عندما ترتد قذيفة المحارب إلى صدره
تعليق على تصريحات د. عبد المنعم أبو الفتوح
كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فقد أطلق الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح تصريحات جديدة من نوعية التصريحات المثيرة للجدل التي اعتدناها منه في الآونة الأخيرة، والتي كان منها تصريحاته في أثناء زيارته لنجيب محفوظ، والتي أثنى فيها على أدبه وطالبه بنشر رواية أولاد حارتنا، ويا للعجب أن نجيب محفوظ هو الذي رفض هذا الأمر معللاً ذلك برفض الأزهر للرواية، والأدهى من ذلك أنه اختار منزل نجيب محفوظ ليعلن منه طعنه على سيد قطب، ولم يكن الأمر نقداً منهجياً لسيد قطب، كهذا الذي ما زلنا نذكره، ولكن تجاوز الدكتور مرحلة نقد سيد قطب إلى مرحلة السب والطعن واتهامه بأن أفكاره كانت نتيجة مرض نفسي أصيب به في السجن.
وهي التصريحات التي سببت له حرجاً بالغاً داخل صفوف الإخوان أنفسهم، مما جعل موقع إخوان أون لاين يشن حملة تجميل للدكتور أبو الفتوح وتحوير لتصريحاته.
وفي الواقع أن هذه التصريحات يبدو أنها كانت مقصودة ومرتبة وهي بمثابة قذائف يطلقها محارب على صدره.
وقد كانت هذه هي القذيفة الأولى، وقد تلتها قذائف أخرى أشد خطراً، حينما زعم في تصريحاته الأخيرة أن الإسلام البدوي الوهابي إسلام متطرف، وأن الإخوان يمثلون الإسلام المصري المعتدل، وأن الإخوان يعانون من اللبس الذي يحصل لدى قطاع عريض من الناس، حينما ينسبون الفتاوى الوهابية البدوية المتشددة إلى الإخوان المصريين المعتدلين الوسطيين، وأن هذا الفكر المتطرف لم يجد طريقة إلى مصر إلا في فترة سجن الإخوان في السبعينيات، ولولا هذا لما تمكن من دخولها.
وكنا نأمل أن نجد داخل صفوف الجماعة رد فعل مماثل لرد الفعل الذي حدث مع تصريحاته الطاعنة في سيد قطب -رحمه الله-.
ولعلهم لم يدركوا أنها من باب إطلاق المحارب النار على نفسه، رغم أنها أولى بهذا الوصف من سابقتها لاعتبارات عديدة منها:
1- أن "العلمانيين غير الإسلاميين" -وسنضطر إلى استخدام هذا التعبير تمييزاً لهم عن العلمانيين الإسلاميين الذين يمثلهم الآن الدكتور أبو الفتوح وغيره- ينسبون صفة البداوة إلى الإسلام نفسه الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، وليس لفهم أحد من الناس للإسلام كالإمام محمد بن عبد الوهاب أو غيره، وهم يرون أن البداوة قد أثرت في التشريعات الإسلامية، لاسيما في العقوبات -وهي من جملة ما يحاول الدكتور أبو الفتوح التنصل منه-، بل هم يرون أن نظام الخلافة الإسلامي نظام بدوي -وأظن أن هذه النقطة حتى الآن ما زالت تمثل أحد ثوابت جماعة الإخوان، يتضح هذا من حوار الأستاذ عاكف الذي أثار أزمة مع العلمانيين مؤخراً-، وبالتالي فكلام الدكتور أبو الفتوح عن الإسلام البدوي، يصب شاء أم أبى في قناة من يقولون هذه العبارة على اعتبار أنها وصف لازم للإسلام.
2- الأستاذ البنا -رحمه الله- جعل عنوان جماعته أنها: "دعوة سلفية وحقيقة صوفية"، وهذا راجع إلى نشأته الصوفية في مرحلة الصبا، والتي تلاها انخراطه في الحركة السلفية في القاهرة، على يد الأستاذ محمد رشيد رضا والأستاذ محب الدين الخطيب، واللذين ما برحا يصرحان بأنهما وإن كان جل تلقيهم المنهج السلفي عن طريق كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، إلا أنهما قد تعرفا على هذا المنهج من خلال رسائل الحركة الوهابية.
إذاً فأحد الروافد الأساسية لفكر الأستاذ البنا هو الفكر السلفي الوهابي "البدوي"، على حد وصف الدكتور أبو الفتوح، والعجيب أنه في فترات -الجذر- التي تصيب العمل السياسي، والتي تقابلها فترات -مد- في العمل الدعوى، نجد كثيراً من الدراسات النابعة من داخل جماعة الإخوان تحاول إثبات السلفية المطلقة للأستاذ البنا، وأنه لم يأخذ من الصوفية إلا جانب التزكية السني، وهو أمر يسعدنا إذا وجدنا له الرصيد العملي الذي يؤيده، وبناء على هذه الدراسات فالأستاذ البنا كان سلفياً وهابياً خالصاً.
3- الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح يعد من جيل الجماعة الإسلامية، التي نشطت في الجماعات المصرية أثناء فترة تواجد الإخوان في السجون أوائل وأواسط السبعينيات، وكانت هذه الجماعة سلفية المنهج قبل أن يخرج الإخوان من السجون، وينضم إليهم عدد كبير من قيادات الجماعة الإسلامية منهم الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، وعلى ذلك فنحن ننتظر منه أن يكتب لنا قريباً تحت عنوان: "رحلتي من الإسلام البدوي إلى الإسلام الحضري".
لقد أراد الدكتور أبو الفتوح أن يضرب عصفورين بحجر واحد، أراد أن يلقي قذيفة ذات شظيتين:
إحداها: تصيب اتجاه فكري مخالف لبعض أفكار الإخوان لاسيما العمل السياسي المؤسس على التنازل العقدي والفكري.
والثانية: ترد على اتهامات خصومه السياسيين للإخوان أنهم إذا وصلوا إلى الحكم سيطبقون الحدود، ويحرمون الفن، ويعاملون النصارى كمواطنين من الدرجة الثانية، فتبرأ من هذا كله؛ فالحدود لن تطبق إلا برضا الشعب، والفن ليس حراماً، والنصارى مثلنا تماما إن لم يكونوا أحسن، وكل هذا التطرف قادم من عند البدو، والحاصل أن قذيفته لم تكن ذات شظيتين فقط، بل انطلقت منها ثلاث شظايا أخري:
واحدة أصابت دينه.
والثانية أصابت جماعته.
والثالثة أصابته هو نفسه.
وأما الشظيتان الأصليتان فأخطأتا هدفيهما، أما الأولى فالمنهج السلفي المؤسس على أدلة من الكتاب والسنة وعلى أقوال وأفعال الصحابة والتابعين، لا يمكن هدمه بتصريحات عشوائية، لاسيما إذا كانت في معرض تقديم مزيد من التنازلات لخصوم الإسلام وأعدائه، وفى معرض وصفه للأحكام الشرعية الثابتة كتاباً وسنة والمدونة في كتب فقهاء الإسلام عبر التاريخ بأنها بداوة، فلن تغير هذه التصريحات من الواقع شيئاً، بل هو كما قال القائل:
فإذا كان رفضاً حب آلِ محمد فليشهد الثقلان أني رافضي
ونحن نقول:
إذا كان بداوة نصر شرع محمد فليشهد الثقلان أني بـادي
وأما الشظية الثانية فقد أخطأت طريقها أيضا؛ لأنه بإقراره بأن هذه الأحكام تمثل تهماً قد أعطى الحجة على نفسه، ولن ينفعه التنصل من هذه الأحكام وإلصاقها بالسلفيين عند خصومه من العلمانيين؛ لأنهم سيخرجون له من تراث الجماعة عندما كانت أقرب إلى السلفية -لاسيما من مجلة الدعوة لسان حال الإخوان في أواخر السبعينيات- سيخرجون كلاماً في عقد الذمة، وحرمة بناء الكنائس، ولزوم دفع الجزية، ووجوب تطبيق الشريعة دون تقييدها برضا حاكم ولا محكوم، وبحرمة الغناء والموسيقى ... الخ.
ومن هنا نعلم أن قذيفة الدكتور أبو الفتوح لم تصب أهدافها الأصلية، وأن شظاياها قد أصابته هو وجماعته، بل والأمة كلها، فنسأل الله أن يرد جميع المسلمين إلى الحق رداً جميلاً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.