق من الاثنين ليجعل بيد القاضي؛ ليوافقوا القوانين الغربية التي خالفت في هذا الجانب مبادئ الحرية التي يتشدقون بها، ليبقوا على أثر لدينهم في تشريعاتهم، ودائماً ما يجدون مِن بيننا مَن ينعق بكل ما ينعقون.
ومن أجل هذا ركز أذناب الغرب على إذن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالخلع عند استحالة العشرة، مغفلين هذا القيد، ومغفلين قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أيما امرأة طلبت الطلاق من زوجها من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة)، وقوله: (المختلعات هن المنافقات).
وفي هذا المضمار أيضاً تسابق المتسابقون في محاولة إثبات أن الإسلام جاء بحرية العقيدة، وادعى بعضهم أن الإسلام احترم الأديان السماوية السابقة، مستدلين على ذلك بالآيات التي فيها الثناء على أنبياء بني إسرائيل، مغفلين أنه لم يعد شيء منها سماوياً، وكأنهم لم يقرءوا الآيات التي ذم الله فيها اليهود والنصارى على تحريفهم ما جاء به الأنبياء، وهذا كفر بذاته، وذمَّهم أيضاً على كتمهم شهادة الحق بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، بحيث صار اتباع هذه الشرائع المحرفة ظلمات فوق ظلمات.
ولما وجد هؤلاء أن الزعم بأن الإسلام يحترم الديانات السماوية لا يتفق مع مواثيق حقوق الإنسان المزعومة التي تنادي باحترام كل الأديان وليست السماوية فقط، تسابق هؤلاء إلى ادعاء احترام الإسلام لكل الأديان حتى البوذية والهندوسية وغيرها من الديانات الأشد كفراً من الديانات التي أصلها من عند الله.
ثم إن هؤلاء منهم من يرى أن للمسلم أن يدعو غيره إلى الإسلام شريطة أن يحترم دين الآخر، ولا يسفهه. ولا ندري ما الذي سيدفع الآخر إلى أن يغيِّر دينه ودين آبائه طالما أنه دين محترم بشهادة من يدعوه إلى التحول عنه؟! حتى وإن اجتهد الداعي في أن يبين له أن الإسلام أفضل، وكأن الأمر الذي عادى من أجله النبي -صلى الله عليه وسلم- الدنيا بأسرها يدور بين الفاضل والأفضل.
وبعضهم اختصر الطريق على نفسه، فادعى أن الدعوة لا تكون إلا لمن لا يدين بدين أصلاً، مما يغلق باب الدعوة بالكلية، ومما يطعن في أصل بعثة الرسل.
ولابد للقوم كالعادة من أثارة من علم أو شبهة من دليل يتمسكون بها، والموقف في هذه المرة عسير؛ حيث إن فاتحة الكتاب التي يحفظها كل مسلم قد ختمت بقوله تعالى-: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة:6-7)، ثم بعد ذلك لا تكاد تخلو صفحة من صفحات المصحف من ذم الكافرين، ووصفهم بالكفر والضلال وتوعدهم بالعذاب بأيدي المسلمين في الدنيا أو في نار جهنم في الآخرة.
ولكن وجد القوم بغيتهم في النصوص التي تتكلم عن مؤمني أهل الكتاب قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهؤلاء إخوة لنا في الإسلام، أو الذين أدركوا دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فآمنوا به، وأَمْر إسلام هؤلاء في غاية الوضوح، كما وجدوا بغيتهم أيضاً في قوله -تعالى-: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة:256).
واستثمر القوم أن أحداً لا يطالبهم بأن يأتوا بالمصحف ليقرءوا علينا منه ما يستشهدون به من آيات، وإلا لاضطروا في مواطن كثيرة إلى أن يفعلوا فعل إخوانهم اليهود من قبل، فيضع أحدهم يده على باقي الآيات التي تفضح فهمه المغلوط لما استدل به من آيات، وربما كان سيضطر -كما في حالتنا- هذه إلى أن يضع يده على شطر الآية حيث يقول الله -تعالى-: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ)(البقرة: من الآية256).
فإذا كان هؤلاء يدندنون حول قوله -تعالى-: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، ونحن معهم إيماناً وتسليماً لحكم الله، ولكن مالهم لا يظهرون تمامها (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ)؟!، ذلك الغي الذي يتخبط فيها المغضوب عليهم والضالون من اليهود النصارى وغيرهم من الأمم الذي هي أشد غواية منهم.
إذن فغاية ما في الآية إمهال دنيوي من الله -تعالى- لمن أصرَّ بعد أن نُبَيِّنَ له الضلال الذي فيه على أن يبقى فيه، وأراد أن يتعايش مع المسلمين تحت صور العهد أو الذمة أو الأمان، على ما هو مبين في مظانه من كتب الفقه.
فأي احترام لهذه الأديان بعد وصف الله لها "بالغواية"؟
فالأمر لا يعدو أن يكون إمهالاً دنيوياً لمن أراد أن يعيش من الكفار في كنف المسلمين، وفي هذه الحالة يكون له بعض الحقوق ليس هذا مجال تفصيلها، ولكن ليس منها بلا شك تسمية غوايته رشداً.
هذا بالإضافة إلى أن السماح لآحاد الكفار بالعيش في كنف المسلمين لا يمنع من وجوب قتال دولهم الكافرة حال القدرة على ذلك، كما قال -تعالى-: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه)(لأنفال:الآية39).
وأما المرتد فإن جنايته أعظم، وغوايته أشد؛ إذا أن الكافر الأصلي ربما حال دون تفكره وتدبره فيما هو فيه من غواية، وما دُعِيَ إليه من رشد أمور ليست عذراً لصاحبها يوم القيامة، إلا أن سعة رحمة الله اقتضت أن يمهل في الدنيا فترة حياته، وأما الذي منَّ الله عليه بالإسلام وعرفه ثم عدل عنه، فجرثومة لابد من اقتلاعها.
ولا يغيبَنَّ عن بالك لحظة وأنت تنظر في هذه القضية أن الله فطر عباده على معرفته وتوحيده، ثم أرسل إليهم رسوله بالحجج الباهرة والآيات الظاهرة، وأن دين الله أوضح من الشمس في كبد السماء.
وإذا كانت القوانين المعاصرة تشرع القتل لتهمة التآمر على مبادئ غاية مشروعيتها أن قوماً تغلبوا عن طريق ثورة مدنية أو عسكرية كالثورة الفرنسية أو البلشفية أو غيرها، فوضعوا ما رأوه من أصول -ومعظمها مخالف للحق والفطرة- وألزموا الأجيال التي جاءت بعدهم بها، وصار الخارج عنها في عرفهم يستحق ما يقررونه عليه من عقوبة، فكيف بالخارج على دين الحق والفطرة.
هذا من جهة المعنى أما من جهة الدليل فالحديث في ذلك مجمع على صحته، وعلى دلالته من قوله -صلى الله عليه وسلم-: (من بدل دينه فاقتلوه)، ولم يختلف العلماء في وجوب قتل المرتد الذكر، وإن ذهب الإمام أبو حنيفة إلى المنع من قتل المرأة إذا ارتدت قياساً على نهيه -صلى الله عليه وسلم- من قتل النساء في الحرب، والحق مع الجمهور؛ لعموم الحديث؛ ولأن المرأة تقتل في الحرب إذا قاتلت لدفع ضرها، وكذلك المرتدة تقتل لضررها.
وجدير بالذكر أن الآثار عن الصحابة -رضي الله عنهم- قد بينت أن الردة ليست حداً من الحدود التي تجب على فاعلها متى ثبت عليه الذنب، ورفع إلى الحاكم تاب أم لم يتب، بل إنها عقوبة زاجرة له؛ لكي يراجع دينه، فمتى ثبتت عليه الردة حبس ووعظ وذُكِّر وهُدِّد بالعقوبة، فإن ذكر شبهة وجبت مناظرته حتى ترتفع شبهته، وتزول فإن رجع فبها ونعمت، وإلا طُبِّق عليه حد الردة.
ومن الجدير بالذكر أيضاً أن الملل الكفرية رغم أنها من الظلم البين مقارنة الإسلام بها، إلا أنهم إذ يعيبون علينا الجهاد في سبيل الله لنشر الحق الذي معنا فهم ينشرون باطلهم بالقوة، بل ينشرون مذاهبهم الأرضية من الديمقراطية وغيرها بالقوة التي تُبَاد فيها شعوب بأكملها.
وإذا يعيبون علينا حد الردة فإنهم دونما دعوة أو مناظرة أو حجة حيث يعلمون أنهم لا يملكون منها شيئاً يرسلون من يريدون أن يمنعوه من هجر دينهم الباطل والدخول في دين الحق بإرساله إلى المجهول، حيث لا يعلم أحد هل هو حي أم ميت، وهل ناظره أحد أم اكتفوا بإرسال شياطين الجن عليه بالسحر والشعوذة.
وبقيت كلمة أخيرة، وهي أن أعظم حقوق الإنسان الكافر على المسلم أن يُدعى إلى الله، وأن يبين له الرشد من الغي، كما أن من حق المجنون على العقلاء أن يمنعوه من سكنى الخرابات والزبالات وإن استحسنها هو لفساد عقله.