إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد فى الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبيا عن أمته ورسولا عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من استن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد ..
فحياكم الله جميعاً أيها الأخوة الأخيار وأيتها الأخوات الفاضلات، وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الحليم الكريم وجل وعلا الذى جمعنا فى هذا البيت المبارك الطيب على طاعته، أن يجمعنا فى الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى فى جنته ودار كرامته، إنه ولى ذلك والقادر عليه.
أحبتى فى الله:
يوم أن أنحرفت الأمة عن كتاب ربها وسنة نبيها وقعت فى هذا الانفصام النكد بين منهجها المنير وواقعها المؤلم المرير، فلقد شوه المسلمون الإسلام بقدر ما ضيعوا من تعاليميه وحقوقه، وابتعدوا عن المصطفى بقدر ما ضيعوا من سنته وأخلاقه، والداعية الصادق الأمين- أسأل الله أن نكون منهم بمنه وكرمه- هو الذى لا يغيب عن أمته ولا تغيب عنه أمته بآلامها وآمالها. ولو قلبت صفحات التاريخ كلها لن نجد فيها زمانا قد ضاعت فيه حقوق الإسلام كهذا الزمان وهذه الأيام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، فأحببت أن أذكر أمتى لعلها أن تسمع من جديد عن الله عز وجل، ولعلها أن تسمع من جديد عن رسول الله ، ولعلها أن تحول هذا المنهج المنير فى حياتها إلى منهج حياة وتردد مع الصادقين السابقين الأولين قولتهم الخالدة: { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (285) سورة البقرة.
فتعالوا بنا أيها الأحبة الكرام لنتعرف على حق الله جل وعلا، ونحن اليوم على موعد بحول الله ومدده وطوله مع اللقاء الثانى، ولا زال حديثنا ممتدا عن حق الله جل وعلا، وقد بين لنا حبيبنا حق الله بجلاء كما فى حديثه الصحيح الذى رواه البخارى ومسلم من حديث معاذ بن جبل- - قال: كنت رديف النبى يوما
على حمار.
أى: كان معاذ بن جبل يركب خلف النبى على ظهر حمار واحد.
فقال النبى لمعاذ:" يا معاذ أتدرى ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟" قال معاذ: الله ورسوله أعلم، فقال المصطفى :" حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، حق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً" فقال
معاذ: قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس بذلك؟ فقال المصطفى : لا تبشرهم فيتكلوا" ([1]) .
وفى رواية: فأخبر به معاذ بن جبل عند موته تأثما([2]) أى خوفا من وقوعه فى الأثم، لكتمانه العلم عن النبى .
إذا فحق الله جل وعلا على عباده وعلى خلقه هو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وهذا هو موضوع لقائنا مع حضراتكم فى هذا اليوم الكريم المبارك: وكعادتنا فسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم بإذن الله جل وعلا، فى هذا الموضوع الجليل فى العناصر المحددة التالية:
أولاً:ما معنى العبادة؟
ثانياً:من نعبد؟
ثالثاً: لماذا نعبد الله؟
رابعاً:بماذا نعبد الله؟
وأخيراً:لا إفراط ولا تفريط.
فأعيرونى القلوب والأسماع جيداً أيها الأحبة الكرام، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (18) سورة الزمر.
أولاً: ما معنى العبادة؟
العبادة أصل معناها فى اللغة: الذل، يقال: طريق معبد أى: طريق مذلل قد وطأته الأقدام، لكن العبادة التى أمرنا بها تحمل معنى الخضوع والذل ومعنى الحب، فالعبادة لله هى كمال الذل مع كمال الحب لله جل وعلا.
وقد عرف العبادة شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه فقال: العبادة هى اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة كالصلاة والصيام والزكاة والحج وبر الوالدين والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والإحسان إلى الجيران، والإحسان إلى اليتيم، والإحسان إلى الأرملة والمسكين، كل ذلك من العبادة وحب الله ورسوله، والحب فى الله، والتوكل على الله والاستعانة والرجاء والتفويض والإنابة والخشية والمحبة والخوف، كل ذلك من العبادة ، فالعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
إذا أيها الأحبة فالعبادة تشمل الحياة بأسرها، فالعبادة تشمل الحياة بأسرها، فحياة المؤمن كلها عبادة إن صحت النية وكان العمل وإن كان موافقاً لهدى سيد البرية، تدبروا معى هذا الكلام النفيس.
أقول: حياة المؤمن كلها عبادة إن صحت النية وكان العمل، وإن كان موافقا لهدى سيد البشرية كما فى الحديث الصحيح الذى رواه مسلم من حديث أبى ذر- - أن ناسا من أصحاب النبى من الفقراء جاؤوا يوما إلى المصطفى وقالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور- أهل الدثور أى: أصحاب الأموال والغنى- ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلى ويصومون كما نصوم، ولكنهم يتصدقون بفضل أموالهم فهؤلاء هم الذين سبقونا بالأجر فقال المصطفى :" أو ليس الله قد جعل لكم ما تصدقون به أو ليس الله قد جعل لكم ما تصدقون به" اسمع ماذا قال عليه الصلاة والسلام قال:" إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهى عن منكر صدقة – اسمع- وفى بضع أحكم صدقة- أى فى جماع الرجل زوجته- وفى بضع أحكم صدقة" قالوا: يا رسول الله أيأتى أحدنا شهوته فيكون له فيها أجر؟! فقال:" أرأيتم لو وضعها فى الحرام أكان عليه وزر" قالوا : نعم قال: " ولو وضعها فى الحلال فله بها أجر". ([3])
فحياة المؤمن حتى لقاؤه مع امرأته عبادة إن صحت النية وكان العمل موافقا لهدى سيد البشرية ، وهذا هو مقتضى الإيمان أيها الأخيار الكرام.
فمقتضى الإيمان أن تكون حياة العبد كلها لله تبارك وتعالى مصداقا لقوله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (162 ، 163) سورة الأنعام .
فمتقضى الإيمان أن يسلم العبد حياته كلها لله جل وعلا؛ ليقودها الصادق المصدوق بوحى الله المعصوم. مقتضى الإيمان أن يقول الرب: أمرت ونهيت . وأن يقول العبد: سمعت وأطعت. مقتضى الإيمان أن يذعن العبد لله جل وعلا، وأن يمتثل أمره، وأن يجتنب نهيه وأن يقف عند حدوده تبارك وتعالى، وهو فى غاية الحب لله، وفى غاية الرضا عن الله.
قال عز وجل فى علاه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (36) سورة الأحزاب. وقال سبحانه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء.
هذا هو مقتضى الإيمان أن يسلم العبد حياته كلها لله، ليقودها إلى الإيمان والأمان إلى الصادق المصطفى رسول الله بوحى الله المعصوم، ومن خلال هذا العرض السريع جدا- لأعرج على عناصر الموضوع كلها بإذنه تعالى- يتبين لنا أيها الفضلاء الكرام أن كثيراً من الناس قد انحرف عن حقيقة العبادة وصرف صوراً كثيرة من صور العبادة لغير الله سبحانه وتعالى، فمن الناس من صرف العبادة لغير الله بتحكيم غير شرع الله تبارك وتعالى، والإدغال والانقياد.
لأحكام مهازيل البشر ممن تتحكم فيهم الأهواء والنزوات والشهوات والرغبات، والله جل وعلا يقول: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (50) سورة المائدة. ويقول سبحانه وتعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (40) سورة يوسف.
فمن الناس من انقاد بشرع مهازيل البشر ولم يذعن ولم يذل ولم يخضع لشرع خالق البشر جل وعلا، وظن هؤلاء المساكين أنهم يوم أن نحوا شريعة رب العالمين وشريعة سيد المرسلين وحكموا شريعة مهازيل الخلق، وظنوا أنهم قد ركبوا قوارب النجاة، ظنوا أنهم قد ركبوا قوارب النجاة وسط هذه الرياح الهوجاء والأمواج المتلاطمة فغرقوا وأغرقوا وهلكوا وأهلكوا، شأنهم فى ذلك ورب الكعبة كشأن من يتأذى من رائحة المسك الفواح، ويسعد ويعيش على رائحة القذر والنتن فى المرحاض والمستراح، استبدلوا بالعبير بعرا وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقا محرقا مدمراً، فذلك الأمة وهانت يوم أن صرفت العبادة لغير الله فى إذعانها لشرع مهازيل البشر من خلق الله.
ولتنحيتها شرع الله ولشرع الحبيب رسول الله فى الوقت الذى نرى فيه الأمة، فى هذه الأيام على أعلى مستوى تحتفل بذكرى المصطفى، وهى التى نحت شريعته واستهزأت بسنته وصبت جام غضبها على من وحدوا الله واتبعوا الحبيب رسول الله ، وأنها أمة لا تحسن إلا الدجل، إلا من رحم ربك من أفراد أمة تحتفل بالنبى وهى التى نحت شرع النبى واستهزأت بسنة النبى وصبت جام غضبها على المتبعين لهدى النبى ، فأى احتفاء هذا أى احتفال؟ إنه الكذب، ونسأل الله أن يرد الأمة إلى الحق ردا جميلاً وإلى هدى المصطفى إنه ولى ذلك مولاه.
ومن الناس وهذا هو الصنف الثانى من صرف العبادة لغير الله فى كثير من صورها، فذبح لغير الله ونذر لغير الله، وحلف بغير الله واستعان بغير الله، واستغاث بغير الله ولجأ إلى غير الله، وفوض الأمور إلى غير الله، وإن الملايين المملينة مما ينتسبون الآن إلى الأمة ممن يذهبون إلى الأضرحة والقبور لمن أعظم الأدلة على ما أقول، فإنهم يرددون قولتهم الخبيثة: إذا تعسرت الأمور، فعليكم بأصحاب القبور. تعالى من بيده البعث والنشور، وهو الذى يقول: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} (62) سورة النمل.
هل يجيب المضطر إذا دعاه نبى أو ولى لا والله، لا يجيب المضطر إذا دعاه إلا الرب العلى الذى لا يغفل ولا ينام، وهو الحى الذى لا يموت.
فأيها المسلم لا تسأل نبيا ولا تسأل ولياً وسل الحى الذى لا يموت فهو بيده الأمر كله صاحب الضر والنفع {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} (17) سورة الأنعام. فمن الناس من صرف العبادة لغير الله، وقال: إن للكون أقطابا وأوتادا وأبدالا وأولياء، تدبر نظام الكون وتسيير شئونه، والله جل وعلا يقول: { إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } (154) سورة آل عمران. ويخاطب ربنا أحب الخلق إليه وأشرف الخلق وأفضل الخلق لديه، يخاطب سيدنا المصطفى، يقول له ربه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } (128) سورة آل عمران. الله.
انظروا إلى جمال التوحيد {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } ، بل ويخاطبه ربه ويخاطب الأنبياء من قبله، ويقول سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} (65، 66) سورة الزمر. أمر رب العالمين لسيد المرسلين .
ومن الناس- وهذا صنف ثالث- عبد الله جل وعلا وحده لا شريك له ولكنه عبد الله بغير هدى المصطفى رسول الله، عبد الله بالبدع، عبد الله بالضلالات، عبد الله بالعادات التى توارثها الأجيال عن الآباء والأجداد، وهذه العبادة أيضاً مردودة على رأس صاحبها، ولو ابتغى صاحبها وجه الله جل وعلا، لأنه لابد أن تكون العبادة خالصة لله، وأن تكون العبادة موافقة لسنة الحبيب رسول الله ، قال جل فى علاه، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (110) سورة الكهف.
وفى الصحيحين من حديث عائشة أنه قال: "من أحدث- أى: من ابتدع أى: عبد الله فى دين الله ببدعة- من أحدث فى أمرنا- أى: فى ديننا- هذا ما ليس منه فهو رد"([4]) أى مردود على رأسه، لا قبول
له من الله جل وعلا؛ لأن الله لا يقبل العبادة إلا إذا كانت خالصة على هدى حبيبه المصطفى.
ومن- الناس وهذا هو الصنف الرابع- من فهم العبادة فهماً مبتورا ناقصا جزئياً، فالعبادة عنده لا تتجاوز ولا تتعدى الشعائر كالصلاة والصيام والزكاة والحج، فهو يصلى فى المسجد، ويحج بيت الله الحرام، ويؤدى الزكاة، ويصوم رمضان لكن إن تجاوز هذا المسلم المسجد ترى شخصية أخرى، وترى إنساناً آخر فامرأته متبرحة وبناته متبرجات يتعامل بالربا، لا يؤدى حق جيرانه، لا يؤدى حق والديه، ترى شخصية مختلفة تماماً عن الشخصية التى تراها فى المسجد.
لماذا؟ لأنه فهم من العبادة فهماً مبتورا ناقصاً، فالعبادة كما أقول تشمل الحياة كلها، فبر الوالدين عبادة، والإحسان إلى اليتيم عبادة، والإحسان إلى الجار عبادة، والصدق فى الكلام عبادة، والوفاء بالوعد عبادة، والوفاء بالعهد عبادة، وأداء الأمانات عبادة، والإخلاص فى القول والعمل عبادة، والابتسامة فى وجه المسلم عبادة، المصافحة للمسلم عبادة، والسلام على المسلم عبادة، وغض البصر عن المرأة المسلمة الأجنبية عنك عبادة، فالعبادة تشمل الحياة كلها، لكنه فهم العبادة فهماً مبتورا جزئياً ناقصاً ، فهى لا تتعدى المسجد، لا تتعدى الشعائر كالصلاة والصيام والزكاة والحج: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (85) سورة البقرة.
العبادة يا إخوة، ليست أمراً على هامش الحياة، بل هى الأصل الأول الذى من أجله خلق الله الحياة، بل هى الأصل الذى من أجله خلق الله السماوات والأرض والجنة والنار، ومن أجل العبادة أنزل الله الكتب وأرسل جميع الأنبياء والرسل، تدبر معى قول الله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات إلا ليوحدون، فإن الله خلق الخلق سدى، بل خلق الخلق، ليعبدوه وبالألوهية يفردوه ويوحدوه، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ* مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } (56، 58) سورة الذاريات.
ثانياً: من نعبد؟
فالله جل وعلا وحده الذى يستحق أن نعبده هذا هو عنصرنا الثانى من عناصر اللقاء بإيجاز شديد جداً، فوالله إن كل عنصر من عناصر لقائنا اليوم يحتاج إلى لقاء، ولكننى لا أريد أن أطيل السلسلة، السؤال الآن من نعبد؟ وهذا هو عنصرنا الثانى
من نعبد؟
قد يبدو السؤال غريبا وعجيباً لأول وهلة، ولكن ستزول غرابتك ودهشتك أيها الأخ الكريم الحبيب الفاضل، إذا أن العالم كله يؤيد كماً هائلاً من العقائد الباطلة والتصورات الفاسدة، وأن الملايين المملينة الآن من البشر على ظهر الأرض تعبد آلهة كثيرة غير الله، آلهة وأرباب وأنداد وطواغيت تعبد الآن فى الأرض من دون الله.
ألم تعلم من يوم أن خلق الله الأرض منذ آمن نوح أن الشرك متأصل ومتجذر فى الأرض؟! فمن الناس من عبد الشمس من دون الله وهى من خلقه والقرآن الكريم يحدثنا عن الهدهد، هدهد سليمان الذى خرج يوما فى جولة استطلاعية دعوية، فرأى قوماً قد من الله عليهم بالملك والسلطان ورأى ملكة هؤلاء تتربع على كرسى عرشها، ومع ذلك مع هذا النعيم والنعم التى أسبغها اللله عليهم ظاهرة وباطنة، فإنهم يسجدون للشمس
من دون الله.
عاد الهدهد فى غضب شديد ينقل هذه الحادثة المؤلمة والواقعة المفجعة لنبى الله سليمان وهو يقول: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} (23) سورة النمل ويعلن الهدهد عن غضبه، ويقول: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} (24) سورة النمل ويعلن الهدهد توحيده لله ويعلن براءته من هذا الشرك الغليظ، فيقول الهدهد: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ*} (25، 26) سورة النمل . قوماً يعبدون الشمس التى خلقها الملك.
ومن الناس من عبد القمر والنجوم والكواكب، كقوم خليل الله إبراهيم، ومن الناس من عبد الجن، ومن الناس من عبد الملائكة، ومن الناس من عبد الحجارة
والتماثيل والأصنام.
ويقول أبو رجاء العطاردى كما فى الحلية لأبى نعيم بسند صحيح قال: كنا نعبد الحجر فى الجاهلية من دون الله فإذا مررنا على حجر هو أحسن من الأول، ألقينا الأول وعبدنا الثانى من دون الله، فإذا لم نجد حجراً، جمعنا كومة من تراب ، ثم أتينا بالغنم فحلبنا اللبن عليها وطفنا بها نعبدها من دون الله جل وعلا.
أنظروا إلى العقول عبدت الأصنام، عبدت التراب من دون الله جل وعلا آلهة كثيرة، ومن الناس من عبد الناس، من عبد البشر، فلقد عبد اليهود عزيراً ، ولقد عبد النصارى عيسى ابن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، والآن تعبد الطواغيت فى الأرض فى كل مكان ، إلا من رحم ربك جل وعلا، تعبد القوميات وتعبد الأيدولوجيات وتعبد النظريات وتعبد الأفكار من دون العزيز الغفار.
يقول قائل:
هبونى عبدا يجعل العـرب أمة وسيــروا بجثمانى على دين برهم
سلام على كفر يوحــد بيتنا وأهــلا وســهلا بـعده بجهنم
طواغيت تعبد فى الأرض من دون الله جل وعلا، واليوم فى عصر الذرة فى عصر الحضارة فى عصر العلم، تعبد البقرة من دون الله، البقرة تعبد فإن فى الهند اليوم حتى هذه اللحظة التى أتكلم فيها ما يقرب من نصف مليون بقرة تعبد من دون الله جل وعلا. يقول زعيم الهند الكبير غاندى الذى يكرم على أعلى مستوى يقول: إنه سيظل على عبادة البقر أمام العام أجمع ثم قال أن أمه البقرة أحب إليه من أمه التى ولدته، لأن أمه البقرة لا تطالبه بحقوقها مثل أمه التى ولدته فإنها تطالبه فى الرعاية.
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (113) سورة التوبة إن خطر الشرك عظيم، فإن الله سبحانه وتعالى يغفر أى ذنب إلا الشرك {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (65) سورة الزمر.
وفى الصحيحين([5]) من حديث ابن مسعود- - لما نزل قول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (82) سورة الأنعام . فشق ذلك على أصحاب النبى : وقالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ فقال المصطفى :" ليس هذا الذى تذهبون إليه، ألم تقرأوا قول العبد الصالح
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (13) سورة لقمان. فخطر الشرك عظيم.
فحين أقول من نعبد؟ فيجب علينا أن نجيب بوضوح كامل على هذا، والجواب متروك لك أيها المسلم ومتروك لك أيتها المسلمة من تعبد؟ تعبد من؟ هل تعبد الله جل وعلا؟ هل تصرف العبادة لله وحده ؟ وهل تنذر لله وحده؟ هل تطوف لله ببيت الله فى مكة وحدة أم تطوف بكل بيت وبكل قبر وتسأل غير الله وتستغيث بغير الله وتذبح لغير الله وتستعين بغير الله وتلجأ لغير الله وتفوض الأمر لغير الله؟
اصدق الجواب واعلم أن الله يعلم السر وأخفى. من تعبد؟ هل تعبد الله وحده لا شريك له؟ والله لو تخلى الخلق جميعا على ظهر الأرض عن عبادته واستكبروا عن عبادته سبحانه وتعالى، فإن الله غنى عن الخلق لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية بل إن الكون كله يعبده ويوحده، إن الكون كله يعبد الله، والله غنىً عن عبادتنا وغنىً عن طاعنتنا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ* إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} (15، 17) سورة فاطر .
الكون كله يعبد خالقه ويوحد خالقه ويسبح خالقه بتسبيح يجهله الخلق، فوالله كشف الله تسبيح الكون للإنسان لطاشت عقولنا، ماذا لو سمعت الجدار الذى تجلس إليه يسبح والنملة تسبح ولو سمعت الهدهد يسبح والدواب والهوام والحشرات والأشجار والأنهار والبحار. لو سمعت الكون كله من حولك يسبح لله؟ والله لطاشت عقولنا، لذا تدبر قول الله جل وعلا: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (44) سورة الإسراء. لماذا قال: إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا؟ ولم يقل: إنه كان عزيزاً حكيماً.
إنه كان حليما بكم إذ لم يكشف لكم تسبيح الكون من حولكم، غفورا لكم على غفلتكم وعنادكم مع الله كرمكم على الكون كله، فالكون كله يسبح، وأنت أيها الإنسان غافل عن ربك جل وعلا إنه كان حليماً غفوراً وتدبر معى قول الله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء*} (18) سورة الحـج.
والسؤال إذا كان الله غنياً عن خلقه وغنياً عن عبادتهم لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية، فهو القائل سبحانه فى الحديث القدسى الذى رواه مسلم من حديث أبى ذر:" يا عبادى إنكم لم تبلغوا ضرى فتضرونى ولن تبلغوا نفعى فتنفعونى، يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم مازاد ذلك فى ملكى شيئا، يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكى شيئاً([6]) الله غنى عن خلقه، وغنى عن عبادتهم، إذا كان الأمر كذلك فلماذا أمرنا الله أن نعبده؟
ثالثاً: لماذا نعبد الله جلا وعلا؟
فلماذا أمرنا الله أن نعبده وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر اللقاء، لماذا نعبد الله جلا وعلا؟ والجواب: لأن العبادة حق الله على خلقه، فليس بمستنكر أن يكون لله حق على الخلق، وإنما المستنكر والمستغرب أن يجحد الخلق حق لله علينا، "أتدرى ما حق الله على العباد؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" والجفاء والجحود أن يأسر الإنسان إحسان من أحسن إليه من البشر، إن أحسن إليك أحد الناس يأسرك إحسانه وتحبه، فأقول: من الجحود والجفاء أن يأسر إنساناً إحسان من أحسن إليه من البشر، وأن ينسى الإنسان إحسان وإنعام خالق البشر.
أيها الإنسان المغرور، أيها الإنسان الجحود.
أنظر إلى الكون كله لتتعرف على عظمة الله لتعبده، انظر إلى الكون كله لتتعرف على الله لتحبه، فمن عرف الله وأحبه وعلى قدر الحب تكون العبادة ويكون العمل، من عرف الله وأحبه كما ذكرت فى اللقاء الماضى لنظر من الكون كله من عرشه إلى فرشه، ومن سمائه إلى أرضه، أنظر إلى السماء وارتفاعها، وإلى الأرض وأتساعها، وإلى الجبال وأثقالها، وإلى الأفلاك ودورانها، وإلى البحار وأمواجها وإلى كل ما هو متحرك، وإلى كل ما هو ساكن، والله إن الكل يقر بتوحيد الله، ويعلن الشكر لله، ولا يغفل عن ذكر مولاه إلا من كفر من الإنس والجن، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أنظر إلى الكون لتتعرف على الله، لتحب الله بكل كيانك وقلبك لتعبد الله وأنت فى غاية الذل لله، وفى غاية الحب لله.
أخى:
يَدُ من التى خلقت السماء ورفعتها بلا عمد؟ يد من التى زينت السماء بالنجوم والشموع والكواكب والأقمار؟ يد من التى خلفت الأرض وأرستها بالجبال والأحجار؟ يد من التى خلقت فيها البحار والأنهار؟ يد من التى خلقت فيها الزهور والأشجار والثمار؟ يد من التى خلقت الإنسان فى أجمل صورة وأحسن تقويم؟ يد من التى امتدت إلى عين الإنسان فجعلتها فى علبة عظمية قوية متينة حتى لا تتعرض العين إلى الفساد ثم ظللتها بالرموش لتعكس الرموش أشعة الشمس عن العين حتى لا ُتؤذى ثم أحاطت العين بالأهداب حتى لا يتساقط العرق إلى داخل العين فتتلف، يد من؟
يد من التى خلقت وجعلت ماء العين مالحاً ألا وهو الدمع حتى تقتل الميكروبات التى تتسرب إليها من جديد؟ يد من التى جعلت ماء الأنف حامضا لتتعلق به الأتربة والميكروبات فلا تؤذى داخل الإنسان؟ يد من التى خلقت أذن الإنسان بهذا الجمال والإبداع والإتقان، وجعلت ماء الأذن مرا حتى لا تتسرب الحشرات إلى أذنك يا بن آدم وأنت نائم؟ يد من التى خلقت الفم بهذا الجمال والإبداع وجعلت ماء الفم حلوا حتى يتذوق الإنسان الطيب من الخبيث والطيب من الحار؟ يد من التى امتدت إلى كوز الذرة فرصت عليه هذه الحبات اللؤلؤية بهذا الإتقان والجمال والإبداع؟ يد من التى امتدت إلى سنبلة القمح فغلفتها بهذه الأغلفة الحصينة ومكنتها وحصتنها بشوك حتى لا تكون حبة القمح داخل الغلفة غذاء للطيور؟ وقد قدر الملك أن تكون غذاء لك أيها
الإنسان الجحود؟
والله لو أذن الله لحبة القمح أن تتكلم وأنصت إليها المخلصون لاستمعوا إلى حبيبات دقيقها داخل الأغلفة تقول: سبحان من جعلنى طعاماً لفلان أبن فلان، يد من التى امتدت إلى الماء العذب الفرات وإلى الملح الأجاج فجعلت بينهما برزخا وحجرا محجورا؟ يد من التى خلقتك أيها الإنسان وجعلت فى حلقك فى مكان يسمى البلعوم بوابة منيعة حصنية تسمى هذه البوابة بلسان المزمار، هذا اللسان لو تعطل لحظة عن وظيفته لهلكت أيها الإنسان الجحود ، فوظيفة هذه البوابة أنها تسد القصبة الهوائية عند البلع وتسد البلعوم عند التنفس ولو أخطأ هذا العضو لحظة لسقطت جرعة ماء أو لقمة صغيرة إلى مجرى التنفس ولو أخطأ هذا العضو لحظة لسقطت جرعة ماء أو قلمة صغيرة إلى مجرى التنفس لهلكت أيها الإنسان المغرور؟ يد من التى خلقت هذا الكون كله بما فيه من جماد وجمال؟.
لله فى الآفاق آيات لعل
ولعل ما فى النفس من آياته
الكون مشحون بأسرار إذا ما
قل للطبيب تخطفته يد الردى
قل للمريض نجا وعوفى بعد ما
قل للصحيح يموت لا من علة
بل سائل الأعمى خطا وسط الزحام
بل سائل البصير كان يحذر حفرة
وسل الجنين يعيش معزولا بلا
وسل الوليد بكى وأجهش بالبكاء
وإذ ترى الثعبان ينفث سمه
واسأله كيف تعيش يا ثعبان
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت
بل سل اللبن المصفى من بين
وإذا رأيت النبت فى الصحراء
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى
وإذا رأيت البدر يسرى ناضرا
وإذا رأيت النار شب لهيبها
وإذا ترى الجبل الأشم مناطحا
وإذا رأيت النار شب لهيبها
|
|
أقلها هو ما إلأيه هداك
عجب عجاب لو ترى عيناك
حاولت تفسيرا لها أعياك
يا شافى الأمراض من أرداك
عجزت فنون الطب من عافاك
من يا صحيح بالمنايا دهاك
بلا اصطدم من يا أعمى يقود خطاك
فهوى بها من ذا الذى أهواك
راع ومرعى من ذا الذى يرعاك
لدى الولادة ما الذى أبكاك
فسله من يا ثعبان بالسموم حشاك
أو تحيا وهذا السم بيملأ فاك
شهدا وقل للشهد من حلاك
فرث ودم من ذا الذى صفاك
يربو وحده فاسأله من أرباك
فاسأله من يا نخل شق نواك
أنواره فاسأله من أسراك
فاسأل لهيب النار من أوراك
قمم السحاب فسله من أرساك
فاسأل لهيب النار من أوراك
|
إن هذا الأله، ألا يستحق، ألا يستحق أن يعبد؟ ألا يستحق هذا الإله العظيم أن يعبد؟ والله إن الحلق ليجف وإن الفؤاد ليتمزق، وإن الكلمات لتتوارى على خجل واستحياء من الحليم الكريم الذى خلق لنا كل هذا ونحن نجحده، ونحن لا نفرده بالعبادة والطاعة والتوحيد، هذا الإله العظيم ألا يستحق أ، يعبد؟ ألا يستحق أن يوحد؟ ألا يستحق أن يطاع؟ ألا يستحق أن يمتثل أمره؟ ألا يستحق أن يجتنب نهيه؟ ألا يستحق أن نقف عند حدوده؟ ألا يستحق أن نطيع رسوله ؟ ألا يستحق هذا الإله العظيم
أن يعبد؟
لماذا نعبد الله؟ لأن العبادة حق الله علينا ثم لماذا نعبد الله؟ لماذا؟ لأن العبادة غذاء لأرواحنا، فبدونها سنموت، بدون العبادة سنموت، كما مات أهل الجسد الذين قتلوا الروح قتلا، ماتوا وهم يتحركون بين الناس، إن الإنسان جسد وروح، ومستحيل أن يعيش الإنسان حياة طيبة سعيدة بالبدن دون الروح.
وأنتم تعلمون أن الغرب قد أعطى البدن كل ما يشتهيه من طعام وشراب وشهوات ونساء وملذات وعلم وتكنولوجيا إلى آخره، أعطى الغرب البدن كل ما يشتهيه البدن، وبقيت الروح فى أعماق البدن، تصرخ تبحث عن دواء وغذاء فوقف الغرب أمام الروح عاجزاً لا يملك شيئاً، لأن الروح لا توزن بالجرام ولا تقاس الروح بالترمومتر الزئبقى، ولا توضع الروح فى بوتقة التجارب فى معمل كيمياء، أو فى معمل فيزياء، لذا وقف الغرب عاجزاً أمام الروح، إذ لا يعلم دواء الروح وغذاء الروح إلا خالق الروح جلا وعلا :{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (85) سورة الإسراء .
فوقف الغرب عاجزاً أمام الروح، يعيش فى ضنك. نعم: ونحن نتحدى من ينكر ذلك، يعيش الغربيون فى ضنك وشقاء، لماذا؟ لأنهم أعطوا البدن كل شئ وكل ما يشتهيه وبقيت الروح لم تأخذ شيئاً على الإطلاق، هى تنادى فى أعماق البدن تريد دواءها، تريد غذاءها تريد شرابها ودواءها وغذاءها وشرابها فى منهج خالقها وربها، وإن انتشار عيادات الطب النفسى وحالات الانتحار الجماعى والفردى فى الشرق والغرب لمن أعظم الأدلة العملية على ما يعانيه الغرب فى الجانب الروحى من قلق وشك وضنك واضطراب.
لا يمكن يا إخوة لطائر جبار أن يحلق فى الفضاء بجناح واحد، ولو نجح فى ذلك لفترة وإن طالت حتماً سيسقط لينكسر جناحة الأخر، فالإنسان يعيش بين هذين الجناحين، بين جناح الروح وجناح البدن، بل إن الروح هى الأصل؛ لأن الروح هى التى تحمل البدن.
سئل الشافعى- - يوما: هل الروح هى التى تحمل البدن أم البدن هو الذى يحمل الروح؟ قال: لا بل إن الروح هى التى تحمل البدن بدليل أن الروح إن فارقت البدن وخرجت منه، وقع البدن جثة هامدة لا قيمة له إن لم يدفن فاح عفته ونتته، فنحن نعبد الله؛ لأن العبادة غذاء الروح، ومن عرف الله أحبه وشعرت روحه بالسعادة بل وشعر بدنه بالسعادة، لا يشعر المسلم بالأنس والسعادة إلا فى رحاب الله وفى ذكر الله وفى الصلوات لله، وفى طاعة الله، وفى السجود بين يدى الله قمة السعادة للمسلم من عرف الله أحبه الله.
قال أحد السلف: مساكين والله أهل الغفلة، خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا أطيب ما فيها قيل له: وما أطيب ما فيها؟ قال حب الله والأنس به، حب الله والأنس به، فنحن نعبد الله؛ لأن العبادة غذاء للروح.
رابعاً: نعبد الله طمعا فى جنته وخوفا من ناره:
وقد قال بعض المتصوفة إن عبادة الله طمعاً فى جنته وخوفا من ناره إنما شأن أجير السوء الذى إن أخذ الأجرة عمل وإن لم يأخذ الأجرة لم يعمل، وقد رد علماؤنا على هذا القول فقالوا: إن أعرف الناس بالله هم الأنبياء والرسل، ومع ذلك فقد عبد الأنبياء والرسل ربهم جل وعلا وسألوه الجنة واستعاذوا به من النار، فهذا خليل الله إبراهيم: {وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} (85 ، 87) سورة الشعراء . يسأل الله الجنة ويستعيذ بالله من خزى الآخرة.
وهذا سيد الموحدين وقدوة المحققين محمد بن عبد الله يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار بل ويأمر أمته فى كم هائل من الأحاديث الصحيحة أن يسألوا الله الجنة، وأن يستعيذوا به من النار.
وفى الحديث الجليل الجميل الرقيق الذى رواه أحمد والترمذى والبيهقى وابن حبان وأبو داود وغيرهم، وصححه شيخنا الألبانى فى صحيح الجامع من حديث أبى هريرة أن النبى سأل يوما صحابيا من أصحابه: " ماذا تقول فى الصلاة؟"- أى : ماذا تدعو أى: بماذا تدعو الله جل وعلا- فقال الصحابى: والله يا رسول الله إنى أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار فإنى لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ- الدعوات الجميلة التى تدعو بها أنت ومعاذ أنا لا أحسنها ولا أعرفها، إنما أدعوا الله بدعوتين أقول: اللهم إنى أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار فقال المصطفى : "حولها ندندن أنا ومعاذ"([7])، وفى رواية: " وهل نسأل الله إلا الجنة وأن يعيذنا من النار"([8])
وها هو الإمام ابن القيم بفهمه العالى يزيل هذا الإشكال بين الفريقين فيقول: لا إشكال بين من قال القول الأول وبين من قال القول الثانى، لكن الأمر يحتاج إلى توضيح فيقول: الخطأ من فهم الناس لحقيقة الجنة فهما خاطئا فهو يقول: الجنة مسماها ليس لمجرد الأشجار والأنهار والحور والقصور والذهب والفضة واللبن والخمر والعسل، وإنما مسمى الجنة الحقيقى اسم لدار النعيم المطلق الكامل، وأعلى درجات النعيم هو التمتع بالنظر إلى وجه الله جل وعلا، انظروا إلى الفهم، أصحاب الفريق الأول: إن كنا نعبدك طمعا فى جنتك فاحرمنا منها وإن كنا نعبدك خوفا من نارك فاحرقنا فيها، وإن كنا نعبدك لأنك تستحق أن تعبد فلا تحرمنا من النظر إلى وجهك الكريم.
يقول ابن القيم: نعيم الجنة الحقيقة هو التمتع بانظر إلى وجه الله الكريم وللك قال سبحانه: { وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ } (72) سورة التوبة جاءت لفظة الرضوان بصيغة التنكير فى سياق الإثبات أى: أن أى شئ من رضوان الله على عبده أكبر من الجنان وما فيها من نعيم.
ولله در القائل:
قليل منك يكفينى ولكن قليلك لا يقال له قليل
ولذا ثبت فى صحيح مسلم من حديث أنس عن النبى :" ينادى الله على أهل الجنة ويقول: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير فى يديك فيقول الله: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أدخلتنا الجنة ونجيتنا من النار فيقول الله جل وعلا: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقول الله جل وعلا: أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده أبدا"([9])
وفى لفظ: "فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجهه الله الكريم جل وعلا" أسأل الله أن يرزقنا الفهم والعلم والعمل وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين وأشهد لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد فيا أيها الأحبة الكرام:
أخيراً : بماذا نعبد الله جل وعلا؟
وعنصرنا الرابع بإيجاز شديد من عناصر اللقاء، بماذا نعبد الله جل وعلا؟ وفى كلمات نعبد الله بما شرعه فى قرآنه وعلى لسان نبيه ، نعبد الله بما شرعه فى قرآنه وعلى لسان نبيه ، فيقول ابن تيمية رحمه الله: وجماع الدين أصلان:
الأول: ألا نعبد إلا الله:
الثانى: ألا نعبده إلا بما شرعه على لسان رسول الله ، فيقول: هذان الأصلان هما تحقيق شهادة لا إله إلا الله وأن محمداً عبده رسوله، فبالشهادة الأولى يعرف المعبود، وبالشهادة الثانية يعرف الطريق الذى يوصل إلى المعبود تبارك وتعالى.
وفى الصحيحين أنه قال:" من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"([10]). فنحن نعبد الله بما
شرعه فى قرآنه وعلى لسان نبيه لذا يجب على كل مسلم أن يسأل العلماء قبل أن يعبد ربه جلا وعلا عن صحة العبادة، وعن هدى المصطفى فى العبادة، فربما كان العبد خالصا مخلصا لله فى عبادته ولكنه يعبد الله بالبدع وحينئذ يرد الله عبادته على رأسه لا يقبلها منه سبحانه وتعالى، وأرجئ الحديث فى العنصر الخامس إلى درس ما بعد الصلاة حتى لا أشق عليكم، أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم جميعا اصلح الأعمال.
اللهم ارزقنا الذل والحب إليك، اللهم املأ قلوبنا بحبك، اللهم ارزقنا حبك وحب من أحبك وحب كل عمل يقربنا إلى حبك، لا تدع لأحد فى هذا الجمع الكريم ذنبا إلا غفرته ولا مريضا إلا شفيته، ولا دينا إلا قضيته ولا ميتا إلا رحمته، ولا عاص بيننا إلا هديته، ولا طائعا إلا ثبته ولا حاجة لنا لك فيها رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها لنا يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل جميعنا جمعا مرحوما، وتفرقنا من بعده تفرقا معصوما، ولا تجعل منا ولا فينا شقيا ولا محروما، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سببا لمن اهتدى، اللهم احشرنا فى زمرة الموحدين، اللهم انصر المجاهدين فى كل مكان وأذن فى تحرير الأقصى بعظمتك يا رب العالمين، اللهم نسألك أن تجعل بلدنا مصر واحة للأمن والأمان وسائر بلاد المسلمين أنت وليه ومولاه.
أحبتى فى الله!
هذا وما كان من توفيق فمن الله وما كان من خطأ أو سهو وزلل أو نسيان فمنى ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
الدعاء....
(1) رواه البحخارى فى الجهاد والسير (2856) ومسلم فى الإيمان (30).
(2) رواه البخارى فى العلم (128) ومسلم فى الإيمان (32/53).
(1) رواه مسلم فى الزكاة (1006/53).
(1) رواه البخارى فى الصلح (3697)، ومسلم فى الأقضية (1718/17).
(1) رواه البخارى فى أحاديث الأنبياء (3429)، ومسلم فى الإيمان.
(1) رواه مسلم فى البر والصلة والآداب (2577/55).
(1) رواه أحمد (3/474)، وأبو داود فى الصلاة (792)، وابن ماجه فى إقامة الصلاة (910) وفى الدعاء (3847) وفى الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات.
(2) رواه أحمد (5/74) وأبو داود فى الصلاة 0793) وسند صحيح.
(1) رواه مسلم فى الجنة وصفة نعيمها (2829 /9).