ــ صباح الخير يا أمي السعدية. شاي وخبز، أرجوك.
ـــ صباح الخير يا أمي السعدية. حساء ساخن ورغيفان.
هكذا ينادونها عند كل صباح، عندما تبزغ أولى خيوط الفجر البيضاء. تراهم جماعات أو فرادى يسلكون مسلك فرن أمي السعدية ومائدة أمي السعدية… كل من جهته يحاول أن يضمن لنفسه مكانا قريبا من الفرن والحساء وأيضا الانتعاش بكلام أمي السعدية الطيب والساذج. تراها عن بعد، تخدعك بنيتها القوية والمتينة، التي ربما اكتسبتها من خلال هذا العمل العضلي الذي تمارسه من سنين، لكن ملامحها الباهتة تناديك وتزرع في روحك الشفقة والسؤال.امرأة تجاوزت الأربعين من عمرها، تحمل ركاما من القهر والبؤس استحالت إلى تجاعيد محفورة على وجهها و يديها.غطت رأسها بغطاء متآكل لا لون له. استوطن جسدها لباسا قديما يسترها من غضب الطبيعة ومن عيون الناس تراها كل يوم إذا كنت من المستيقظين باكرا، تجر عربتها البئيسة المملوءة بقليل من الأواني وثلاثة كراسي مرتبة أحسن ترتيب تلمع كالّذهب. تقف مرات عديدة لتستريح وتعاند الزمن والطريق وتدفع عربتها من جديد حتى تصل إلى مكانها وتسند جسدها الهالك على الحائط حتى تلتقط أنفاسها الضائعة. وتقوم وتزرع البسمة والضحكة بين كل الوافدين عليها. حتى هناك من ينسى تعب رجليه من الانتظار ويتناول فطوره مع ابتسامة أو قهقهات متتالية. ولا تكف عن الضحك والتنكيت..وبين الفينة والأخرى تعدل من غطاء رأسها الباهت وتفرك يديها من شدة البرد وتعود لاستقبال زبنائها والحديث مع جيرانها من سائقي التاكسيات وبائعي السجائر،
كل حركة من جسمها تفرز تحديا للطبيعة وللزمن وتعاطفا مع من ليس معهم نقودا. تقول لهم دائما:"قل باسم الله واشرب حساءك وبعدها آتني بالفلوس"، حتى حصلت ثورة في المكان الذي كان حكرا على الرجال، وتحول إلى تجمع نسائي تقصده النساء أيضا عند بداية كل يوم جديد.وما إن تشير الساعة إلى العاشرة صباحا، حتى تراها تستعد للعودة إلى بيتها بنفس القوة والابتسامة اللتين بدأت بهما يومها، تحيي زملائها وتجر عربتها لملاقاة فجر آخر لا ينتهي. يكون دائما بجوارها طفل يبيع السجائر، جميل الشكل وهادئ الطبع. أحيانا يقترب منها وأخرى تنادي عليه وتنعم عليه بفطور ساخن. يلتهمه بسرعة شديدة و يقول لها: "الله يخلف يا أمي السعدية"، تعرض عليه المزيد ويرفض.ويعود إلى شجرته وسجائره في انتظار بعض الدراهم.
تصل أمي السعدية إلى بيتها الموجود في أسفل العمارة، تنزل درجات سلم بئيس ومتآكل بخطوات متثاقلة وحذر، حتى لا تنزلق رجلها كما حصل لها في المرات الفائتة. فهي ما تكاد تصل إلى أول درج حتى تبدأ في ترديد آيات قرآنية وتتكئ على الحائط المظلم. تدخل بيتها الصغير والضيق فتتجه إلى ركن مظلم وتضع حاجياتها وتستلقي على سرير لامس الأرض وفقد سمكه من كثرة النوم عليه، تحرسه شمعة بيضاء رغم احتراقها ليل نهار. في الجانب الآخر من الغرفة أواني بسيطة ومرتبة بشكل دقيق قرب حائط به نتوء تخدش العين. وبعض الملابس المركونة فوق درج وحيد يقترب من السقف. ما إن تطرد عنها التعب حتى تقوم تنير شمعتها وتشعل فرنها اليدوي وتبدأ في تحضير وجبة الغد. حضرت في اليوم الموالي كعادتها محملة بفرنها الصغير وفطورها الساخن، وسط زوبعة من الأمطار والرياح الهوجاء. استرجعت قوتها الضائعة ودأبت على ترتيب مائدتها. وكانت بين الفينة والأخرى تترك جسدها يسترخي على الحائط و تغفو تاركة الحساء فوق النار منتعشة بحرارته و لذته.
اكتظ المكان بضجيج السيارات والزبناء المهرولين لوظائفهم، الراغبين في حساء ساخن وكؤوس شاي منعنعة وأرغفة تشبع البطن وتبعد البرد. استنفدت أمي السعدية كل قوتها واحتمت من جديد بالحائط صامتة لا تشارك زبنائها كالعادة حديثهم و لا تسكر المكان بضحكاتها ونكتها الظريفة. أيقظتها يد زبون، اقترب منها وسألها :
ما بك اليوم يا أمي السعدية؟
ارتسمت على شفتيها ابتسامة شاحبة واعتدلت في جلستها وأجابت بصوت ضعيف:
أشعر فقط ببعض التعب ياا بني.
أكيد أن قلة النوم والاستيقاظ المبكر يرهق الجسد..
حاولت أن تعيد الحيوية لجسدها الهالك وتطرد عنه ملامح الحزن، ابتسمت وقالت بصوت واهن:
لا أظن يا ولدي، لقد اعتدت على هذه الحياة منذ مدة. إنه تعب السن.
ودفعت من فمها الشاحب بعض الضحكات المتقطعة وأخذت تستجيب لطلبات الزبائن من جديد. سلم عليها الزبون السائل وقال لها:
إنك مازلت شباب. لا تحرمينا من روحك المرحة.
وودعها بابتسامة مقتضبة. وتركها منغمسة في عالمها الكئيب، فاقدة لكل المرح المعهود. منذ ولجت أمي السعدية المكان وهي تسقيه مع كل فجر جديد بقصصها القصيرة والمضحكة وحديثها الطيب والمرح حتى إن كان أحد من جيرانها منعزلا أو صامتا، تهاجمه بحسن الكلام وتنزع عنه الأوجاع.