عاشت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين في غرفهن الصغيرة بجوار المسجد النبوي تمتزج حياتهن بأصوات الأذان للصلوات، ويشهدن جموع الناس مقبلين مدبرين، يصلون ويستمعون لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويشتركن في بيان تعاليم الإسلام، وخاصة في شئون المرأة، ثم لهن حياتهن الخاصة مع النبي صلى الله عليه وسلم حافلة بالعبادة والعلم، مليئة بالعبر دافقة بالخير، ولا تخلوا من الجدل والخصومة أحيانا، والعبرة أحيانا أخرى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تعلقت همته بالآخرة، واكتمل زهده في الدنيا حتى كان يقول: ( مالى وللدنيا، إنما مثلى ومثل الدنيا كراكب قال تحت ظل شجرة ـ أي: نام وقت القيلولة ـ ثم راح وتركها! ) فعاش أزواجه معه حياة الشظف وخشونة العيش وخلاف الرفاهية، تقول عائشة رضي الله عنها: إن كنا لننظر إلى الهلال بعد الهلال بعد الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار! فقال لها عروة بن الزبير: ما كان يعيشكم ؟ قالت الأسودان! التمر والماء، كان فراشه صلى الله عليه وسلم من جلد حشوه ليف، وكان في بيته بشراً من البشر، يحنو على نسائه ويعاونهن، يحلب الشاة ويخرز النعل، ويرقع الثوب، وكان يقول: ( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي )، وقد تحملت نساء النبي صلى الله عليه وسلم هذه المعيشة الضيقة رغبة فيما عند الله، ووقوفا بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته، وطمعاً في جواره في الجنة، وكان الله تعالى قد أباح لنبيه الزيادة على الأربع لمصالح شرعية لا تخفى، فمن ذلك قيامهن بالتبليغ والبيان ونقل الفتاوى النبوية والآداب الزوجية، خاصة فيما يتعلق بأمور النساء، والتي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحي من الحديث فيها، فكانت النساء تسأل أزواجه، ومن ذلك توثيق الصلات بأهم الشخصيات التي وقفت بجانب النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا وزراءه كالخلفاء الأربعة، فصاهرهم جميعاً رضي الله عنهم، تزوج بابنتي أبي بكر وعمر، وزوج بناته لعثمان وعلى، ومن ذلك توثيق الصلات عن طريق المصاهرة لبعض القبائل لكسر عدائها للإسلام، حيث كانت تقاليد العرب تقضي باحترام المصاهرة، فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم من بني مخزوم وبني المصطلق وغيرهم، ومن ذلك أنه تزوج بنماذج شتى من النساء؛ كالصغيرة التي تحب اللعب، والمسنة، وابنة الصديق وابنة العدو، والصوامة القوامة، والمنشغلة بتربية أولادها من غيره، فقدم للمسلمين تشريعاً فريداً في كيفية التعامل مع كل نموذج من هذه النماذج البشرية، ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة إلا لمصلحة كبرى من مصالح الشريعة، بل ربما كان الله يزوجه بنفسه كما وقع لزينب بنت جحش رضي الله عنها، فأول زوجاته خديجة بنت خويلد القرشية، تزوجها قبل النبوة ولها أربعون سنة، وكان في الخامسة والعشرين، ولم يتزوج عليها حتى ماتت، وأولاده كلهم منها إلا إبراهيم، وقد آزرته على النبوة وجاهدت معه وواسته بنفسها ومالها، وأرسل الله إليها السلام مع جبريل، وبشرها ببيت في الجنة، وقد رزق حبها فلم يكن يعدل بها أحداً، بل كان يقول: ( ما أبدلني الله خيراً منها وهي خير نساء العالمين ) كما صح في الحديث، ولما ماتت كان النبي صلى الله عليه وسلم في الخمسين من عمره، فتزوج سودة بنت زمعة، وكانت كبيرة السن، وقد هاجرت مع زوجها إلى الحبشة ثم رجعا، فمات فأراد النبي صلى الله عليه وسلم تطييب خاطرها، وحمايتها من مشركي قومها، ثم أنها لسنها مناسبة لحضانة أولاده من خديجة، ثم تزوج عائشة رضي الله عنها بإرشاد الوحي، فقد رآها قبل أن يتزوجها مرتين، ويقال له: هذه امرأتك، ورؤيا الأنبياء وحي، ثم إنها ابنة وزيره الأول أبي بكر، فكان زواجها مكافأة له أيضا على مواقفه في الإسلام، وقد تزوجها وهي ابنة ست سنين، وبنى بها في التاسعة، وقد جاوز الخمسين، وهي البكر الوحيدة التي تزوجها، وكانت أحب الخلق إليه، وأفقه نساء الأمة، وأعلمهن على الإطلاق، ومن وقف على سيرتها تأخذه الدهشة لذكائها وفطنتها وغزارة علمها وفقهها وسمو أخلاقها.
لقد كانت من اكثر الصحابة على الإطلاق رواية لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وروت وحدها أكثر من ثلاثة أضعاف ما روت بقية أمهات المؤمنين! وكانت بركة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة، وما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في لحاف امرأة غيرها، ونزل عذرها من السماء فاتفقت الأمة على كفر قاذفها، وكان الأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرجعون إلى قولها ويستفتونها، فقبح الله من ينال منها.
ثم تزوج بعدها حفصة بنت عمر لما مات زوجها رضي الله عنه، إكراماً لأبيها ومكافأة له على مواقفه في الإسلام، إذ كان وزيره الثاني بعد أبي بكر، وبعدها تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة الهلالية لما استشهد زوجها جبراً لخاطرها، ثم لم تلبث أن ماتت عنده، ولم يمت من أزواجه في حياته غيرها وغير خديجة رضي الله عنها.
ثم تزوج أم سلمة رضي الله عنها لما نات زوجها بعد أحد وترك لها أولادا أربعة، فتزوجها تكريماً لسابقتها ورعاية لأولادها، وكانت رضي الله عنها من مهاجرات الحبشة، وكانت صاحبة رأي سديد، فنفع الله به نبيه يوم الحديبية، وهي أكثر أمهات المؤمنين رواية بعد عائشة.
ثم تزوج جويرية بنت الحارث المصطلقية لما أُسرت مع قبيلتها، وكاتبت ثابت بن قيس الذي ملكها، ثم جاءت تستعين برسول الله صلى الله عليه وسلم في قضاء المكاتبة، فأعتقها وتزوجها تأليفاً لقلوب قبيلتها، وإيعازا للمسلمين أن يطلقوا سبيهم، وذلك أنه لما تزوجها قال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتقوهم، فكانت أيمن امراة على قومها، الذين أسلموا جميعاً بعد إطلاقهم وحسن بلائهم في الإسلام.
ثم تزوج زينب بنت جحش أو بالأحرى زُوِّجها، وذلك أن الله أراد إبطال عادة التبني عند العرب، فكان من حكمته أن يزوج النبي صلى الله عليه وسلم زيداً الذي تبناه لزينب، ولما استحالت العشرة بينهما لترفعها عليه في النسب وكان مولى، أمر الله نبيه أن يتزوجها لإبطال التبني: { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً }(1) ثم تزوج أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، والتي هاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله بن حجش، فتنصر هناك وهلك، لكنها صبرت على دينها رغم الغربة ورغم ردة الزوج، ورغم أن أباها كان العدو الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم لسنوات طويلة، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكافئها على مواقفها، ويواسيها في مصائبها، ويقطع الطريق على شماتة أعدائها، كما أراد أن يخفف من عداوة بني أمية للإسلام بمصاهرتهم.
ثم تزوج صفية بنت حيى بن أخطب زعيم يهود بني النضير، وكانت في سبي خيبر، فأسلمت، فأعتقها النبي صلى الله عليه وسلم وتزوجها حفاظاً على مكانتها وشرف نسبها، ولأنها اختارت الإسلام طواعية.
ثم تزوج بعد ذلك ميمونة لما مات زوجها، وكانت لها قرابة بالنبي صلى الله عليه وسلم وكانت معروفة بالصلاح والتقوى، وقد أشار عليه العباس بزواجها فتزوجها مواساة لفقد زوجها، واعترافاً بفضلها، وتحبيباً لقومها في الإسلام، وهكذا تبين حقيقة مقاصده من الزواج وهي نفس مقاصد الشريعة، من تأليف قلوب الناس واجتذابهم إلى الإسلام، ورعاية الأرامل، وتربية اليتامى، وحفظ تعليم الدين، وخاصة ما يتعلق بشئون النساء.
فقبح الله أقواماً يشغبون حول تعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ويتطاولون بالأراجيف الباطلة، والأكاذيب التي تزعم أنه صلى الله عليه وسلم ـ وحاشاه ـ كان يبحث عن المتعة!.
لقد عزف النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المتعة ـ مع كونها مباحة ـ وهو شاب، إذ لم يعدد إلا بعد تجاوز الخمسين، فكيف يغرق فيها وهو شيخ ؟ وأين مكان المتعة في حياة رجل لم يسترح يوماً من عناء الكفاح الموصول، والجهاد المضني، ثم أين مكان المتعة وقد كان يعيش في زهد وشظف حتى ضاقت بذلك نساؤه فاعتزلهن شهراً، حتى خيرهن الله بين البقاء معه على هذا الحال من شدة العيش وخلاف الرفاهية، أو الطلاق وأخذ حقوقهن، فاخترن كلهن البقاء في عصمته، طاعة لله ورسوله، ورغبة في الدار الآخرة.
إن حملة الرسلات الإنسانية المحدودة تعييهم هموم العيش ومشكلات الشعوب، فلا يحظون بساعة راحة إلا ليستجموا قليلاً، ثم ينهضوا لاستئناف اللغوب